علاء زريفة
لطالما كان المفكرون المسلمون، في مختلف العصور، يرون أن الإسلام عقيدة ترفض نمو القومية، ويدعون إلى التخلّي عن أي نوع من العصبيات، ما عدا عصبيتهم الإسلامية. ولكن سياسة البطش العثماني، وبروز العنصر التركي في السياسة العثمانية، غيّرا مسارات الأمور.
يوضح زين نور الدين زين، في مؤلفه "نشوء القومية العربية"، أن "القرن التاسع عشر لم يعرف ‘قضيةً عربيةً’ في المحافل السياسية الدولية. وقليلاً ما كانت لفظة ‘عرب’ ذاتها تُطلَق في الكتب والوثائق على سكان الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، وإنما كانت تُطلَق على بدو الصحراء، وعلى سكّان الأرياف في الشرق الأدنى، وكان الناس يستعملون لفظتَي ‘مسلم’، و’مسيحي’، للتمييز بين الفئتين الكبيرتين من السكّان في هذه المنطقة".
ربما لهذه الأسباب، كان روّاد حركة القومية العربية من المسيحيين، قبل أن ينتقل هذا الدور إلى مسلمين، وتلتحم الفئتان في حركةٍ واحدةٍ لا تعرف التفرقة.
ولم يكن غريباً أن يسعى المسيحيون العرب إلى خلق إطارٍ سياسيٍ يتجاوز كونهم رعايا للدولة العثمانية، التي "عاملتهم وفقاً لنظام الملّة المستنبطة قواعده من أحكام الشريعة الإسلامية"، حسب فدوى نصيرات، في كتابها "المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية في بلاد الشام ومصر (1840-1918م)"، إذ عُدّ المسيحيون "أهل "ذمة"، و"بيّن كثير من الأحداث سوء المعاملة التي كانوا يلقونها من عامة الناس، والسلطات، على حدٍّ سواء".
ولعبت عوامل عدة دوراً في نمو الروح القومية بين المسيحيين. يذكر زين نور الدين زين، في كتابه السابق الذكر، أن من العوامل التي كانت تعمل في لبنان على خلق روح العداء نحو الأتراك، "انتشار التعليم الغربي، وتغلغل آراء الثورة الفرنسية، وإحياء اللغة العربية وآدابها، وتأسيس المطابع، وإنشاء الصحف، والسياحة إلى الخارج، وعودة بعض المهاجرين اللبنانيين من أميركا الشمالية".
ويضيف أن "العامل الرئيسي لهذا الشعور العدائي نحو الأتراك، هو أن المسيحيين كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنين غرباء في بحرٍ شاسعٍ من السيادة التركية. وبكلامٍ بسيط، لم يشعروا في ظل الحكم العثماني بأن الحكومة العثمانية حكومتهم. وعند منتصف القرن التاسع عشر، ظهر عامل آخر دفع بهم للمطالبة باستقلالهم، وهو نشوب الحرب الأهلية في لبنان سنة 1860".
دور الإرساليات التبشيرية
في كتابه "يقظة العرب"، يقول جورج أنطونيوس إن "الحكم السمح" لإبراهيم باشا في بلاد الشام، "فتح الباب للجمعيات التبشيرية الأوروبية، وبهذا فتح المجال أمام قوّتين فرنسية والثانية أمريكية، أصبحتا في ما بينهما الراعيتين للبعث العربي". ويوافقه في ذلك محمد كامل الخطيب، في كتابه "القومية والوحدة"، مضيفاً أن البعثات التبشيرية الكاثوليكية والأمريكية البروتستانية ساهمت "إسهاماً كبيراً في النهضة العربية".
"قامت المدارس الحديثة على أكتاف الإرساليات التبشيرية"، حسب تعبير توفيق برو في كتابه "القومية العربية في القرن التاسع عشر"، ومن بينها مدرسة "عين ورقة" التي "كانت تُعنى بتشجيع دراسة الأدب العربي، وقد تخرج منها أبرز أدباء القرن التاسع عشر، وأساتذته، وعلمائه، ومن أشهرهم الشيخان ناصيف اليازجي وبطرس البستاني".
