الصحوة الإسلامية والسياسة في المنطقة العربية - مقالات
أحدث المقالات

الصحوة الإسلامية والسياسة في المنطقة العربية

الصحوة الإسلامية والسياسة في المنطقة العربية

أحمد بورزان:

 

على طريق البحث عن إمكانيات السياسة بعد الربيع العربي الذي هيمنت على جزء مهم من حراكه حركات الإسلام الأصولي، بتنويعاتها السياسية والجهادية، لا يمكن تجاوز نقاش أسباب صعود الظاهرة الإسلامية التي اكتسحت المنطقة العربية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.

وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين ثلاث فرضيات في التفسير:

1ـ الفرضية الجوهرانية

تنطلق الفرضية الجوهرانية من أن الفهم الأصولي للإسلام وإخضاع كل جوانب الاجتماع للشريعة هو جزء من الإسلام كدين، ولا سبيل لتغيير هذا الفهم بين معتنقي الإسلام. ولو صح هذا الفهم لانعدمت فرص ممارسة السياسة، بعيداً عن محاولات فرض إسلام سياسي استبدادي أو الخضوع لاستبداد يدّعي حماية الدولة والمجتمع من الاستبداد الديني القادم لا محالة لو تمكّنت الأغلبية الشعبية من فرض رؤيتها على السياسة.

مشكلة هذا الفهم أنه يجوهر وضع المنطقة السياسي كما ساد في العقود الأخيرة، بعيداً عن التغيّرات السياسية التي شهدتها هذه المنطقة، منذ تماسها في القرنين الماضيين مع الحداثة.

فإصلاحات التنظيمات في القرن التاسع عشر لم تهز عرش العثمانيين الذين استوردوا في تلك الفترة مفاهيم المواطنة الحديثة وأسقطوا الجزية وغير ذلك من مظاهر العلمنة المقننة. والدمشقيون انتخبوا الشيوعي خالد بكداش عضواً في البرلمان سنة 1954، وفضّلوا رياض المالكي البعثي اليساري في انتخابات البرلمان سنة 1957 على مرشد جماعة الإخوان المسلمين الشيخ مصطفى السباعي، رئيس كلية الشريعة والعضو السابق في البرلمان. أضف إلى ذلك المد الشيوعي والتقدمي الشعبي الذي شهده العراق والسودان وظفار وغيرها من الدول العربية قبل عهد الصحوة الإسلامية (1977-2017).

كما يتجاهل الطرح الجوهراني حراكيْ الجزائر والسودان مؤخراً واللذين شهدا نهاية سيطرة الإسلام السياسي على الحراك الشعبي في المنطقة.

تغفل الفرضية الجوهرانية أن التيار الإسلامي لم يظهر اعتباطاً في منطقتنا بل سُخّر لإيجاده زخم أيديولوجي وأمني ومالي. كما أوضح لوي ألتوسير، الأيديولوجيا ليست مجرد أفكار عائمة في عقول البشر، بل تحضر من خلال ممارسات أجهزة كالعائلة والتعليم والقانون والإعلام ودور النشر والتنظيمات والنقابات ودور العبادة.

في هذا السياق، كانت جهود أنظمة دولة العلم والإيمان ومعاهد تحفيظ القرآن الأسدية التي سخّرت الأجهزة الأيديولوجية في خدمة خطاب إسلامي مجافٍ للعلمانية ولكن محابٍ للسلطة، سيطر فيه أمثال محمد متولي الشعراوي ومحمد سعيد رمضان البوطي على الإعلام الرسمي الأيديولوجي فعلياً، مع قمع البدائل التقدمية.

ولا بد من الإشارة إلى انكماش الجهاز الأيديولوجي للإسلاميين مؤخراً بفعل التغيرات التي تشهدها منطقة الخليج والتي أدت إلى تراجع الدعم المالي والإعلامي والتنظيمي للتيار الإسلامي.

2ـ فرضية التحديث القاصر

هذه الفرضية تفترض أن إجهاض التحديث الاقتصادي أتى معه استمرار مركزية الانتماءات الما قبل حداثية، من قبيلة ودين وقرابة، في السياسة، مقارنةً بالانتماءات الحداثية كالطبقة والمواطنة. وبالتالي، فإن قصور الحداثة التي شهدتها المنطقة عن النجاح في التحديث الاقتصادي، يفسّر استمرار حيوية دور الانتماءات العصبوية ومنها الدين في السياسة.

