رحلتي كشيعي بين الإضطهاد والسجون المصرية - مقالات
أحدث المقالات

رحلتي كشيعي بين الإضطهاد والسجون المصرية

رحلتي كشيعي بين الإضطهاد والسجون المصرية

حيدر قنديل:

 

كلما قرأت عن اعتقال ناشط سياسي في مصر، وقع الخبر على قلبي كالجمرة الحارقة، إذ يجعلني أسترجع ذكريات المعاناة التي عشتها ولم أستطع التخلص منها حتى الآن.

كانت البداية عندما انتهيت من عملي في إحدى الصحف المصرية، وكانت تبعد عن منزلي مسافة 180 كيلومتراً. كنت أذهب للعمل يومياً لأتقاضى الفُتات نهاية كل شهر، لكن شغفي بهذا العمل دفعني للاستمرار. قبل يوم من رأس السنة 2020، عدت إلى منزلي سعيداً، بعدما حصلت على أجري الشهري واشتريت بعض الأغراض للمنزل. وبعد ساعتين من وصولي إليه، توجهت إلى غرفة نومي وعلى وجهي علامات التفاؤل والأمل بالمستقبل، حتى جاء ذاك الصوت الذي تهشمت كل أحلامي أمامه، كما يتهشم الزجاج الرقيق.

ليلة القبض عليّ

طرقٌ مفزع من رجال الأمن الوطني على الباب. ذهبت مسرعاً لأفتحه وأُبعد الفزع عن أذنَي طفلي الصغير. لم أكن أعلم حينها أني أفتح الباب أمام معاناة قادمة. في لحظة واحدة، كانت شقّتي قد اكتظت برجال الأمن الملثمين ومعهم ضابط أمن وطني. بدأوا بحملة تفتيش. توجهت مسرعاً نحو باب غرفة النوم لأمنح زوجتي بعض الوقت للنهوض وارتداء حجابها. بعد دقيقة واحدة، فتحت لهم باب الغرفة، فدخلوا وقلبوا عاليها سافلها، فما عاد شيء في مكانه، حتى أنهم فتشوا ملابسنا الداخلية.

بعد الانتهاء من ذلك، أخذوني معهم وبصحبتي المعدات: الكاميرات والعدسات والهواتف، واقتادوني في عربة الأمن الوطني وكانت "ميكروباص" أحمر اللون. في أثناء ركوبي "الميكروباص" شدّ أحدهم الشال الذي كنت أضعه على كتفي، وغطى عينيّ به، وقال إننا سنتجه إلى قسم الشرطة. لكن عندما تحركت العربة، وجدتهم يسيرون على طرق غير طرق القسم. وصلنا إلى أحد البيوت، حيث قبضوا على شخص آخر. بعدها بساعتين، وصلنا إلى مقر الأمن الوطني في مدينة طنطا، وأخذني أحدهم وأحكَم غمّ عينيّ، ووضع الكلبشات في يديّ وأنزلني عبر بعض درجات سلالم أحد المباني، وبعدها أوقفني وقال لي السجّان: "إنت هنا ملكش اسم... إنت رقم 10". دوّن اسمي في السجل الذي معه، وأخذ جميع متعلقاتي الشخصية، وأدخلني إلى إحدى الغرف معقّباً: "اخلع جزمتك واعملها مخدّة (وسادة)، ونم عليها". ثم حرر إحدى يديّ من الكلبشات وربطها بالحائط وتركني وذهب.

راح القلق يتسلل إلى جنبات قلبي، حتى كاد يقتلني. فأنا لا أعلم شيئاً عما ينتظرني. تحوّل الحائط بجواري من حائط في سجن إلى حائط مبكى، حتى غلبني النعاس.

في الصباح، تقدّم أحدهم نحوي، وركلني لأستيقظ وأنا لا زلت معصوب العينين، وقال لي: "قوم فطارك أهو"، ووضعه بجانبي وذهب. لكني من شدة قلقي لم أستطع تناول رغيف الخبز وقطعة الجبن تلك، ثم سمعت همهمات من حولي، فعلمت أن هناك أحداً داخل الغرفة معي. رفعت الغمامة قليلاً عن عينيّ، لأسترق النظر، فوجدت شخصين. كان أول سؤال مني إليهما: "إنتو هنا من إمتى؟". وجاء ردهم الصادم: "من 55 يوماً". ثم قطع أحدهم صمت صدمتي قائلاً: "متخافش كل واحد هنا ليه حالة خاصة"، ثم سكت.

