محمد سعد:
"الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد. ها هم اليوم موجودون. والحسين بلون الآخر لا يزال موجوداً. هو الذي يُستهدف من قِبَل هؤلاء الطغاة. إذاً، أنصار يزيد وأنصار الحسين مرةً أخرى، وعلى طول الخط، يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة، وهذا يعطينا رؤية أن الجريمة التي ارتُكبت بحق الحسين لم تنتهِ، ولا نزال نعيش فصولها اليوم..."؛ بهكذا خطاب، أطلّ رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي، عام 2013، ليخاطب العراقيين وليقسّمهم بين أنصار للحسين بن علي، وأنصار ليزيد بن معاوية.
هل هنالك صراع سياسي سنّي-شيعي؟ يسارع البعض إلى تقديم إجابة سهلة ومباشرة ومختصرة مفادها بأنه لا يوجد هكذا صراع، وما نعيشه هو محض خلافات حول المصالح السياسية والجيوسياسية بين قوى إقليمية محورية في الشرق الأوسط.
في المقابل، يسارع بعض آخر إلى القول إن هذا الصراع موجود، لا بل يعدّونه صراعاً وجودياً وعقائدياً، لا حل له إلا بانتصار طرف على الآخر بشكل أخير ونهائي.
في الحقيقة، تبدو الإجابة في منطقة ما بين هذه الإجابات السهلة، والأمور أكثر تعقيداً من تبسيطها في إجابات السطر الواحد ذات الدلالات القاطعة. تتداخل عوامل يلعب فيها البعد الديني المذهبي دوراً ليس بالقليل في تشكيل المصلحة والرؤية والأهداف الكبرى للأطراف.
الأساطير التاريخية المؤسسة
بدأ الخلاف بين الشيعة والسنّة، حول مَن الأصلح لتولّي خلافة المسلمين بعد وفاة النبي محمد: أبو بكر الصديق أو علي بن أبي طالب؟ وهنا يبدو الأمر خلافاً سياسياً معتاداً بين مجموعات سياسية، وكان يمكن أن يموت بموت الأطراف المشاركة فيه. لكن طوال قرون، جرى شحن هذا الخلاف بمكونات مشاعرية وعقائدية تجاوزت شخوص المشاركين لتعبّئ الخيال الشعبي والسياسي لأجيال قادمة. فما بدا على أنه خلاف سياسي ابن ظرفه المكاني والزماني، انتهى ليصير اختلافاً عقائدياً عابراً للمكان، ومقاوماً للزمان، وقادراً على إعادة إنتاج نفسه في خطابات وصراعات وحروب تظهر كما لو كانت بلا نهاية.
ربما لم يكن المتجادلون في سقيفة بني ساعدة، بعد موت النبي، حول اختيار مَن يخلفه، يعرفون أنهم يؤسسون لجدل سياسي ومذهبي لن ينتهي بعد موتهم بـ15 قرناً، ولا يبدو أنه في طريقه إلى النهاية. فقد مرّ الخلاف السياسي السنّي-الشيعي بمحطات مهدت لتحويله إلى أحد أطول الصراعات الحيّة في التاريخ.
هل يمكن لأفكارٍ تخطّى عمر بعضها الألف سنة، أن تتحكم بمجرى حياتنا اليوم؟ بالطبع لا. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!.
وبالرغم من أن سقيفة بني ساعدة كانت المحطة الأولى للخلاف، إلا أنها لم تكن المحطة الأبرز لرفد الصراع ببعده الدرامي والعقائدي. بعدها، راح الخلاف ينضج على مهل، وينمو على ركام صراعات سياسية دارت حول سياسات عثمان بن عفان في حياته، والقصاص لدمه بعد وفاته، والصراع الطويل بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، ومقتل علي ونجاة معاوية.
بالرغم من ذلك كله، ظل التشيع في مراحله الأولى في إطاره السياسي، وظل المقصود به "التشيّع" لعلي (مناصرته/ تأييده)، في صراعه مع منافسيه ولفكرة أحقيته وأحقية أبنائه بعده في منصب الخلافة. حتى أن أحد أئمة أهل السنّة، أبا حنيفة النعمان، كان من شيعة علي، بالمعنى السياسي لا الديني، أي من المؤمنين بأحقيته في الخلافة، من دون أن يتبع ذلك تبني أفكار عقائدية حول عصمة الأئمة، أو غيرها من الأفكار التي شكّلت لاحقاً ما نعرفه اليوم بالمذهب الشيعي.