بدوره، يذكر زين نور الدين زين، أن "انتشار الأفكار السياسية والديمقراطية الغربية في الولايات الـ’آسيوية الداخلة في الإمبراطورية العثمانية، ناجم عن أثر المعاهد التربوية الغربية، ولا نكران أن البعثات التبشيرية من أفرنسية وأميركية وروسية وغيرها، كالإرسالية الإنكليزية في سوريا، والإرسالية الروسية القيصرية، كانت تعمل على تنشئة جيل جديد على أسسٍ غربية في الشرق الأدنى".
أسس اليسوعيون والإرسالية المشيخية الأمريكية، مدارس في مناطق مختلفة، منذ بداية القرن التاسع عشر، غير أن "أكبر مؤسستين تربويتين كانتا الكلية السورية الإنجيلية (وهي الآن الجامعة الأمريكية في بيروت) التي تأسست في عام 1866، وجامعة القديس يوسف (اليسوعية) التي تأسست في عام 1875".
لكن زين يرى أن دور المدارس التبشيرية في توعية الجيل العربي، قومياً وسياسياً، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مبالغ في أهميته كثيراً. يقول إن المبشّرين قدموا إلى منطقة الشرق الأدنى بغرض نشر الدين المسيحي، و"كانت مدارسهم مدارس مسيحية أولاً وأخيراً".
نموّ الشعور القومي عند العرب
في كتابه "في القومية والحرية"، يقول محمد علي حسن: "نما بعد منتصف القرن التاسع عشر، وعي عميق، وشعور متزايد، بالكيان القومي بعد أن شقّ التعليم طريقه، وبدأت نفحات الإحياء الأدبي تهبّ على العرب الذين تفتّحت أذهانهم، وتطلعوا إلى ماضيهم المجيد، مقارنين ذلك بحاضرهم الأسود".
هذا ما يذهب إليه أيضاً توفيق برو، قائلاً: "بينما كانت الآستانة تسير باتجاه الحكم المركزي المحكم الحلقات على أجزاء المملكة العثمانية المترامية الأطراف، والتي تشغل الولايات العربية جزءاً كبيراً منها، كانت التطورات المحلية في البلاد العربية تسير في طريق مناقضة لا تأتلف مع السياسة التي اتّبعتها الدولة في تشديد قبضتها عليها".
ويضيف أن "الأمة العربية بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر، تتجه نحو الوعي والشعور بالكيان القومي، بعد أن كثرت مدارسها، وتعددت مطابعها، وانتشرت الكتب والصحف في أيدي أبنائها انتشاراً لم تعهد له مثيلاً من قبل، فعمّ التعليم معظم الأوساط، وتفتّحت الأذهان، ووعى معظم الناس تاريخ أمّتهم، وبدأت نفحة الإحياء الأدبي تهبّ على العرب، فكان ذلك مقدمة لحركة سياسية تحمل الطابع القومي".
كان المسيحيون يساهمون بنشاطٍ في الاقتصاد، وكانوا يتمتعون بحماية فرنسا التقليدية، وامتيازاتها داخل الإمبراطورية العثمانية، ولعبوا، حسب محمد كامل الخطيب، "دور الوسيط بين العرب والعالم الغربي، وقد أتاح لهم هذا الوضع أيضاً سبق التأثر بالفكر الغربي، والحضارة الغربية".
بعد مرحلة المنوّرين، وروّاد الإحياء الأدبي، انتقلت الأمور إلى طورٍ جديد، هو طور العمل والنشاط الثوري في الجمعيات العلنية والسرية التي بدأت تناضل سياسياً من أجل الفكرة القومية.
يذكر زين نور الدين زين، أن أولى المطالب المسيحية بالاستقلال عن الدولة العثمانية، أتت بعد الحرب الأهلية في لبنان عام 1860، عادّاً أنه "كان من الطبيعي بعد تلك الحوادث المريعة التي وقعت في تلك السنة، أن يطالب موارنة لبنان بالانفصال التام عن الإمبراطورية العثمانية".