هل يمكن لأفكارٍ تخطّى عمر بعضها الألف سنة، أن تتحكم بمجرى حياتنا اليوم؟ بالطبع لا. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

ظللت مدةً أفكر: لماذا أنا هنا؟ وماذا اقترفتُ يا تُرى ليكون جزائي أن أُلقى على هذه الأرض شديدة البرودة بهذا الشكل؟ ما الذي ينتظرني في الخارج؟ وهل استطاع أهلي معرفة مكاني أم لا؟ ظللت هكذا إلى أن حان وقت أذان الظهر، وأتى أحدهم وصاح قائلاً: "السجين رقم 10، تعال الضابط عاوزك". وقام بفك الكلبشات من الجدار واصطحبني حافي القدمين وأدخلني إلى إحدى الغرف، وكان فيها شخصان، تحدث أحدهما إليّ وقال: عرِّفني بنفسك، وقل لي: "متى اعتنقت التشيّع؟"، فأجبت: "منذ صغري وأنا على هذا المذهب، ولا أعرف غيره".

هكذا وُلدتُ شيعياً

هذا هو واقع الأمر. وُلدت في أسرة كانت قد اعتنقت المذهب الجعفري في ثمانينيات القرن الماضي، بعد رحلة بحث مرّت خلالها بالكثير من المذاهب، والتحقت بالعديد من الجماعات الإسلامية. كان والدي أول متشيّع في أسرتي، بالرغم من أنه نشأ في أسرة سنّية تدور في فلك جماعة الإخوان المسلمين، وبالرغم من أنه انتمى في مرحلة ما إلى جماعة التكفير والهجرة، وكان شخصيةً قياديةً فيها.

قال لي المحقق: "طيّب... احكيلي بقى قصة حياتك من ولادتك لحد النهار ده"، فقصصت عليه بعض المحطات من حياتي وأخبرته بأنني تعرضت للتهديد بالقتل أكثر من مرة من قِبل بعض الجماعات الإسلامية في مصر، وبعدها أخرجني من الغرفة ثم أدخلني مرةً ثانيةً بعد دقائق عدة، وطلب منّي أن أُعيد ما قلت، ورويته له مرةً أخرى، حتى حلّ أذان العشاء، فسألته: "هو أنا هخرج من هنا إمتى؟ وأنا عملت إيه عشان أكون هنا؟"، ليأتيني الرد من أحدهم: "إحنا اللي نحدد هتخرج إمتى وعملت إيه".

اصطحبني السجّان ليُنزلني إلى الغرفة مرةً أخرى، فجال في خاطري أن أُضرب عن الطعام حتى أخرج إلى النيابة أو يطلقوا سراحي. وبدأ أُناس آخرون يفدون على الغرفة كل ليلة، وأنا لا جديد يطرأ عليّ، فبدأت بالإضراب. وفي أثناء الحديث مع رفاقي في الغرفة، علمت أن أحد الذين بيننا جريمته القتل، بعدما قتل أحد المتحرشين في قريته بسبب اغتصابه أحد أقاربه، وقد حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وقضاها بالفعل، لكنه هنا لأنهم خائفون من أن يكون تابعاً لإحدى الجماعات الإسلامية. والآخر قال: "كنت في عام 2014 معتقلاً سياسياً وخرجت ومتكلمتش تاني في السياسة لكنهم خدوني مع إني في متابعة مع الأمن". كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة "متابعة الأمن". استفسرت منه عن معناها، فقال لي: "إنت لما تخرج تيجي الأمن كل أسبوع يوم، والضابط بيحدد إذا كنت ترجع بيتك ولا تبات في القسم"، فسألته: "هل كان ذلك في أثناء تنفيذ الحكم؟"، فقال: لا، وكانت تلك صدمةً جديدةً لي.

ثم أعطاني أحدهم مصحفاً، وقال لي مازحاً: "لو شفت حلم وإنت نايم لازم تحفظه لأنه ممكن يكون علامة على خروجك". في تلك الليلة رأيت في منامي الشيخ محمد الليثي النمر، وهو رجل دين كان قد انتقل من محافظة المنوفية إلى مدينة طنطا، وكنت على معرفة شخصية به، وأتردد عليه لأتعلم منه أمور الدين، وكان رجلاً عرفانياً تعلّمت منه أنا وأسرتي بعض قواعد علم العرفان، فتفاءلت بذلك الحلم، وشعرت بأنه رسالة طمأنة لي.

في الزنزانة، عندما كان يطلب أحدهم أن يذهب إلى دورة المياه، كان السجان ينهال عليه بأسوأ الشتائم. في المرة الأولى التي طلبت فيها أن أذهب إلى دورة المياه، قام السجان بفك الأصفاد من يديّ، بعدما طلبت وألححت في طلبي وتحايلت عليه لمدة نصف ساعة على الأقل. في أثناء دخولي، سمعته يسبّ أمي وكِدتُ أن أرد عليه، لكني قلت في سرّي إن ذلك ليس من الحكمة في شيء وسكتُّ. نفّذت الإضراب عن الطعام لمدة خمسة أيام، وكان ذلك مفيداً حقاً في جعلي غير محتاج إلى دخول دورة المياه كثيراً، لكنه لم يكن مفيداً لي في تغيير وضعي نحو الأفضل.