لكنّ حادثةً واحدةً كانت نقطة التحوّل الكبرى. إنها واقعة كربلاء التي شكلت الحدث الأكثر حضوراً في تحويل الخلاف من خلاف سياسي حول مَن الأولى بحكم المسلمين، إلى جدل عقائدي حول الحق الإلهي للأئمة.
خلق مصرع الحسين "كربلائيةً" ثقيلة الحضور على المشهد التاريخي، ومظلوميةً تبحث عن معانٍ دينية متجاوزة للخلاف السياسي ذي البعد الواحد، لصبغ الصراع بصبغة مقدسة مقاومة للزمن.
فكربلاء ظهرت كحدث ملحمي يقوم فيه شخص يمثّل البطولة، لما له من سمات شخصية ونسب، بمقاومة طرف أقوى حتى النفس الأخير، بالمعنى الحرفي لهذه العبارة. وشكّلت الحالة الكربلائية، بما تمثله من تصور لثنائية الظلم-المقاومة، ركناً أساسياً في التصورات الشيعية للعالم، وفي مقاومة التهميش السياسي والظلم الاجتماعي، سواء الحقيقي أو المتخيَّل، لطائفة دينية مثّلت أقليةً كبيرةً في العالم الإسلامي، وبقيت في أغلب الأحيان على الهامش الجغرافي والاقتصادي والسياسي للعالم الناطق بالعربية.
لفترات طويلة، ظل شيعة العراق وسوريا ولبنان يعانون من التهميش الاقتصادي والنبذ السياسي، ولا يزال شيعة السعودية والبحرين والكويت، والشيعة الموزّعون كأقليات صغيرة على دول عربية أخرى، يعانون.
الثورة الإيرانية تعيد الخلاف إلى الواجهة
ساعدت المظلومية الكربلائية في تحويل التشيّع إلى مذهب ذي طبيعة مقاوِمة يشحن المخيلة الدينية والعقائدية بمبدأ نصرة آل البيت. وظهرت عقيدة النص والوصية، أي أن الخلافة حق لعلي ونسله من بعده بوصية من النبي، في نص حديث غدير خُم، وعصمة الأئمة، أي أن الأئمة المختارين للحكم معصومون من الزلل والخطأ البشري، والاختيار الإلهي للحاكم، أي أن الإمام أو الحاكم مختار من الله مباشرةً بحكم نسبه إلى آل البيت وعصمته ولا دخل للأمة في هذا الاختيار.
ولكن غيبة الإمام الثاني عشر من أئمة الشيعة الاثني عشرية، وهو الإمام محمد بن الحسن المهدي، خلق فجوةً في الفكر الشيعي، كان لا بد من ملئها باجتهاد فقهي مناسب، ما أنتج نظرية ولاية الفقيه.
طور الشيعة الاثني عشرية نظرية ولاية الفقيه، وكانت طوال قرون تمنح الفقيه الولاية "الحسبية" على العامة، أي الولاية على شؤون كالزواج والطلاق والحضانة والميراث... إلخ، من دون أن تقترب من مفهوم الولاية السياسية عليهم.
ثم أتت الثورة الإيرانية في العصر الحديث، وشكّلت نقطة تحوّل أخرى في تحويل مذهب الإمامة الاثني عشرية (أحد أهم مذاهب الشيعة) إلى أيديولوجيا تغلّف مصالح جيوبوليتكيةً تتعارض مع المصالح الجيوبوليتكية للدول السنّية في المحيط العربي القريب من إيران.
أتت ثورة آيات الله الإيرانيين مع نسخة جديدة من نظرية ولاية الفقيه، كانت تتبلور في هوامش الحوزات الدينية منذ عقود، وفعّلتها بشكل عملي على يد آية الله الخميني، بعد نجاح الثورة سنة 1979. وبموجب هذه النظرية التي سُمّيت "عامةً" لتفريقها عن سابقاتها، يمارس مَن يتولى الولاية ما كان مخصصاً للإمام الغائب حتى يعود.