شعر المسيحيون "بضرورة توفير نوعٍ من الحماية الأجنبية"، حسب زين، وآثروا الحماية الفرنسية، "لأن فرنسا تقليدياً كانت حامية الموارنة في الشرق الأدنى".
ويضيف أنه "ليس هناك مبرر للاستنتاج... أن الحرب الأهلية (1860)، كانت حركةً أثارتها الروح القومية العربية، وأن هدفها كان هدفاً وطنياً، لا حرباً طائفية، لأن الحركة المناوئة للأتراك في لبنان في القرن التاسع عشر، كانت بوجه الإجمال، مارونيةً لبنانية، ولا يمكن اعتبارها ثورةً عربيةً وطنيةً في الشرق ضد الحكم التركي، فلم تكن غالبية المسلمين الساحقة في الولايات التي يحكمها السلطان ترغب، آنذاك، في الخروج على الحكومة الإسلامية، والقضاء عليها".
وشيئاً فشيئاً ازداد حضور الفكر القومي، وطالب "المثقفون الذين تأثّروا بثقافة الغرب، وحضارته، وأدركوا أثر العلم في نهوض الأمم، وتقدّمها في سائر مناحي الحياة"، بالتخلص من الواقع العثماني، وذلك بعدما "وقفوا على واقع العثمانيين، وفسادهم، وإهمالهم، وبطشهم، وظلمهم، في داخل البلاد، وعجزهم عن رد أي اعتداء عليها، كما فعلوا في الجزائر، وتونس، ومصر"، حسب ما يذكر محمد علي حسن، في مؤلفه "في القومية والحرية".
روّاد مسيحيون في حركة الإحياء القومي
ناصيف اليازجي (1800-1871)
أديب وشاعر لبناني، اسمه الكامل ناصيف بن عبد الله بن جنبلاط بن سعد اليازجي. وُلد في قرية كفرشيما اللبنانية، في آذار/ مارس من عام 1800.
يقول الدكتور عبد الله رافق، في كتابه "المشرق العربي في العهد العثماني"، إنه "درس على الطريقة التقليدية التي لم تنجح في إثارة مواهبه، فتحوّل إلى المخطوطات في الأديرة، وتعرّف على عظمة التراث القديم، وأصبح شغله الشاغل بعد هذا، إحياء الماضي، فقد أثار جمال الأدب الديني ذلك العربي الكامن في نفسه، فألّف الكتب المدرسية في العلوم العربية، وعمّ انتشارها إلى ما بعد وفاته، في عام 1871".
ويضيف: "بعد أن ترك ناصيف اليازجي خدمة الأمير بشير الثاني الشهابي، في عام 1840، انقطع إلى قريته، قرب بيروت، يعلّم العربية التي لا يتقن سواها، ويعقد الحلقات التعليمية للعرب، وتظهر مقاماته التي أصدرها في كتابه ‘مجمع البحرين’، وقلّد بها الحريري، معرفته القوية باللغة العربية".
ويذكر توفيق برو في كتابه المذكور، تأسيس اليازجي برفقة بطرس البستاني لـ"جمعية الآداب والعلوم"، سنة 1847، والتي كان أكثر أعضائها من المسيحيين السوريين المقيمين في بيروت.
ويتابع أن ابنه إبراهيم خلَفَه، وأصدر مجلتَي البنان والضياء، سنة 1883، و"تغنّى بأمجاد العرب، ودعا إلى التسامح الديني بقصائده، وكان لقصيدته التي نبّه فيها العرب، أثر كبير في تأجيج النفوس، و التي يقول في مطلعها: تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب".
بطرس البستاني (1819-1883)
وُلد في بيروت، وهو أديبٌ ومربٍّ، ومؤرخ موسوعي لبناني. يذكر الدكتور عبد الله رافق، أنه "درس في مدرسة عين ورقة المارونية، وانصرف إلى التعليم بعد ذلك، كما أنه اعتنق البروتستانية، واحتكّ بالإرساليات الغربية".