ولدى مقارنة مناطق مختلفة من العالم، نلحظ وجود تناسب عكسي بين دور الدين وغيره من انتماءات أولية في نظم المجتمع وبين درجة تطوّر المنطقة الاقتصادي. ولا يمكن إنكار أن حجم دور الدِين في الحياة العامة ودرجة مواءمة ممارساته لقيم الحرية والمساواة في مكان ما يرتبط بالديناميات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية في هذا المكان. يمكن أن نقارن بين نسبة الإلحاد في السويد وبين نسبة القبلية والتديّن في أفغانستان.

إلا أن هذه الفرضية تتجاهل كسابقتها الحراك السياسي التقدمي في المنطقة قبل عهد الصحوة وشيوع الحركات التقدمية في مناطق ذات اقتصاد ثنائي متأخر كالعديد من دول أمريكا اللاتينية التي تشهد الموجة الوردية اليسارية. إذ أنّ التأخر الاقتصادي لا ولم يتعارض مع حضور مؤثر لقوى سياسية تقدمية.

كما يغيب عن مناصري هذه الفرضية أن صعود دور الهويات الثقافية من دينية وقومية في العالم قد سُجل في مناطق لم يعوزها التحديث. فقوانين مناهضة الإجهاض والمثلية وغيرها من سياسات محافِظة شهدت انتعاشاً في اقتصادات حديثة كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ودول أوروبا الشرقية كبولندا وهنغاريا.

أخيراً، لم يكن أعمدة الحركة الإخوانية في مصر وسوريا قاطنين في قرى نائية معزولة عن الحداثة. فمنهم مَن تعلم في الغرب وأكثرهم كانوا من نخب الطبقات الوسطى المتعلمة المدينية.

3ـ فرضية التضاد بين الرأسمالية وطبيعة الإنسان

الفرضية الثالثة هي فرضية التضاد بين الرأسمالية وطبيعة الإنسان ككائن اجتماعي. في كتاب "التحول الكبير" الصادر في أواخر الحرب العالمية الثانية، رصد كارل بولاني صعود الفاشية والاشتراكية ورأسمالية الرفاه كردود فعل حمائية ذاتية للمجتمع ضد مفاعيل الرأسمالية المنفلتة التي سادت العالم في عهد السلام البريطاني (1815 – 1914).

وإلى هذا التناقض يعود تأسيس الحركات الأصولية كالإخوان المسلمين في منطقتنا والهندوتفا المتطرفة في الهند في فترة ما بين الحربين العالميتين في ظل ضغط الاستجابة إلى أسئلة التحديث. فمع صعود الفردنة والرسملة وتخلخل البنى التقليدية الاجتماعية الناظمة للتجمعات البشرية، انهدمت صلاحية تنظيم الحياة على الأسس القديمة، وجاء البحث عن طريق جديد، فظهرت الحركات السياسية الإحيائية.

أطروحة كارل بولاني تعيننا في شرح صعود الحركات الإحيائية منذ ثمانينيات القرن الماضي كرد فعل اجتماعي على تمزيق الرأسمالية النيوليبرالية للروابط الاجتماعية وعملية تذرير المجتمعات المصاحبة لعصف تدفقات البضائع والأفراد ورؤوس الأموال، وإخضاع مجالات الحياة المختلفة -من طبيعة وغذاء وإقامة وعمل وصحة وتعليم وقرارات تشكيل الأسرة- إلى عملية توسع رأس المال والتسليع وقوى المنافسة الرأسمالية.

في عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية، خفف من حدة المفاعيل السلبية للتحديث صعودُ الدولة ودورها الاقتصادي والاجتماعي التكافلي ومشاريع العدالة الاجتماعية في الدولة الصناعية والنهضة في العالم الثالث. فالاستبداد والسجون الناصرية لا تشرح بمفردها تراجع الدعم والوجود الشعبي للإخوان في الستينيات في مصر مقارنة بأولى سنين الثورة وأربعينيات عهد حسن البنا.

