إرث الوهابية الدموي مع الشيعة - مقالات
أحدث المقالات

إرث الوهابية الدموي مع الشيعة

إرث الوهابية الدموي مع  الشيعة

حامد فتحي:

 

منذ أن ظهرت الحركة الوهابية في نجد، في شبه الجزيرة العربية، عام 1745، اعتبرت الشيعة كفاراً يجب قتالهم حتى يعودوا إلى الدين الصحيح. ومع تأسيس إمارة الدرعية، بتحالف بين الوهابيين وآل سعود، غزا الكيان السياسي-الديني الوليد المناطق المقدسة في العراق، وارتكب مجازر بحق الشيعة، مخلفاً إرثاً تاريخياً من البغضاء ما زال صداه يتردد حتى اليوم.

غزو العراق

منذ عام 1790، أخذ المد الوهابي يهدد العراق، فظهرت على الحدود من ناحية الصحراء جماعات وهابية وصارت تغزو مراعي الظفير والمنتفق والشامية جنوب العراق، وانسل الدعاة الوهابيون على العراق وانتشروا في المدن والقرى.

غزا الوهابيون (إمارة الدرعية بزعامة عبد العزيز آل سعود) الأحساء عام 1796، وكانت الأحساء تمثل أهمية استراتيجية للعثمانيين، فأمر السلطان والي بغداد سليمان باشا الكبير باستردادها من أيديهم.

بعث الوالي حملة بقيادة شيخ المنتفق ثويني بن عبد الله إلى الأحساء، لكن مقتل الأخير على يد أحد أتباعه تسبب في فشلها، فاستغل الوهابيون ذلك وهاجموا جنوب العراق، وقوافل الحج الإيرانية الشيعية.

أرسل الوالي حملة بقيادة أمير المنتفق الشيخ ثويني بن عبد الله إلى الأحساء. والمنتفق كانت إمارة عشائرية امتلكت نفوذاً عسكرياً وسياسياً في جنوب العراق. لكن مقتل ثويني على يد أحد أتباعه تسبب في فشل الحملة. واستغل الوهابيون ذلك وهاجموا جنوب العراق، وقوافل الحج الإيرانية الشيعية.

اضطر سليمان باشا إلى إعداد حملة ثانية ضد الوهابيين تحت قيادة الكهية (قائد الجيش) علي باشا، وصلت إلى الأحساء عام 1798 لكنها انتهت بالصلح.

واستؤنفت العلاقات التجارية بين الوهابيين والعراق، وكانت القوافل النجدية تصل بغداد للتجارة تحت حماية الفرسان الوهابيين، ما سمح لهم بالاتصال بالمدن الشيعية المقدسة.

في مصنف بعنوان "رسالة في الرد على الرافضة"، عدد محمد بن عبد الوهاب الأسباب التي من أجلها كفّر الشيعة، وهي في مجملها القضايا التي تبناها غلاة الشيعة، وليس جميعهم، ولكن يبدو أنه لم يدرك تعددية وتنوع المكوّن الشيعي، وتبنى الصورة النمطية التي روج لها المتعصبون عنهم.

ذكر بن عبد الوهاب الحديث الذي جاء في كتاب "روضة الواعظين" للشيخ المفيد، وفيه: "مَن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه"، وعلق عليه قائلاً: "انظر يا أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة ألفاظه وبطلان أغراضه" ثم يضيف: "ومَن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك".

على الجملة، كان الشيعة في نظر الوهابيين كفاراً، تحل دماؤهم وأموالهم وأعراضهم. وكانت مراقد الأئمة والمزارات المقدسة بمثابة بيوت للأوثان يجب هدمها.

تشبُّع الوهابيين بتعاليم شيخهم التكفيرية دفعهم إلى ارتكاب جرائم بحق الشيعة العراقيين، لأسباب عقائدية، وكان أولها قتل شيخ الخزاعل (قبيلة عراقية) قرب النجف.