مَن يتولى منصب الولي الفقيه صار يتمتع بسلطة دينية وسياسية على عموم المسلمين، بشكل عابر للحدود، بما يجعل إيران مركزاً إمبراطورياً للعالم الإسلامي، أو "أم القرى"، بتعبير المؤرخ والسياسي الإيراني محمد جواد لاريجاني، في كتابه "مقولات في الإستراتيجية الوطنية". ومرشد الثورة صار أشبه بإمبراطور عابر للحدود، يطال سلطانه كل المسلمين المؤمنين به كنائب عن الإمام الغائب.
هكذا، دشنت الفكرة العقائدية الجديدة المطبَّقة في إيران صراعاً سياسياً لا يزال قائماً، وحددت في محيطها الجيوبولتيكي أهدافاً وخصوماً. فإيران، التي خرجت من ثورتها راغبةً في تصدير "فكرتها الأهم"، فعّلت في محيطها الحيوي شبكة ولاءات "مقدسة" عابرة للحدود تصنع روابط مع التجمعات الشيعية، في ما عدّته طهران محيطها الحيوي.
تفتيت الدول لخدمة توسع شيعي
منذ الثورة الإيرانية، حرص المسؤولون الإيرانيون على بناء عقيدة جيوبوليتكية جديدة ذات ثلاث ركائز: الأولى هي الإسلام الشيعي كعقيدة للتوسع، والثانية هي محور مقاومة إسرائيل ومِن ورائها أمريكا، والثالثة التأثير في الحركات الإسلامية السنّية واستخدام إيران كنموذج ملهم لهذه الحركات.
استخدمت إيران الدعامة الأولى لبناء تحالف موحد وقوي مع الطوائف الشيعية في الشرق الأوسط. وُظّف الفكر الإسلامي الشيعي ونظرية ولاية الفقيه كأداتيْ تجنيد لوكلاء وحلفاء محليين، ولتوسيع سيطرة طهران في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن. واعتمدت إيران تكتيكات عدةً تتراوح بين التأثير السياسي، وشراء الولاءات، والدعم العسكري لبناء جبهة موحدة خاصة بها. هذه الروابط الموالية والرافضة للدول الوطنية، تختار رؤية الفقيه الإيراني ومصلحته، إذا ما تعارضت مع أي مصلحة أخرى بما فيها المصالح الوطنية. بينما في المقابل، فشلت السعودية وحلفاؤها في تشكيل جبهة بالكفاءة نفسها، وظَهَر المعسكر السنّي أقل قدرةً على توحيد خطاباته وتكتيكاته.
كما استخدمت إيران ركيزة مقاومة إسرائيل ومعاداة الولايات المتحدة للترويج لصورتها في الرأي العام العربي، ومدّ جسور ترابط مع المجتمعات الإسلامية غير الشيعية، بغرض اكتساب رصيد يمكّنها من التأثير على تلك المجتمعات، وللتقليل من مصداقية السياسة الخارجية لدول عربية متحالفة مع الغرب، ولها صلات عميقة مع واشنطن. وعليه، تأسست شبكة تحالفات، وبالأخص مع التنظيمات الإسلامية السنّية الفلسطينية المنخرطة بشكل مباشر في الصراع المسلح مع إسرائيل، مثل حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي.
وأظهرت الثورة الإيرانية قدرتها على الانتشار كنموذج ملهم حتى للجماعات الإسلامية غير الشيعية، ونجحت في مغازلة خيال جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي. فقد سارع الإخوان المسلمون إلى التهنئة بنجاح الثورة، بل عدّتها أدبياتهم الأولى ثورةً إسلاميةً وجزءاً من الحركة الإسلامية العامة. ففي أيلول/ سبتمبر 1979، نشرت مجلة الدعوة، لسان حال الإخوان في مصر، حديثاً لأحد كبار منظري الإسلام السياسي، الباكستاني "أبو الأعلى المودودي"، يقول فيه: "ثورة الخميني ثورة إسلامية، والقائمون عليها هم جماعة إسلامية، وشباب تلقّوا التربية في الحركات الإسلامية، وعلى جميع المسلمين عامة والحركات الإسلامية خاصةً أن تؤيد هذه الثورة، وتتعاون معها في جميع المجالات".