ويضيف رافق أنه "عكف على تأليف قاموس اللغة العربية الذي ظهر في جزئين في عام 1870، بعنوان ‘محيط المحيط’، واختصره في ما بعد إلى ‘قطر المحيط’، لكي يصبح في متناول الطلاب. ثم انتقل إلى وضع موسوعة عربية باسم ‘دائرة المعارف العربية’، ظهرت في ستة مجلدات قيل وفاته، وأتمّها أبناؤه وبعض أقربائه بعد ذلك، وظهر منها أحد عشر جزءاً بمجموعها".
ويقول توفيق برو، إنه "اندمج مع رجال الإرسالية البرسبتيرية الإنجيلية، بعد أن اعتنق هذا المذهب، وبدأ يعمل معهم جنباً إلى جنب، معلّماً للّغة العربية في مدارسهم، ومؤلفاً لكتبها، وبفضل معرفته للغاتٍ أجنبيةٍ كثيرة، ولغاتٍ شرقيةٍ قديمة، تمكّن من ترجمة التوراة إلى اللغة العربية".
ويذكر زين نور الدين زين، أن البستاني "أسس في عام 1863، المدرسة الوطنية التي قامت على الفكرة الوطنية، وليس الدينية، وقد أيّد الاقتباس من الغرب، شريطة ملائمة ذلك للأوضاع المحلية، واتّخذ من الحديث المنسوب إلى النبي العربي، ‘حبّ الوطن من الإيمان’، شعاراً لأشهر صحفه الأسبوعية على الإطلاق؛ ‘نفير سوريا’، التي أصدرها في عام 1860، في أوج الحرب الطائفية، وخاطب من خلالها، أبناء الوطن، ووقّع مقالاته باسم ‘محبّ الوطن’".
نجيب عازوري (1870-1916)
في كتابه "القومية والديمقراطية والثورة"، يقول عبد الكريم الحسني، أن عازوري "من مواليد عازور، القريبة من جزّين في جنوب لبنان. وُلد في تاريخٍ غير مقرون على وجه الدقة، والأرجح أنه في العام 1870، والتحق بمدرسة الغزير في بيروت، وتخرّج من معهد الدراسات العليا في باريس، وشغل منصب مساعد حاكم القدس (1898-1904)، ثم اعتزل المنصب ليتفرغ للعمل السياسي، وجاهر بالدعوة إلى استقلال سورية، وفصلها عن الدولة العثمانية، وحينما حُكم عليه بالإعدام من قبل تركيا، نزح إلى مصر، ومنها إلى باريس. كان هدفه المعلن تحرير الشام والعراق من السيطرة التركية".
وينقل الحسني، قول ساطع الحصري في عازوري: "إن القومية العربية بدأت بنجيب عازوري الذي يضع آماله العربية السورية في فرنسا أولاً، وفي إنكلترا ثانياً".
ويقول صاحب "يقظة العرب"، إنه كان لنجيب عازوري دورٌ كبير في تأسيس حزب قومي عربي في باريس، أسماه "حزب جامعة الوطن العربي"، سنة 1904، ونشر عام 1905 كتاب "يقظة الأمة العربية"، باللغة الفرنسية، قبل أن يُترجَم إلى العربية، وأصدر بالاشتراك مع كتّابٍ فرنسيين مجلة "الاستقلال العربي".
كذلك، يورد الحسني أن عازوري "يُعدّ من أوائل الذين تنبّهوا بقوةٍ إلى المخاطر المتوقعة من صعود الحركة الصهيونية، وللأسف الشديد فإن كتابه ‘الخطر اليهودي العالمي’، لم يصلنا البتة".
ويتابع أنه "كان من دعاة قيام أمة عربية في الجزء الآسيوي من بلاد العرب فقط"، إلا أنه كان يرى أن قيام كيانٍ عربيٍ مرهون بفكرة الحماية الأجنبية، ولذلك "كان يؤيّد بقوةٍ نظام الحماية الفرنسي في المشرق، ولطالما دافع عنه بلا كلل".
وينقل عن نجيب عازوري قوله إن "فرنسا رسولٌ نشط ومتحمس للفكر الحرّ، وهي مشعل الحضارة والحرية الأسطع إشعاعاً، إلى جانب كونها حامية المقهورين. أما إنكلترا، فهي المنافسة الشريفة لفرنسا، المأوى السخي للفكر والقيم الإنسانية".
رصيف 22