في اليوم نفسه، كان بيننا شخص مريض بالسكري. كان يعاني وظل يُلحّ لأكثر من ساعة كي يدخل الحمام، ولم يستجب له أحد، فاضطر إلى أن يفعل ذلك في إحدى زجاجات المياه. أجبره السجان على أن يعيد استخدامها للشرب بعد ذلك.

تكيّفنا على هذا الوضع: تمتلئ الغرفة بالمعتقلين وتفرغ منهم مرات عدة. وبعد مرور 50 يوماً على اعتقالي، قررت أنني عند بلوغي اليوم المئة، سوف أنهي حياتي، فأنا أمرّ بأيام ثقال، ولا أعلم ما هي قضيتي، ولا إلى متى سأظل هنا. كان في داخل الحمام سلك من الكهرباء أسفل "الدش"، وكانت خطتي أن أقطعه وأنا أستحمّ حتى أموت بشكل سريع، ولا يتمكن أحد من إنقاذي. بدأت أستعد لذلك اليوم، فكنت أصوم في معظم الأيام، وكان ذلك صعباً لأن الصيام كان بإذنٍ من الضابط، لذا كنت لا أخبر أحداً بأني صائم أو بأني نويت الصيام وظللت مدةً على تلك الحال.

"لو الزمالك خسر... هخرّجك اليوم"!

كنت أقضي أيامي في الغرفة بين رفاقي أهوّن عليهم تلك الأيام، وأُخبر الوافدين الجدد بأنهم سيخرجون قريباً وكان شكلي مثل أصحاب الكهف، فملابسي شديدة الاتّساخ وشاربيّ طويلان ولا أستطيع الأكل بحرية بسببهما. في أحد الأيام، حلمت بأنني أشتري "عدسة 85"، من إحدى الفتيات المسيحيات، وقال لي شخص معي إن المسيحية في الحلم نصر.

في اليوم نفسه، رأيت الضابط يمر، فسألته متى سوف أخرج، وقال: "لما يوصل شعر ذقنك لحد بطنك ممكن تخرج"، وضحك ثم مشى. بعد أيام من ذلك، طلبت من السجان أن أتحدث إلى الضابط، فأخذني إليه وسألته ثانيةً متى سوف أخرج؟ فقال لي بغير اكتراث، إذ كان يشاهد مباراة الزمالك وطنطا: "لو الزمالك خسر هخرّجك اليوم". كنت أتخيل أنه يهزأ مني، وبعد ساعة طلبني فذهبت إليه وقال لي: "كان نفسي تخرج بس الزمالك كسب". صدمني بكلامه، إذ لم أتوقع أن يسير الحوار على هذا الشكل، وبعدها بأيام عدة كانت السماء تمطر بغزارة وكنت أستمع إلى صوت المطر وأدعو الله أن يساعدني ويصبّرني على هذا البلاء، وأن يربط على قلب أمي وأهلي أجمعين.

استمرت معاناتي حتى اليوم الـ85، يوم النعيم بالنسبة لي. أخذني السجان معصوب العينين، وأخرجني من المبنى وقال إنني سأُعرَض على النيابة اليوم. قلت في سرّي إن خروجي من هذا المكان بداية انفراج كربي، وكنت فرحاً جداً، وعند ركوبي سيارة الترحيلات، كان هناك عسكري قال لي إن بإمكاني رفع الغمامة حتى نصل إلى المحكمه، فرفعتها، وظللت أنظر إلى الشمس والناس في الشارع بفرحة عارمة، وكأني أنظر إلى الجنة ولم أتخيل ذلك كله.

مررنا بمسجد سيدي البدوي، في مدينة طنطا، في محافظة الغربية، فدعوت الله عنده بحق صاحب هذا المقام وصلاته وقيامه أن يتطلع إليّ بعين الرضا وتوقفت السيارة وطلب مني العكسري أن أضع الغمامة، ونزلت إلى المحكمة وأنا مغمض العينين. مرت ساعات حتى عُرضت على النيابة، وسمعتُ العساكر يتحدثون عن وباء منتشر في البلد اسمه كورونا، فلم أعِرهم انتباهي، إذ كنت مشغولاً في التفكير في ماهية القضية التي نزلت عليّ. وقبل دخولي إلى وكيل النيابة، رفع ضابط الترحيلات الغمامة عن عينيّ، ووقفنا ننتظر أمام باب الوكيل. هنالك، شاهدت محامياً فندهت عليه باسم أخي لأتفاجأ بأنه أخي فعلاً. كانت تلك معجزة من الله: أخي معي وهو محامٍ في الوقت نفسه ووجوده اليوم في المحكمة معجزة بكل المقاييس، لكني لم أستطع الاقتراب منه أو لمسه حتى جاء دورنا. دخلنا إلى وكيل النيابة، فسألت أخي: هل الجميع بخير؟ فقال: نعم، وطمأنني عليهم.

كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها صوت واحد من أفراد أسرتي أو أعرف أخبارهم التي انقطعت عني طوال فترة إخفائي قسراً. كانوا يعيشون فترات قلق ولا يعلمون أين أنا ولا كيف حالي وهل أنا حي أو ميت.

في حضرة وكيل النيابة

تحدث معي وكيل النيابة، وقال إنه قُبض عليّ يوم 23 آذار/ مارس 2020، فقلت له: "كيف ذلك وأنا أمامك على هذه الهيئة؟ أنا قُبض عليّ يوم 30 كانون الأول/ ديسمبر 2019، أي قبل 85 يوماً بالتحديد، وكنت محتجزاً في الأمن الوطني، وكان رقمي 10".

أخبرني بأن تهمتي هي ازدراء الأديان، فقلت له: "أي دين هذا الذي قمت بازدرائه؟ أنا لم أقم بازدراء أي دين أرضياً كان أو سماوياً، ولطبيعة عملي تُوجَّه إلي دعوات إلى مؤتمرات تابعة للأزهر الشريف، ودعوات إلى احتفالات الكنيسة، فكيف أزدري أو أتهجم على أي دين وأمسّ بمشاعر معتنقيه؟". وأضفت: "ذلك ليس ما تعلّمته من مذهبي وديني. ثم كيف أنشر مذهباً وأنا لست رجل دين؟ أنا ضد أن يكون الدين مرتعاً للجميع ليتحدثوا فيه، ولست دارساً للعلوم الشرعية، ولو كان هناك شخص يشهد بأني عرضت عليه مذهبي أو دعوته إليه، فأحضروه ليشهد ضدي".

كان من ضمن الاتهامات أيضاً، أنني أنشأت جماعةً بالرغم من أنه لا توجد جماعات للشيعة في مصر، ولم نسمع عنها قط، فجلس يسألني عن مذهبي، ولماذا أنا على هذا المذهب؟ فقلت له: "ممكن معاليك تبحث على الإنترنت وسوف تجد بعض الشيوخ يتحدثون عن ذلك المذهب وسوف يفيدونك أكثر مني".

أبلغني بأنهم أخذوا بعض الكتب من بيتي، فقلت له: "كيف ذلك وأنا لم تكن لدي كتب في منزلي سوى المصحف؟"، وطلبت أن تُرفع البصمات عن تلك الكتب، ولو وجدوا على أي منها بصمتي أو بصمة أحد أقربائي حتى، فسأقرّ بأن هذا الكتاب لي.

كان أسلوب الوكيل هجومياً جداً، ولا أعلم هل ذلك بسبب طبيعة عمله أم لسبب شخصي. وعند خروجي طلبت منه أن أستعمل الهاتف لأتحدث مع أسرتي فأذِن لي بذلك، وسمعت صوت أمي وابني وإخوتي وكنت فرحاً بذلك، ونزلت من المحكمة وأنا موقنّ بأنه من المستحيل بعد هذا الهجوم أن يُخلى سبيلي.

ثم أودِعت في حجز المحكمة، وكنت حينها واقفاً وحدي بلا قيد في يديّ أو غمامة على وجهي، وكانت سعادتي كسعادة الأطفال بالحلوى. بعد دقائق عدة، أخذوني وذهبنا إلى "قسم ثان طنطا"، في محافظة الغربية، وفور دخولي تحوَّلت فرحتي إلى خوف مما سيحدث إنْ علم أحد بأني شيعي!

أعيدوني إلى "الأمن الوطني"