وظل هذا الاحتفاء الإخواني بالثورة الإيرانية مستمراً في ما بعد، وصرح المرشد السابق للإخوان محمد مهدي عاكف، بأن "الإخوان المسلمين يدعمون أفكار مؤسس الجمهورية الإسلامية"، مضيفاً أن "فكرة الخميني، خاصةً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، هي استمرار لموقف الإخوان المسلمين تجاه محاربة الاحتلال". هذا التقارب بين إيران والجماعات الإسلامية المعارضة داخل المحيط السنّي، شكّل نقطة تهديد أخرى حتى للأنظمة السنّية البعيدة عن المواجهة المباشرة مع إيران.
مدخل السنّة الحديث إلى الصراع
بدأ الصدام السنّي الشيعي بشكل منتظم في العصر الحديث، مع تأسيس الدولة السعودية الأولى، إذ استهدفت القوات السعودية المراقد الشيعية في كربلاء والعتبات الشيعية المقدسة، كما في حادثة الهجوم على المراقد الشيعية في كربلاء سنة 1802.
كانت نسخة الإسلام الوهابي الذي أسس الشرعية الدينية للدولة السعودية في كل مراحلها، نسخةً معاديةً للتصوف والتشيّع معاً. ونظراً إلى الطبيعة التطهرية للعقيدة الوهابية التي ترفض التعايش في الفضاء نفسه مع نسخ مختلفة من الإسلام، دخلت السعودية في صدام ومواجهة مباشرة مع التصوف والتشيّع، ومارست التمييز ضد الشيعة في المنطقة الشرقية، وهو تمييز يرقى، وفقاً لتقارير حقوقية، إلى تمييز ممنهج.
لكن مع انتصار الثورة الإيرانية، دخلت إلى الصراع أبعاد وجودية، أساسها خوف دول وأنظمة سنّية من تمدد شيعي، واصطدم التفسير الشيعي القطعي للإسلام، بتفسير قطعي آخر بنسخته السلفية الوهابية.
استخدمت أنظمة الخليج القلقة أكثر النسخ عدائيةً في سعيها إلى وقف التوسعية الإيرانية. فقد دعمت السعودية ودول خليجية جماعات سلفيةً تكفّر الشيعة، وعادت مصطلحات التكفير إلى الظهور مع انتشار وصف حكام إيران بالروافض أو المجوس، في إشارة إلى الديانة الزرادشتية القديمة التي كانت منتشرةً في إيران قبل دخول الإسلام.
وامتدّ هذا النهج التكفيري إلى المؤسسات الرسمية السعودية. فقد رصدت تقارير حقوقية خطاباً تمييزاً على أساس ديني من خلال فتاوى دينية تقوم على تكفير الشيعة من رجال دين سعوديين لهم مناصب رسمية. على سبيل المثال، يصفهم عضو "هيئة كبار العلماء" السعودية صالح الفوزان، بأنهم "ليسوا إخواننا، بل هم إخوان الشيطان".
وفي تصريح لمفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، عام 2016، قال: "يجب أن نفهم أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهم أبناء المجوس، وعداؤهم مع المسلمين أمر قديم وتحديداً مع أهل السُنّة والجماعة".
انتشر الخطاب التكفيري المضاد بين الجماعات السلفية على طول العالم العربي وعرضه، سواء في ما يُعرف بالسلفية الدعوية، أو الجامية، أو الجهادية. وظهر الخطاب التكفيري كخط دفاع سنّي متشدد ضد محاولات التمدد الشيعي الإيراني وتصدير الثورة، كما حاولت السردية السنّية بناء تحالف عربي قومي يقاوم ما أسمته المد الفارسي الإيراني، وذلك من خلال تمويل الحرب العراقية على إيران، وهي حرب استخدم فيها نظام صدام حسين السرديات السنّية والقومية العربية نفسها، حول المجوس الفرس ومعركة القادسية... غير أن أطماع صدام التي تحولت إلى محيطه العربي، بعد فشل حربه مع إيران، أجهضت تلك المحاولة.