عام 1799، مرت قافلة تجارية نجدية يحرسها فرسان وهابيون بالنجف، وكانت عائدة من بغداد، وشاهدوا رجلاً يقبّل عتبة المرقد العلوي فقتلوه لأنه كافر حسب ظنهم، وكان الرجل هو شيخ الخزاعل.

هاجمت الخزاعل القافلة انتقاماً لشيخها، وقتلوا عدداً من أفرادها، كما أورد المؤرخ العراقي علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث".

استغل عبد العزيز بن سعود الحادثة ونقض الصلح مع ولاية بغداد، وعزم على غزو العراق مدعياً طلب الثأر، ورفض دعوة الوالي سليمان باشا إلى تسوية الخلاف ودياً. طمع ابن سعود في ثروات العراق مستغلاً حالة الفوضى التي كانت تمر بها الولاية، وانشغال السلطان بالهجوم الفرنسي على مصر (1798-1801).

تمثلت الحجة الشرعية للوهابيين بقتال الشيعة الروافض وهدم المراقد ومظاهر الشرك بالله، وساند ذلك دعوة قبلية أججها عبد العزيز للأخذ بثأر القافلة النجدية. شنّ الوهابيون غارات منتظمة على العراق في ظل عجز الوالي عن ردعهم.

كانت كربلاء هدفاً للوهابيين، ورغم ذلك أهمل ولاة بغداد العثمانيون تأمين المدينة، على الرغم من أهميتها كمدينة مقدسة لجميع الشيعة في العالم، وهو ما جعل الرواية الشيعية للحادثة تتهم العثمانيين بالتواطؤ مع الوهابيين لاحقاً في غزو المدينة.

فاجعة كربلاء

وقعت الفاجعة في يوم 22 نيسان/ أبريل 1802، الموافق يوم 18 ذي الحجة، وهو يوم عيد الغدير عند الشيعة، وكان جزء من سكان كربلاء في النجف للاحتفال. وصلت طلائع الوهابيين إلى المدينة فسارع سكانها إلى إغلاق الأبواب، إلا أن الوهابيين نجحوا في اقتحام أحد الأبواب، وعاثوا في المدينة قتلاً ونهباً.

يقول المستشرق البريطاني الذي عمل مع الإدارة البريطانية في العراق ستيفن هيمسلى لونكريك عن الواقعة في كتابه "أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث" (صدر بالإنكليزية عام 1925): "أما الوهابيون الخشن فقد شقوا طريقهم إلى الأضرحة المقدسة وأخذوا يخربونها. فاقتلعت القضب المعدنية والسياج ثم المرايا الجسيمة. ونهبت النفائس والحاجات الثمنية والسجاد الفاخر والأبواب المرصعة. وقتلوا 50 شخصاً بالقرب من الضريح، و500 في الصحن".

يضيف لونكريك "أما في البلدة نفسها فقد عاث الغزاة فيها فساداً وتخريباً، وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه كما سرقوا كل دار. ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل، ولم يحترموا النساء فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أسرهم".

لم يتنكر الوهابيون لهذه المذبحة، ويقول أحد مؤرخيهم وهو عثمان بن بشر في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد": "وقصدوا (الوهابيون) أرض كربلاء ونزلوا أهل بلد الحسين، فحشد عليها المسلمون (الوهابيون) وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، وجميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والمصاحف والتحف. وقتلوا من أهلها قريب ألفي رجل".

قُدر عدد القتلى بما بين خمسة إلى ثمانية آلاف شخص، وعلى أقل تقدير ألفيْ شخص، وأصيب عشرة آلاف آخرون، وفق رواية الرحالة الهندي أبي طالب خان الذي زار المدينة بعد سبعة شهور على الكارثة، ووثق حالها وما جرى فيها يوم الهجوم مما استقاه ممن شهد الواقعة، في كتابه "رحلة أبي طالب خان إلى العراق وأوروبا".

يقول أبو طالب إن الوهابيين كانوا يهتفون "اقتلوا الشيعة، اقطعوا رقاب الكفرة".

وهناك اختلاف حول عدد جيش ابن سعود، فبعض التقديرات تصل به إلى 25 ألف مقاتل، وأخرى تخسفه إلى ألف مقاتل. وبحسب دراسة مقدام الفياض في كتابه "غارات القبائل النجدية على كربلاء في القرن 19" فإن العدد لا يقل عن خمسة آلاف مقاتل تقريباً.

نهب مقتنيات الأضرحة

هدم الوهابيون أجزاء مهمة من الروضة الحسينية، وقلعوا الشباك والصندوق الثمينين الموضوعين على القبر، وهدموا الآجر الملون، وأحرقوا المشاهد، وحاولوا قلع الصفائح الذهبية من على القبة لكنهم لم يستطيعوا.

أما عن المسروقات فلم يمكن إحصاؤها بدقة نظراً لعدم وجود سجل إحصائي لمقتنيات المراقد قبل عام 1840. لكن إجمالاً، كانت المنهوبات كثيرة، فهي حصيلة قرون من الهدايا التي بعثها ملوك وأمراء وأعيان من إيران والعراق والهند ودول عدّة.

استولى الوهابيون على كميات كبيرة من الذهب والجواهر النفيسة والتحف النادرة والمصاحف الثمينة وخزائن مليئة بتبرعات الزائرين، إذ وجودوا فيها مئات الآلاف من قطع النقد المحلية والأجنبية. واستولوا على أربعة آلاف قطعة سجاد كشميري، وعشرات السيوف المحلاة بالذهب والحجارة الكريمة، ومئات السيوف الفضية، وعدد كبير من القناديل الذهبية والصناديق الفضية والستائر الحريرية، وغير ذلك مما تعذّر إحصاؤه.

يكفي للدلالة على كثرة المنهوبات ما أورده المؤرخ ابن سند البصري تعليقاً في كتاب "مختصر مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داوود". قال: "بأموال كربلاء استفحل أمر سعود وطمع في ملك الحرمين وشرع في محاصرة المدينة المنورة". وقد شجعت أخبار الغنائم العديد من القبائل على الانضمام إلى الوهابيين طمعاً في الأموال.

هزت الفاجعة العالم الشيعي، وكانت لها تبعات خطيرة دولياً، فعندما وصلت الأنباء إلى إيران أمر الشاه فتح الله علي القاجاري بإعلان الحداد، واحتج لدى حكومة بغداد وحمّلها المسؤولية، وعزم على تسيير جيش كبير للانتقام، لكن هجوماً روسياً على شمال إيران شغله عن ذلك.

وأدت الحادثة إلى اهتمام البريطانيين بشكل جدي بأمن العراق، حرصاً على مخططاتهم الاستعمارية، فتعاونوا مع ولاة بغداد عبر إمدادهم بالسلاح لصد الوهابيين.

نجاة النجف من مصير كربلاء

انسحب الوهابيون بالغنائم إلى نجد، وفي طريقهم هاجموا مدينة النجف لكن أهل المدينة كانوا مستعدين لهم. حاصر الوهابيون المدينة دون أن يتمكنوا من اقتحامها، بسبب بسالة المدافعين عنها، فاضطروا للانسحاب.

نقل والي بغداد خزائن الروضة الحيدرية في النجف إلى بناية الكاظمية في بغداد خوفاً من هجوم وهابي جديد، وهو أمر يكشف عن عجز العثمانيين عن حماية المدينة.

انشغل الوهابيون عن العراق بضم الحجاز، لكن وقعت حادثة أعادت أنظارهم إلى العراق مرة أخرى، وهي مقتل أميرهم عبد العزيز بن سعود.

فأثناء إحدى الصلوات في الدرعية تقدم درويش شاهراً سيفه وطعن الأمير عبد العزيز فقتله، وجرح أخيه عبد الله لكن الأخير سحب سيفه وقتله.

كان هذا الدرويش رجلاً شيعياً يدعى ملا عثمان، قتل الوهابيين أطفاله وزوجته ونهبوا أمواله في حادثة كربلاء، فقرر الانتقام منهم، وسافر إلى الدرعية وتنكر في زي درويش، وتقرب إليهم بحضور الصلوات، حتى تمكن من الانتقام بقتل عبد العزيز.