أن تكون شيعياً في مصر، هو أسوأ ما يمكن أن يعاني منه المرء. انقسمت في داخلي إلى قسمين، أحدهما يتمنى أن يدخل في الحجز السياسي، والآخر يتمنى الحجز الجنائي. كان الخوف يقتلني عند كل خطوة أخطوها، وعندما وقفت عند باب الحجز، كنت أفكر في الذي ينتظرني خلف هذا الباب: هل سيكون رجلاً داعشياً أو معتقلاً سياسياً عادياً؟ عندما فُتح الباب، رأيت أمامي جدراناً رصاصية اللون مع إضاءة خافتة، ورأيت شخصين جالسين على الأرض؛ الأوّل شاب والآخر مُسنّ. وحين دخلت وجلست، ألقى الشاب السلام عليّ، وعرّفتهما بنفسي. أحضروا لي بعض الطعام، فأكلت وحين حل وقت صلاة العشاء، طلب مني الرجل الكبير أن أؤم الصلاة، فرفضت، ثم تفاجأت بطفل أعتقد أن عمره لا يتجاوز الـ16 عاماً، موجود معنا في الزنزانة، فتعرفت إليه واكتشفت أنه قادم من محافظة الجيزة، ومتّهم بالانضمام إلى داعش. راح القلق يراودني بين حينٍ وآخر كلما تحدثت مع رفاقي في الحجز، إذ علمت بأن الشاب محكوم عليه بالمؤبد بسبب اتهامه بالقيام بعمليات إرهابية. كنت أتمنى في سرّي أن أعود مرةً أخرى إلى الأمن الوطني، فقد فقدت الشعور بالأمان في ذلك المكان، وقررت ألا أخبر أحداً بأنني شيعي إطلاقاً.

وفي أحد الأيام، كان الحجز مكتظاً إلى آخره، فقد كان عددنا يتخطى الـ20 شخصاً، وكان هناك شخص يعرفني، إذ كان صديقاً لخالي في العمل، وكان خالي قد تحدث معه عني وعن والدي وعن مذهبنا من قبل. أبلغَهم بأني شيعي المذهب، فبدأت معاملتهم لي تتغير كثيراً، وباتوا يتجنّبون الحديث معي، فكنت أقضي أغلب يومي نائماً وتمنيت كثيراً أن أخرج من هذا المكان حتى لو وصل الأمر إلى حبسي انفرادياً. المهم أن أبتعد عن هذه المجموعة.

وفي أحد الأيام، سمعت أصواتاً عاليةً من خارج الحجز، وشدّاً وجذباً بين بعض الأشخاص. نظرت من ثقب في نافذة صغيرة مغلقة في باب الزنزانة الحديدي، فوجدت أحد السجناء الجنائيين يرفع سلاحاً أبيض على الضابط، ويوجّه إليه ألفاظاً بذيئةً وهم يحاولون تهدئته ويطالبونه بالاعتذار من الضابط، فضحكت بشدة من هذا المشهد حتى سمعوا صوتي، فهؤلاء الجماعة كانوا يشتمونني بالأمس والآن انقلب الوضع. بعد انتهاء الموقف، فُتح باب الزنزانة، وقال أحد الأمناء إن هناك تفتيشاً للحجز فخرجت وأنا أُشعل سيجارةً، فظهر ضابط صغير يبدو أنه حديث التخرج، وقام بشتمي وكدنا نتشاجر إلا أن بعض الرفاق حالوا بيني وبينه، وحاولوا تهدئتي، فصمتّ حتى لا أعرّضهم لأي أذى، وفي أثناء التفتيش أخرجوا من الزنزانة هاتفاً محمولاً كان مع الطفل الداعشي، وكانوا كلهم على علم بوجوده، إلا أنا بالرغم من علمهم بأن قلبي كان يكتوي بلهيب الاشتياق إلى أهلي وكنت أتمنى أن أطمئنّ عليهم ولو لمرةٍ واحدة، لكن أحداً لم يشفق عليّ. كانوا يحدّثون أهاليهم ليلاً، وأنا نائم حتى لا أكتشف الأمر، فغضبت منهم جميعاً. وبسبب هذا الهاتف قرر الضابط تجريد الحجز من كل شيء، ومنع دخول الطعام والماء، وعند عودتي إلى الزنزانة، قلت لهم: أنا لم أستفِد من الهاتف، وعُوقبت مثلكم تماماً، وأنتم كنتم ترون دموعي وتسمعون أنين اشتياقي إلى أهلي، ولم يرأف بحالي أحد منكم، ثم أسكتتني غصة في حلقي، وأغمضت عينيّ بعدما امتلأتا بالدموع.

رسائل واتصالات

فُرضت حالة إغلاق تامة بسبب تفشّي كورونا، ولم تكن هناك زيارات داخل السجون وأقسام الشرطة، كنوع من الوقاية وكان يُسمح بإدخال الطعام فقط إلى المعتقلين.