وعام 2003، مثّل الغزو الأمريكي للعراق نقطة تحوّل لصالح المشروع الشيعي الإيراني. إزاحة نظام صدام حسين كانت بمثابة الجائزة الكبرى لإيران، نظراً إلى وجود أكثرية شيعية في الداخل العراقي تدين بالولاء لعقيدة ولاية الفقيه، ما أسهم في إزاحة الوجود السنّي في هذا البلد، بعد حرب أهلية تبادلت فيها الجماعات السلفية الجهادية وكتائب الموت الشيعية تصفية الخصوم، وكانت الغلبة فيها لمَن يملك قيادةً موحدةً، وهي الجماعات الشيعية التي تدين بالولاء لإيران بطبيعة الحال، والتي واجهت جماعات سلفيةً انشطاريةً لا تملك مشروعاً متماسكاً ولا قيادةً موحدةً ولا ولاءً لدولة واحدة.
وتلقّى المحور السنّي الناشط في الحرب الطائفية ضربةً، بعد أن تحوّلت الجماعات السلفية الجهادية إلى عبء أمني على الأنظمة العربية، وصارت خطراً وجودياً ضد الداخل السنّي نفسه، وليس مجرد جماعات تحمل خطاباً غير مرغوب فيه، وهو ما كان قد ظهر منذ دخول قوات أمريكية إلى أراضي السعودية، في أثناء حرب الخليج الثانية.
وفي أحدث الفصول، مثّل الربيع العربي نقطة تحول أخرى، فقد حاولت كل من إيران من ناحية، والسعودية ودول خليجية من ناحية أخرى، ملء الفراغ الذي أحدثته الثورات العربية. وأظهر تماسك الشبكات الموالية لإيران فاعليةً أكثر في الانتشار في محيط جغرافي أوسع، وفي القدرة على تحييد الخصوم واحتوائهم والسيطرة على القرار السياسي والأمني في أكثر من بلد عربي، في مقابل تراجع الحضور السنّي السياسي في العراق، ولبنان، واليمن، وسوريا، خاصةً بعد التباعد بين الأنظمة العربية التقليدية وحركة الإخوان المسلمين التي صارت، بالصعود "الصاروخي" الذي حققته في دول الربيع العربي، الخطر الأول على هذه الأنظمة.
ومع امتلاك الحوثيين، وهم زيديون موالون سياسياً لإيران، زمام المبادرة في معظم مناطق اليمن، بعد دخولهم إلى صنعاء عام 2014، صارت السعودية نفسها في مرمى النيران الإيرانية، وسنحت الفرصة لإيران لتوجيه ضربات في العمق السعودي نفسه، وإيجاد موطئ قدم حول مضيق باب المندب.
ماذا بعد؟
يذهب المؤمنون بالمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية إلى أن الهدف من الصراع هو تحقيق المصالح العليا للأمم، وأن المصلحة، والمصلحة فقط، هي ما يخلق ثنائية الصراع أو التحالف.
لكن ما الذي يحدد رؤية طرف ما لمصلحته؟ مفهوم المصلحة لا يمكن فصله عن العقيدة والأفكار والتصوّر التي تمتلكها جماعة ما للعالم، كما هو الآن، وكما يجب أن يكون. فمصالح إيران تحت حكم الشاه تختلف عن مصالحها تحت حكم الجمهورية الإسلامية، بالرغم من أن إيران لم تزل هي نفسها. ما اختلف هو رؤيتها.
في العقود الأخيرة، تصاعد الصراع السنّي الشيعي على خلفية عقائدية ساهمت فيها التموضعات المذهبية والعقائدية للأطراف في رسم حدود المصالح القومية والحدود الجيوبوليتكية لكل طرف، واشتعل صراع يهدف فيه كل طرف إلى استنزاف الآخر أو تقويض قدراته.
نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي تجلّت كرؤية عملية للثورة الإيرانية، جعلت إيران تنظر إلى العالم الإسلامي على أنه مجال حيوي لها، وفقاً لتصورات نابعة من نظرة جيوبوليتكية ترى في إيران "أم القرى"، وترى أن حدود نفوذها يجب أن تكون أكبر من حدودها الجغرافية، أو بعبارة لاريجاني نفسه: "إذا ادّعت دولة أنها أم القرى، فيجب عليها أن ترفع مستوى قادتها إلى أبعد من حدودها الجغرافية".