تولى سعود بن عبد العزيز الإمارة بعد والده، واتهم والي بغداد بالضلوع في حادثة الاغتيال، وقرر الانتقام. شن غارات على البصرة ومضارب قبائل المنتفق والظفير وحاصر بلدة الزبير لكنه فشل في اقتحامها، فهَدَم القبور والمشاهد حولها، وحصد المحاصيل الزراعية ونهبها.

عانى الشيعة والسنّة في جنوب العراق من غزوات الوهابيين المستمرة منذ عام 1802 حتى عام 1810. في عام 1804، هاجموا قبائل الشامية أثناء موسم الرعي. ويقول لونكريك: "عاثوا في المرعى فساداً من غير أن يردعهم رادع" وحاصروا البصرة، وعجزوا عن دخولها.

وشنّوا هجوماً كبيراً على النجف مرة ثانية عام 1806، لكنهم فشلوا في اقتحامها أمام بسالة المدافعين بقيادة رجل الدين جعفر الجناجي.

وظلوا يهددون العراق مستغلين الفوضى التي انزلق إليها، حتى تدخل محمد علي باشا حاكم مصر ضدهم بناء على طلب السلطان عام 1811 فانشغلوا بالتصدي للحملة. وتمكنت الحملة من القضاء على إمارة الدرعية، وبزوالهم أمن الشيعة في العراق خطرهم.

دار الكفر ودار الإيمان

بزوال إمارة الدرعية، خرج الوهابيون من الفاعلية على الساحة السياسية والعسكرية. حتى بعد إنشاء الدولة السعودية الثانية، لم يشكلوا خطراً بسبب ضعف قوتهم، وغياب التعصب الوهابي لديهم.

تغير الوضع مع عودة الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (مؤسس المملكة العربية السعودية) إلى نجد، وسيطرته على الرياض عام 1901، ليؤسس الدولة الثالثة.

كان ابن سعود بحاجه إلى مقاتلين فقرر الاستعانة بالبدو لكن بعد توطينهم، وتربيتهم على التعاليم الوهابية. عُرفت الفرق الوهابية تلك باسم جماعة إخوان مَن أطاع الله، وصارت القوة الضاربة في جيش ابن سعود.

اتبعت هذه القوة تعاليم ابن عبد الوهاب التكفيرية، فقسمت العالم إلى دارين: دار الإيمان وهم أتباع ابن سعود، ولاحقاً أخرجوا من هذه الدار البدو الذين لم يهجروا البادية ويستقروا في الهجر (القرى)، والدار الثانية هي دار الكفر وتشمل جميع البشرية.

أحل هؤلاء دم وأموال المسلمين في العراق والكويت والحجاز، لكن كان وجود بريطانيا كقوة مهمينة على الخليج العربي بجانب تحول السلطنة إلى دولة شبه حديثة ذات جيش نظامي عامليْن جديدين في تحجيم الخطر الوهابي.

بعد الحرب العالمية الأولى، احتلت بريطانيا العراق، وتولت حمايته. عام 1920، هاجمت الجماعة الكويت إلا أن الطائرات البريطانية تصدت لهم. وعندما هاجمت الجماعة بعد فترة العراق تصدت لهم بريطانيا أيضاً.

عام 1922، عقدت بريطانيا مؤتمر العقير لترسيم الحدود بين السعوديين وجيرانهم. كان إصرار الجماعة على عدم الاعتراف بالحدود، وإيمانها بمبدأ الغزو عائقاً أمام الدولة السعودية الحديثة، فدخل عبد العزيز آل سعود في مواجهة معهم، وقضى عليهم.

من المؤكد أن تغير المعطيات التاريخية ومعادلات القوة هو ما منع الوهابيين من التوسع عسكرياً على حساب جيرانهم. ولولا ذلك لكان التاريخ شهد تكرار مأساة كربلاء.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*