بعد هذا الموقف بأيام عدة، بدأ أهلي يخطّون لي بعض الرسائل ويدسّونها خلسةً بين المأكل والملبس، وكانت تلك الرسائل بمثابة جرعات الأوكسيجين التي تنقذ المريض من الاختناق، وكنت أنتظرها على أحرّ من الجمر. اشتريت قلماً وورقاً وكنت أردّ عليهم. وفي إحدى الرسائل، أخبرتني زوجتي بأن والدتي أجرت عمليةً جراحيةً لإزالة حصى من المرارة، فقلقت عليها للغاية. لم تكن المرة الأولى التي تخضع فيها لتلك العملية، لكنها كانت تفشل في كل مرة. كنت أودّ الاطمئنان عليها، فطلبت من الشاويش أن أحدّثها من هاتفه، وألححت عليه فأشفق عليّ بعدما علم بمرضها، وكنا في شهر رمضان، فسمح لي بذلك، وكنت سعيداً جداً إلى درجة أن يديّ كانتا ترتجفان من فرط السعادة. اتصلت وسمعت صوت أمي والجميع في الحجز يتساءلون مندهشين كيف أحضرت ذلك الهاتف وتحدثت إلى أهلي، ثم تركتهم يتحدثون مع أهاليهم أيضاً، مقابل دفع كل متّصل خمسين جنيهاً، ومَن لا يملك المال كان يطلب من أهله إرسال رصيد إلى هاتف الشاويش. بعدها، أتى إليّ الطفل وقال لي: "أنا آسف أني منعت عنك الموبايل، وأوعدك مش هعمل كده مع حد تاني لو رجع الموبايل ليا".

أتذكر أيضاً أن أحد المساجين في ليلة العيد علم بأن حكماً بالسجن سبع سنوات صدر في حقه، فأصيب بحالة من الذعر والهلع وتخيّل أن الجميع أعداؤه وبات يضرب الجميع بشدة حتى تمكنوا من الإمساك به وربطه، فأغمض عينيه وأخذ يردد: "بلاش تقتلو حيدر"، فتعجبت: هل يا تُرى كانوا يبيّتون النية لأذيتي؟ أم أن هذا الشاب يهذي من شدة الصدمة؟ قمت بطرق الباب بشدة من أجل إحضار طبيب لإسعافه، أو ليعطيه بعض المهدئات، لكن إدارة السجن رفضت ذلك بسبب تفشّي فيروس كورونا في الخارج، وفكروا بحبسه في زنزانة منفردة حتى لا يؤذي أحداً، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فما كان منا إلا أن قمنا بإضرابٍ عن الطعام، ورفضنا أخذ التعيين (الطعام الموزَّع على السجناء). بعد مرور أربعة أيام، نقلوني أنا وبعض الأشخاص إلى سجن طنطا العمومي.

أخضعونا قبلها لكشف طبي، وكان في التقرير الخاص بي أن صدري وذراعي في حاجة إلى العلاج، لكن الطبيبة اضطرت إلى تغيير ذلك، وكتبت أن لا بأس عليّ، ثم اتجهنا إلى السجن العمومي.

إلى سجن طنطا العمومي درّ

عند دخولي السجن، كنت مطمئناً، وظننت أن هذا المكان أفضل من القسم والمعاملة القاسية من رفاق الزنزانة. مررت بباب ضخم وبدأ التفتيش. كان عبارةً عن خلع كل الملابس ما عدا السروال الداخلي، وكانت المعاملة سيئةً حتى جاء ضابط وأمر بمنع الضرب في أثناء التفتيش، ثم أخذوا كل الملابس والأحذية وأعطونا ملابس متسخةً جداً كي نلبسها، فطلبت أخذ الحذاء ورفض الشاويش الأمر. قال لي: "امشِ حافي". وبالفعل دخلت حافي القدمين إلى العنبر، وفي أثناء مروري كان الناس يخرِجون رؤوسهم من الشبابيك، ليستطلعوا أحوال الشارع، فقد كنت أول سجين يمرّ بهم منذ شهرين، بسبب فيروس كورونا. كانت جميع السجون مقفلةً حتى لا ينتشر الوباء بين السجناء. دخلنا إلى مكان يُسمّى "العنبوكة"، أو "الإيراد"، وهو حجز مثل الحجر الصحي. وعند دخولنا، وجدنا أناساً قد سبقونا بدقائق إلى الحجز، وبدأنا بتقسيم أنفسنا في كل مكان، وكل واحد منا أخذ يروي سوء الاستقبال الذي لقيه في هذا المكان.

سجن طنطا ليس فيه حمامات داخل الغرف، وإذا أردت قضاء حاجتك عليك التصرف في كيس بلاستيكي، أو أن تنتظر حتى الصباح. كان الوقت المحدد للدخول إلى الحمام، للعنبر كله، عشر دقائق لا غير، وفي العنبر ما يقرب من خمسين غرفةً في كل واحدة منها خمسة أشخاص على الأقل. هؤلاء كانوا مقسّمين على عشرة حمامات فقط. كنا ننظّم أنفسنا حتى يستطيع الجميع قضاء حاجتهم في عشر دقائق.

كنا ننظّم الأدوار داخل الغرفة أيضاً. كان دوري ملء المياه ودور غيري تفريغ "البرنيكا" (البرميل الذي نقضي فيه حاجتنا)، والطبخ وهكذا...