في المقابل، ردّت الأدبيات السنّية بخطاب سلفي تكفيري يحاول هدم البناء النظري للطموحات الإيرانية ويحشد الجمهور السنّي في مواجهة مفتوحة مع إيران.
يظهر الصراع على أنه متعدد الأبعاد، ومنها البعد الديني المذهبي الذي يكمن في التصورات الدينية والعقائدية للطرفين، تلك التصورات التي تحدد لكل طرف ما هي مصالحه السياسية والقومية، وبينها بعد سياسي متعلق بمحاولة إيران السيطرة على النخب السياسية، واختطاف آليات صنع القرار في بعض البلاد العربية، مقابل محاولة المحور السنّي تفكيك الشبكات الشيعية الموالية لإيران وتعظيم التناقضات الشيعية-الشيعية. كما أن للصراع بعداً أمنياً تحاول من خلاله إيران خلخلة أمن الدول والأنظمة المعادية لها في محيطها العربي، ما يدفع تلك الدول إلى الاستعانة بوجود أجنبي. وله بعد جيوبوليتيكي أيضاً، يرتبط بمصالح الأطراف الجغرافية في ممرات بحرية في الخليج وباب المندب والبحر الأحمر والسيطرة على الملاحة في هذه الممرات التي تتحكم بتجارة النفط العالمية.
وبالرغم من فاعلية المشروع الشيعي الإيراني في تحقيق أهدافه، بالمقارنة مع المحور السنّي المتشظي، إلا أن المشروع الإيراني تعرّض مؤخراً لمقاومة تنمو في مراكز كانت تُعدّ مناطق نفوذه. فقد أسفر الغضب العراقي من التدخلات الإيرانية في المسار السياسي والأمني للبلاد، وتفشي الفساد والطائفية بين المجموعات العراقية الموالية لإيران، عن ظهور انقسام شيعي-شيعي، ما يعرّض مشروع طهران في هذا البلد المهم لانتكاسة كبيرة.
كذلك أدت ممارسات حزب الله التي أضعفت الدولة اللبنانية على المستويين السياسي والاقتصادي، إلى انفراط عقد المظلة الوطنية التي كانت تحمي هذا الحزب بوصفه حركة مقاومة ضد إسرائيل، بالرغم من أنه لا يزال قوةً عسكريةً يصعب التخلص منها في وقت قريب.
وفي اليمن، يواجَه الحوثيون بمقاومة محلية وإقليمية تجعلهم غير قادرين على الانفراد في حكم اليمن، ولا حتى على حكم المناطق التي يسيطرون عليها بفعالية تسمح لهم بالاستمرار.
وفوق ذلك كله، لا تظهر إيران الغارقة في مشكلات اقتصادية واجتماعية، كتجربة نجاح في أعين الجماهير العربية، سواء من السنّة أو الشيعة، ما يضع نموذجها برمته تحت المساءلة.
وفي المقابل، تتجه الأنظمة الخليجية مؤخراً إلى فك ارتباطاتها بالخطاب المذهبي الذي استندت إليه في العقود الأربعة الأخيرة. بدورها، أنفقت حركة الإخوان المسلمين الكثير من الرصيد الذي راكمته منذ أربعينيات القرن الماضي، في أخطائها التي ارتكبتها في أثناء صعودها إلى واجهة السلطة في أكثر من دولة عربية.
فهل صرنا في مرحلة أفول الصراعات المذهبية، وتراجع مشاريع الدول الدينية الطائفية، ودخلنا في عصر يتحول فيه الجدل من جدل حول المذاهب الدينية إلى جدل حداثي حول ما المطلوب في السياسة والاقتصاد؟ وعليه، هل يمكن قراءة الاتفاق السعودي الإيراني الأخير المعقود برعاية صينية من هذا المنظار؟ الجواب بنعم قاصر. والجواب بلا قاصر أيضاً. ما اعتمل في النفوس طوال قرون، يمكن أن ينام فجأةً، ويمكن أن يعيد أحدهم إيقاظه فجأةً. طالما بقيت عوامل الصراعات الدنيوية قائمةً بين الناس، طالما بقي إمكان الاستثمار في الدين قائماً.
رصيف 22