بين الدين والاقتصاد - مقالات
أحدث المقالات

بين الدين والاقتصاد

بين الدين والاقتصاد

محمد المحمود:

 

يعاني العالم العربي اليوم من تأزّمَات خانقة على مستوى الفعالية الدينية في الأغلبية الساحقة من مساراتها، وعلى مستوى الفعالية الاقتصادية في معظم مجالاتها أيضا. بل ربما لا تكون التأزّمات في هذين المجالين هُمَا الأشدّ أصالةً والأكبر تأثيرا فحسب، وإنما ـ أيضا ـ هُمَا الأساس الواقعي والنظري الذي تصدر عنه شتىّ أنواع التأزّم في سائر المجالات الأخرى التي ترتبط بهما على نحو مباشر أو غير مباشر، في راهن التأزم، وفي ماضيه القريب الذي يُحَال إليه غالبا.

كثيرون يعتقدون أن العالم العربي مشدود إلى قاع الفشل تحت وطأة أعباء هذين المجالين تحديدا. فباعتقادهم، لو حُلَّتِ الأزمة الدينية بِعَوَالِقها، وحُلَّتِ الأزمة الاقتصادية بِعَلائقها؛ لخرج العالم العربي من غياهب قرونه الوسطى؛ كأنْ لم يَغْنَ ـ جَهْلاً وفقرًا وتَخَلُّفا ـ بالأمس؛ وَلَبَدَأ يكتب تاريخَ تقدُّمِه بِخُطى واثقة؛ بل ـ كما يقول الحالِم الطوباوي حال تمدّده أحلامه بلا حساب ـ ربما دخل ميدانَ المنافسة؛ سابقا أو غير بعيد عن السبق؛ بما له من مُقَوِّمات إضافية داعمة: إِرْثٌ حضاري مجيد (= فقاعة أوهام نرجسية مُتَشَعْرِنَة)، و وَراهِن غَنِيٌّ: غَنِيٌّ بالموقع الاستراتيجي، وبالثروات الطبيعية، وبالفُتُوّة الديمغرافية (المبالغ فيها كثيرا، والتي تصبح في الواقع أعباءً ومُعوّقات حال غياب التدبير بمقتضى العقل المستنير)

في اعتقادي أن الأزمة ـ في جوهرها ـ مِن وراء هذين المجالين، أي هي في العقل العربي/ في نظام الوعي العام. صحيح أن الدّين مُشَارِكٌ أصِيلٌ في تحديد معالم هذا العقل، وصحيح أيضا أن البُنْيَة الواقعية بِمُحَدِّدَاتها الاقتصادية مُؤثّرة في تحديد معالم هذا العقل. ولكن، يبقى أن الدّين في عمومه المُتَجَمْهِر وَعْياً تَشَكَّلَ ـ تَأويلاً وتَفعيلاً ـ وِفْقَ مُحَدِّدَاتِ العَقْل السابق، وأن الفعل الاقتصادي كان يسبح في بُحَيرة هذا العقل السابق/ التقليدي، لم يستطع تجاوزها، ولا تجاوز العقل اللاّحق/ الديني الذي بقي ـ في معظم أحواله ـ مُسْتَعِيدا ومُؤكِّدا العقلَ السابق: نمط الوعي العشائري الانغلاقي التمايزي.

وهنا تأتي الأسئلة الإشكالية: هل يُمْكِن أن يكون نمط الوعي التقليدي (= الديني ـ العشائري) مُعِيقاً لفعالية الاقتصاد اللاَّتقليدي ؟ هل من الضروري الاشتغال على تغيير بُنْية الوعي في صورتها الأعمق/ الدينية؛ لِيَتَسنَّى لِمَجْرَى النهر الاقتصادي أن يشتغل بأقصى طاقاته ؟ وفي المقابل: هل التطورات المُوَجَّهة ـ سواء بقوة الإرادة الذاتية أو بقوة طغيان العولمة ـ مُؤثِّرة بعمق على أنماط التديّن ؟ وهل الأثر في هذا الاتجاه (= الديني في الاقتصادي) أو ذاك الاتجاه (= الاقتصادي في الديني) هو أثر ضروي أم احتمالي، وتحديدا في سياق الراهن العربي ؟   