للمرة الثانية، سمعنا أصواتاً عاليةً خارج الحجر، وكانت مشادة عنيفة بين سجين جنائي محكوم عليه بالإعدام وأحد أمناء الشرطة، وقد تراشقا بالسباب والشتائم. في اليوم التالي، اصطحب الأمناء جميع العساكر في العنبر أو السجن، ومعهم المأمور ورئيس المباحث، وأخذوا ذلك الشاب المحكوم عليه بالإعدام مكتّف اليدين وانهالوا عليه بالضرب. قال أحد المساجين إن ذلك بمثابة ترهيب للمساجين الجدد حتى لا يفعلوا مثله.

في أحد الأيام قدِم شخص يسأل عن "الواد الشيعي"، الموجود في الزنزانة، وكان شخصاً ملتحياً من سجناء داعش، فعلمت أن أحدهم أخبرهم بوجودي. قلت إني لن أخفي معتقدي لأني مهما حاولت فسينكشف أمري لا محالة، والتكتم ليس سبيلاً للنجاة.

في تلك الأثناء، بدأ بعض السجناء يرسلون إلي رسائل يطرحون فيها بعض الأسئلة عن مذهبي، وكنت أرفض الحديث عبر الورق، ومَن يريد التحدث إليّ فليأتِ ونتحدث. بعد أيام، نقلونا إلى غرفة أخرى، أنا وخمسة أشخاص آخرين، جميعهم ينتمون إلى جماعات إسلامية مختلفة، وكانوا متقبلين للوضع والاختلاف الذي بيننا، باستنثناء واحد فقط. كنت أحب القيام بجميع واجبات الغرفة حتى يمضي الوقت، ويكون ذلك وسيلةً أتقرب بها إلى الله حتى يفرج كربي، وحتى ينكسر الكِبر في داخلي.

وفي يوم من الأيام، مرض الشخص الذي كان لا يتقبّلني، ورحت أعتني به. وخلال هذا الوقت كان يكافئني بأن يلعن التشيّع ليلاً نهاراً، فكنت أردّ عليه بأنك حر في معتقدك، والله ينظر في طلبك، إنْ كنّا أهلاً لذلك، فسيستجيب لك، وإنْ كنا عكس ذلك، فلن يستجيب. كان هذا حديثه الدائم وكنت أدعو الله أن يخرجني من تلك الغرفة، أو من السجن كله. في اليوم التالي استجاب الله لي، وخرج ذلك الشخص من الغرفة.

كورونا بيننا

دائماً ما تعود الذاكرة بي إلى ذلك اليوم الذي قُطعت فيه الأنوار داخل السجن للمرة الأولى، وسمعت حركةً داخل الممر وكان الوقت متأخراً جداً. ذهبت لأنظر من الشباك، فوجدت بعض العساكر ومسيّري السجن (المسيّر هو سجين يعمل على خدمة بقية السجناء)، ومعهم شخص مريض على كرسي متحرك بين الحياة والموت، فصحت فيهم بألا يُدخلوه إلى الزنزانة وهو على تلك الحالة، إذ ربما يموت في الصباح. كان كل مَن في العنبر يرفضون إدخاله إليهم، إذ كان مصاباً بفيروس كورونا، وكان من الممكن أن يصيب العنبر كله. بعد أيام بدأت علامات الإصابة بكورونا تظهر داخل السجن بشكل كبير، ومَن يُصاب يُنقَل إلى عنبر آخر حيث يدخل في حجر صحي، ولا يقدّمون له غير الطعام والمسكّن، ولينجُ مَن ينجُ، وليمُت مَن يمت، حتى سمحوا بخروج بعض المصابين إلى المستشفى خارج السجن، وبدأت الإدارة تتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة حتى لا يتفشّى الفيروس بشكل أكبر. كان من الصعب على مَن يوضع في الحجر أن يعود بسبب الإهمال في المستشفى المكتظ بكل مستويات المصابين بالفيروس.

وذات يوم، بدأت أعراض الفيروس تظهر عليّ، فارتفعت درجة حرارتي، وكان جسدي ينتفض وكنت أشعر بأنها النهاية. كنت أخشى أن أموت بعيداً عن أهلي، وبدأت أتجنّب زملائي في الحجز، وقلت لهم إني سوف أبلّغ الأمناء بأني مصاب، لكن ردّ الجميع كان: لا، سوف تموت بسبب الإهمال. كان مع أحد رفاقي مسكّن شديد القوة للعظام، أخذته حتى أستطيع الأكل وحتى أقاوم المرض، لكن الأعراض كانت تظهر أكثر شيئاً فشيئاً، وكان من الصعب أن يستقرّ الطعام لدقائق في معدتي، فنقلوني إلى مستشفى السجن. وبعد أن أجروا لي التحاليل، لم يعطوني سوى "برشام" (حبّة) مسكّن، وحُجز شخص آخر بسبب تمكّن الفيروس منه بشكل كبير.