مع الدخول في عهد النيوليبرالية في ظل تبدد الخيار الاشتراكي السوفياتي وتضعضع خيار رأسمالية الرفاه والتنمية الوطنية في معظم دول الجنوب، لم يبقَ بين خيارات بولاني الاحتجاجية إلا الخيار الفاشي وتنويعاته الدينية والقومية والإحيائية في أرجاء العالم من الهند إلى الشرق الأوسط وأوروبا فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان وغرباً أحزاب اليمين المتطرف الصاعدة، وإلى أمريكا دونالد ترامب و"الكيو أنون" وبرازيل جايير بولسونارو.

ردود الفعل الإحيائية على الضغوط الرأسمالية ليست فقط نتيجة الإفقار بل أيضاً نتيجة التذرير والاغتراب النفسي الذي قد يدفع كتلاً وازنة ليست فقيرة إلى تبنّي الخيار الإحيائي. وعلى مستوى النخب المسيطرة قد تُوظف أيديولوجيات الصفاء العرقي والديني لتعزيز هيمنة هذه النخب، كما في حالة الحزب الجمهوري في أميركا وفكرة "الحامي لأمريكا البيضاء من الملونين المغايرين لطبيعتها"، وكما يتضح في تحالف ناريندرا مودي المتطرّف الهندوسي ورجال الأعمال من أمثال غوتام أداني في الهند.

يُضاف إلى ذلك أزمة الدولة القومية في الغرب، ومعها أتى صعود اليمين الغربي وأزمات الهوية الوطنية، مع الهجوم النيوليبرالي على شبكات التضامن الاجتماعي وفرص الترفع الاقتصادي، وابتعاد مجتمعات أوروبا عن النموذج القومي المتجانس، مع موجات الهجرة التي ينجم كثير منها عن سياسات الإفقار والتبعية الاقتصادية للغرب والتي لم تستطع معظم دول الجنوب الإفلات منها.

ردود فعل البشر ككائنات اجتماعية على التذرير الاجتماعي والتهميش الاقتصادي بعيداً عن الخيار الاشتراكي الديمقراطي أو رأسمالية رفاه تشمل دول الشمال والجنوب، ظهر باختراع أو إحياء روابط اجتماعية كالدين والعرق ومحاولة إعادة إنتاجها ضمن الإطار الحداثي. بهذا المعنى، يمكن الحديث عن حداثة اليمين الإحيائي الروسي والهندوتفا وحركة الإخوان والدولة الخمينية الإيرانية. تتمرّد ردود الأفعال هذه على قيم التنوير المساواتية، إلا أنّ تصوراتها السياسية ونمط تنظيمها للحياة المعاد اختراعه، يسبح في فلك حداثي. فهي تنادي بتراتبيات مبنية على تصور مُحدث للتقليد والعرق والدين و"الثقافة المحلية" بدون أن تحرم نفسها من منتجات الحداثة كمؤسسات الدولة الوطنية والثورة العلمية والعقلانية الأدواتية والرأسمالية. وهذا ما أوضحته هبة رؤوف عزت في الحالة الإسلامية.

أحد أهم مكاسب تجربة الربيع العربي كان كسر هيمنة طروحات الإسلام السياسي في المنطقة. وفي صميم جدالات تلمّس الطريق بعد تراجع الإسلام السياسي، لا بدّ من بيان أسباب نشوء الظاهرة الإسلامية.

وبينما تشي الفرضية الجوهرانية الإشكالية باستحالة السياسة في المنطقة بعيداً عن ثنائية الاستبداد الإسلامي ومعارضه التسلط، لا تعني الوجاهة النسبية لفرضية التحديث الفاشل إعاقة إمكانية السياسة.

وتشير الفرضية الثالثة إلى الحاجة إلى حركة سياسية شعبية تدمج بين مطالب العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يستلزم السعي إلى نظام اقتصادي يكبح ما أمكن هيمنة رأس المال على كل شؤون الحياة، وإعادة تأصيل قيم التنوير على أساس المساواة، بعيداً عن فلسفة القانون الطبيعي وما شابهها من أصول ميتافيزيقية متهافته، والدفاع عن قيم العقلانية والكونية ضد أدبيات جوهرانية الهويات الثقافية.

وتبقى الخطوة الأصعب أمام النضال الديمقراطي لانتزاع السياسة والاقتصاد لمصلحة شعوب المنطقة، هي كسر احتكار النخب المسيطرة على السياسة، سواء في شكل نظام عربي قمعي أو ميليشيات مدعومة من قبل النظام الإيراني، آخر قلاع الإسلام الأصولي في المنطقة.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*