طبعا، سؤال العلاقة بين الدين والاقتصاد ليس وليد الراهن. فهو سؤال استشكالي طرحه على نحو واضح وصريح ومؤكّد عالم الاجتماع الألماني/ ماكس فيبر، الذي تحدث بإسهاب عن الأخلاق البروتستانتية ودورها في ظهور/ تطوّر الرأسمالية. فالتحوّل في نمط التصور الديني المسيحي، من المسيحية الكاثوليكية التي ترى في الزهد قيمةً إيمانية، بمبرّر أن الدنيا دار عبور، دار صبر وامتحان وبلاء، لا دار سعادة وهناء، وأن السعادة لا تكون إلا في الدار الآخرة/ خارج هذا العالم...إلخ، وصولا إلى المسيحية البروتستانتية/ الكالفينية التي ترى القيمةَ في النجاح الدنيوي الآني، وأن هذا النجاح الدنيوي الناتج عن العمل الجاد وعن الادخار الواعي، هو مؤشر على رضا الله عن الإنسان، أي أن نجاح الإنسان المؤمن في الدنيا توطئة لنجاحه في الآخرة، وأن الله لا يحب الفقراءَ الأتقياء فقط، بل هو يحب أكثر وأكثر أولئك الأغنياء الأتقياء المشتعلين ذكاء وحماسا، الذين يحاولون تأسيس الفردوس على هذه الأرض للظفر بفردوس السماء.     

هكذا، يبدأ ماكس فيبر من الوعي/ من الدين إلى الواقع/ إلى الاقتصاد. هكذا، في علاقة سببية ضرورية أو شبه ضرورية. وهي علاقة  لمحها ماركس من قبل، عندما أشار إلى أن البروتستانتية دين برجوازي، وأن الرأسمالية لا يتعدى تاريخها/ ماضيها حدود القرن السادس عشر(= عصرالإصلاح الديني)؛ على الرغم من أن الماركسية تسير ـ تقليديا ـ في الاتجاه المعاكس: تبدأ من الواقع/ من الاقتصاد وصولا إلى الوعي، ومنه الدين/ نمط التديّن بطبيعة الحال.   

عموما، ليست الماركسية وحدها التي تعكس العلاقة الفيبرية بين الدين والاقتصاد. فكثيرون شكّكوا في أن تكون البروتستانتية المُسَبِّب الرئيس لظهور وتطوّر الرأسمالية، ورجّحوا أن العكس هو الصحيح، أي أن ظهور وتطور البروتستانتية لم يكن إلا استجابة لضرورات التطوّر الرأسمالي السابق عليها، أي أن التطوّر في المجال الديني (حركة الإصلاح البروتستانتي) صنعه التطوّر في المجال الاقتصادي، ثم اشتبك معه في تفاعل جدلي/ تبادلي؛ ليصبح المذهب الديني الجديد ينطق بلسان الواقع الجديد: يصفه أو يُبَرِّر له أو يُمَهِّدُ له الطريق

لهذا، عندما يغيب "التديّن المستنير" لصالح "التديّن السلفي التقليدي"، أي يغيب تديّن الفعل والإبداع؛ لصالح تديّن الكسل والاتباع، في العالم العربي، اليوم فما ذاك إلا لأن نمط الاقتصاد لا يزال هو نمط الاقتصاد التقليدي: اقتصاد الغنيمة، والرّيع، وهبات السماء؛ لا اقتصاد العمل، والإبداع، والإنتاج

قد تنجح التجارة (وهي نشاط طفيلي على عملية الإبداع والإنتاج) في العالم العربي؛ لأنها ابنة الغنيمة الجاهزة، وربيبة مصادفات الحظوظ العابرة؛ بينما يتأكّد فشلُ الصناعة ولواحقها من ضروريات الأعمال؛ لأنها عمل أصيل في الإبداع والإنتاج، ما يعني استحالة عملها في ظل ما نراه من هيمنة "التدين السلفي التقليدي" هيمنةً طاغية على الوعي العربي الراهن؛ حتى لدى هذه الأجيال الشابة العالقة بين وَعْي سابق و واقع راهن، والتي إن أرادت التديّن استجابة لضرورات الاحتياج الروحي؛ لم تتديّن إلا بوعي سلفي أثري. ومَنْ مِنها يرفض التديّن لهذا السبب أو ذاك فإنما يرفضه أيضا بوعي سلفي؛ في مسار اتباعي تفويضي في حالتي: القبول والرفض

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث