بقلم: نسيم مجلي
هذا هو عنوان الكتاب الّذى ألّفه الأستاذ حمدى رزق وصدر عن دار روز اليوسف. وكلمة كيرياليسون هي كلمة قبطيّة معناها "يا رب ارحمنا". كلمة يقولها المسلم بلغتنا العربيّة المعتادة، ويقولها المسيحي بهذه اللغة، فنحن إذن جميعًا نردِّد دعاءً واحدًا في طلب الرّحمة، ومن ثم فإنّ حمدي رزق يبدأ كتابه بأحد الخيوط الرّوحيّة الّتي تربط بين المسلمين والمسيحيّين وتُؤكِّد وحدتهم أيضًا، فنحن من أصل واحد، كما يُؤكِّد الدّكتور وسيم السّيسي بأنّ جينات المصريين جميعًا واحدة. وبناءً عليه فإنّ محبة حمدي رزق ليست موجَّهة للقبط فقط، بل لأهل مصر جميعًا، وهي محبة صادقة تتجلّى في كُلّ سطر يكتبه حمدي رزق في هذا الكتاب، وسوف تترك هذه المحبَّة صداها في نُفوس الغالبيّة من أبناء مصر الطّيبين. وسوف يكون أثرها بردًا وسلامًا على هذه الأرض الطّيبّة الّتي نعشقها جميعًا. وقد أتاح له ذلك الحُبّ قدرًا كبيرًا من الجُرأة في نقد الأخطاء وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، بل تسمية الأشخاص وبعض القيادات الدّينيّة والسّياسيّة دُون تردُّد. ورغم قسوة النّقد أحيانًا إلا أنّه نقد موضوعي صادر عن عقلانيّة لا تعرف تلوين الكلمات أو تمييع المواقف، وهي الأساليب السّائدة في لُغة المسؤولين عامّة، ممّا أدّى إلى ضياع الحقائق وتفشّى الجهل والفساد، وتلويث عقول العامة وتشويه وجه مصر بالطّغيان والإرهاب، ولم تترك مكانًا للشفافيّة الّتي تُنير الطّريق لكُلّ من يُريد أن يضع لبنة في صرح هذا الوطن.
وهُنا أبادر وأقول إنّه لا يُمكن لأيّ باحث أو مُؤرِّخ جاد أن يتجاهل هذه العوامل المُحزنة الّتي أدّت إلى تدهور الأحوال المعيشيّة للمصريّين جميعًا في هذه الأيام والّتي تُعطِّل التنميّة في كُلّ النّواحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة على السّواء.
لقد دخل المُؤلِّف إلى موضوعه من خلال حديث المشاعر الشّخصيّة والصّداقة الحميمة الّتي ربطت بينه وبين زميله ألبير منذ الصّغر في "مدرسة الأقباط الابتدائية" بعزبة النّصارى حيث نشأ كلاهُما في جو يفيض بالحب من جانب الحاج أحمد مُدرِّس اللُغة العربيّة الّذى كان يخشى على ألبير من برودة شهر "طوبة" لو خرج من الفصل في حصّة الدّين، ويقول لتلاميذه "أحبب لأخيك ما تُحبّه لنفسك". لقد كانت المدرسة تعمل في حضن الكنيسة ولم يُثر ذلك حساسيّة أحد من المسلمين. وكانت محبّة راع الكنيسة للحاج أحمد والمودة الّتي تربطهما مثالًا راقيًا لرجال التربيّة والتعليم، هذا الجو الأبوي الحاني هو الّذى نمّى الصّداقة القويّة في نفوس حمدي وألبير وزملائهما في ذلك الجيل. وكان تبادُل الزّيارات المنزليّة للأولاد عاملًا مُؤثِّرًا في هذه الصّداقة والمُؤلِّف يُشير إلى الأطايب الّتي كانت تجيد صنعها السّت أم ألبير في الأعياد المسيحيّة، وكانا يتلذّذان بالتهامها بشهيّة مفتوحة.
امتدت هذه الصّداقة إلى كثيرين من الأقباط بل وإلى كبار رجال الكنيسة القبطيّة، مثل البابا كيرلس والبابا شنودة والبابا تواضروس الثّاني والأنبا مُوسى أسقف الشّباب الّذى دعاه يومًا ليلتقي بشباب الكنيسة ويتحدّث معهم، فحمدي رزق حين يتكلّم عن هذه القيادات الكنسيّة وعن دورها في تلقّي الصّدمات وتخفيف أثرها على أبناء الكنيسة، فإنّه يتكلّم من خلال معرفة صحيحة ومخالطة فعليّة لهم. وهذا ما يُعطي كتابه قِيمة عالية.
كذلك لم يتردّد الكاتب في توجيه النّقد لبعض رجال الكنيسة وللبابا تواضروس الثّاني بسبب موقفه من المتظاهرين الّذين يُطالبون بفرصة للجلوس معه وسماع شكاواهم. وكذلك يوجِّه رزق نقدَه للقرارات الكنسيّة المجحفة بحقّ كثير من الرّجال والنّساء ضحايا قوانين الأحوال الشّخصيّة، وهو نقد بنّاء صادر عن رُوح المحبّة والحرص على مصالح أبناء الكنيسة وسلامهم رُوحيًا واجتماعيًا.