وبدأت معلومة أني شيعي تتجاوز حدود النزلاء معي في الغرفة، لتنتشر داخل العنبر بأكمله، حتى وصَلَت إلى الدواعش وبدأوا بمراقبة جميع خطواتي، حتى في أثناء التريّض. كانوا يبحثون عن أي فرصة أكون فيها بمفردي داخل الحمامات مثلاً، لكني كنت أتجنب ذلك، حتى أنهم قاموا بدفع مبلغ للمشرفين كي ينقلوني من زنزانتي إلى زنزانتهم، ولم ينجحوا في ذلك بسبب العدد الكبير الموجود فيها. وفي أحد الأيام، أوقفني أحدهم، وسألني: هل أنت شيعي؟ فقلت له نعم، فكان رده صادماً لي، إذ قال: "الحمد لله أنك لست شيعياً"، مع أني قلت له نعم! وخطر ببالي أن الله أسمعهم عكس ما نطقت، وعلمت بعد ذلك أنهم كانوا يخططون لإيذائي، لأن دمي مهدور في عقيدتهم.

انتهى الإغلاق بسبب كورونا، وعاد العمل بشكل متقطع في جميع محاكم مصر بعد إغلاق دام أكثر من خمسة أشهر متتالية، ثم عُرضتُ على المحكمة، ووقفت في قفص الاتهام وانتظرت أن يستجوبني القاضي، لكن أُطلق سراحي بكفالة، وبعدها بساعات طعنت النيابة في حكم المحكمة، وفي اليوم التالي عُرضت على المحكمة مرةً أخرى، وأخذت الحكم السابق نفسه، ودفعت كفالةً قدرها 5،000 جنيه، لأخرج على ذمة القضية إلى حين النظر في أمرها أمام المحكمه، وكنت قلقاً لأن هذا المبلغ سيثقل كاهل أهلي، ولكنهم تمكّنوا من دفعه بعد يومين.

خرجت ولم تنتهِ فصول معاناتي

خرجت من السجن إلى القسم مرةً أخرى، فوجدت جميع الذين تركتهم موجودين داخل الحجز، ولم يُطلق سراح أيّ منهم. وفي اليوم نفسه عُرضت على المباحث. بعدها انتظرنا رد الأمن الوطني، وفي الصباح قالوا لي: خذ جميع متعلقاتك فصعدت إلى غرفة تُسمّى الثلاجة (هي حجز للاختفاء القسري للجنائي)، وكانت مغلقةً تماماً وليس فيها شيء، والدخول إلى الحمام بإذن، ولا بد لك أن تقرع الباب لمدة نصف ساعة حتى يُسمَح لك بالذهاب إلى الحمام. وبعد انتظار دام 12 ساعةً داخل تلك الغرفة، أخذوني مرةً أخرى إلى الحجز في القسم، وبعدها بدقائق نقلوني إلى الأمن الوطني مرةً أخرى. وبعد أربع ساعات من احتجازي في مقر الأمن، عُرضت على الضابط الذي قال إني سوف أنتظر أياماً عدة حتى يطلقوا سراحي، ونقلوني مرةً أخرى إلى أحد معسكرات الأمن المركزي. وعند دخولي إلى هناك، وجدت ثلاثة أشخاص، الأول تابع لتنظيم داعش، والثاني لتنظيم القاعدة، والأخير لتنظيم جبهة النصرة في سوريا. جلست أتحدث معهم ولم أخبرهم بأني شيعي حتى لا أتعرض للقتل على أيديهم. قضيت هناك مدةً، إلى أن نقلوني إلى مقر الأمن، ومن هناك أطلقوا سراحي، ولم تنتهِ معاناتي بعد خروجي، بل استمرت بصورة مختلفة.

بعد خروجي، فوجئت بقرار تسريحي من العمل، ومنعي من العمل في مصر بشكل غير رسمي. فعند رجوعي إلى العمل، أخبرني أحدهم بأن الأمن الوطني منعني من العودة إلى عملي مرةً أخرى. كل شيء اختلف، حتى معاملة الأصدقاء لي. الجميع باتوا متخوفين من الاقتراب منّي.

تابعت القضية التي حُوّلت من مدينة طنطا إلى نيابة أمن الدوله العليا في القاهرة، وبعد شهور جرى حفظها، ثم فُتحت مجدداً لمدة شهرين قبل حفظها بشكل نهائي. ومع ذلك، ما زالت رحلتي في البحث عن عمل جديد قائمةً.

رصيف 22

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*