ولا ينسى حمدي أن يُشير إلى تعاوُن كثيرين من عُقلاء المسلمين وبعض رجال الأزهر مع رجال الكنيسة من أجل هزيمة الإرهاب والقضاء على أسباب الفتنة الطّائفيّة، لكنه لا يتجاهل البطء من جانب الشّيخ أحمد الطّيب في اتّخاذ الإجراءات اللازمة لتطهير جامعة الأزهر من أعضاء التدريس المُتطرّفين، أمثال محمد عمارة وغيره، وتنقية مناهج الدّراسة بالأزهر من المواد الّتي تحُض على كراهية الآخر إنقاذًا للشباب وحمايتهم من الفتن الّتي تُضلِّلهم باسم الدّين ومحاربة الفكر.
ويشتد الكاتب في التنديد بجرائم الإخوان والسّلفيين البشعة بحقّ المسيحيّين كتفجير كنيسة القديسين والكنيسة البطرسيّة وكنيسة طنطا وقتل العشرات من المسيحيّين الأبرياء. ورغم إشارته إلى دور الرّئيس عبد الفتاح السّيسي ومُحاولاته الدّؤوبة لتضميد جراح المسيحيين وتخفيف أحزانهم، سواء عن طريق الضّربة الجويّة الّتي وجهّها الطّيران المصري للإرهابيّين في ليبيا انتقامًا لذبحهم لواحد وعشرين عاملًا قبطيًا أو عن طريق زياراته المتكرِّرة للكنيسة في عيد الميلاد كُلّ عام وبمائة للكاتدرائيّة الكبرى في العاصمة الجديدة إلا أنّه لا يتهاون في نقده للمُؤسّسات الأمنيّة وبعض المحافظين وتراخيهم في تطبيق القانون، وانصياعهم لأوامر الإرهابيّين في موقفهم الرّافض لبناء الكنائس ووضع الشّروط الظّالمة وفرضها على الضّحايا من المسيحيّين عن طريق المجالسّ العرفيّة.
وليسمح لي القارئ أن أكون صريحًا أكثر وأقول إنّ كتاب حمدي رزق هو مُساهمة قويّة في تجديد الخطاب الدّيني الإسلامي لأنّه يقوم بعمليّة تعريف بأقباط مصر لأحبائنا المسلمين الّذين لم يحرصوا على معرفة كتبنا ومبادىء ديننا كما نحرص نحن على دراسة كُتُبِهم وفهم مُمارساتهم الدّينيّة، فإلإنسان عدو ما يجهل. وهذه الجهالة هي الّتي أدّت إلى تبنّى الكثيرين لخطاب الكراهيّة ضد الأقباط والاندفاع المحموم للاعتداء عليهم، هذه المشكلة الّتي شَخَّصَها الدّكتور فؤاد عبد المنعم رياض القاضي الدّولي، بدقّة، في رسالته حيث يقول:
"الإنسان عدو ما يجهل، والمُسلم لا مرجعيّة له سوى معلومات مشوَّهة عن المواطن القبطي نجمت عن الخطاب الدّيني المضلِّل المتعصِّب خلال العقود الماضيّة. وعن تجاهُل كافة وسائل التعليم والإعلام حتى الآن لتاريخ الأقباط وحضارتهم كمصريين أصلاء، ممّا جعل المواطن المسلم ينظر للمواطن القبطي كغريب أو كضيف ثقيل على أرض الوطن. وما تزال أغلبيّة أبناء مصر من المسلمين غير واعين بأن شعب مصر ظلَّ قبطيًا خلال عدّة قرون قبل الفتح الإسلامي وبعده. ومن ثم فإنّ الشّعب المصري الحالي هو في أغلبيته العُظمى من سلالة الشّعب القبطي.
وممّا أدّى إلى استفحال الأمر إقصاء الدّولة للمسيحيين من غالبيّة الوظائف السّياسيّة والمناصب العليا كالمُحافظين ورؤساء الجامعات وكافة القيادات. وكذلك عدم سماح المؤسَّسات المُختلفة من ثقافيّة وفنيّة ورياضيّة للمسيحيّين من قيادتها بل ومن مُجرّد وجود مسيحيّين في ساحاتها".
ورسالة الدّكتور فؤاد تشدَّد على ضرورة أن يتم التغيير الجذري بأمانة وشجاعة لكُلّ الأمور الّتي أدّت إلى تمزيق هذا الوطن. وقد نشرت هذه الرّسالة في خضم المعركة الّتي اشتعلت حول قرار الدّكتور جابر نصّار بإلغاء خانة الدّيانة من المُحرّرات الرّسميّة في جامعة القاهرة. وهو قرار شجاع يفتح الطّريق إلى عصر جديد للتنوير في مصر. ولقد كانت رسالة الدّكتور عبد المنعم رياض بعنوان شديد السّخريّة هو "إلغاء خانة الدّيانة من العقول" قبل أن تُلغى من الأوراق.
ومن حُسن الحظ أن تأتى وثيقة التنوير الّتى أطلقها الدّكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة الجديد لترسم خُطوطًا واضحة للسير في طريق التحرُّر العقلي والتنوير. وقد شكّل لها الدّكتور الخشت مجلسًا يضُم شخصيّات عامّة وثقافيّة وفكريّة مرموقة، سعيًا إلى تحويل جامعة القاهرة إلى جامعة من الجيل الثّالث، تجمع بين التعليم والبحث العلمي وتوظيف المعرفة في عمليّة التنميّة الشّاملة للدولة الوطنيّة، بوصفها تنمية ثقافيّة وعلميّة واقتصاديّة واجتماعيّة، مع استعادة فكر المُؤسِّسين للجامعة في التّنوير والعقلانيّة والتعدُّديّة.
شكرًا أستاذ حمدى رزق على هذه السّياحة المُمتعة في سِجِّل حافل بالأحزان.