كريم شفيق
في بنها، في كل شارع في الأحياء والمناطق الشعبية، يوجد مسجد، وهي ظاهرة باتت منتشرة منذ منتصف السبعينيات، مع العائدين من السعودية والخليج. إذ يُبنى مسجد أسفل كل عمارة جديدة يتم تشييدها، وكثيراً ما يكون السبب سعي الباني إلى إعفائه من دفع الضرائب، أو حماية عقاره من الإزالة، إذا كان مخالفاً، إذ يستحيل هدم مسجد.
في مسجدين تابعين إلى جمعية أنصار السنة المحمدية، إحدى الجماعات الدينية والدعوية بمدينة بنها شمال القاهرة، حضرنا خطبتين للجمعة في أسبوعين متفاوتين.
في المسجد المعروف باسم أنصار السنة المحمدية على أطراف المدينة، وهو يتّسع لنحو مئتي مصلٍ، كانت خطبة الخطيب شعبان حمدي (33 عاماً)، وهو خريج دار علوم، غير معنية بموضوع محدد ومتماسك.
"النصارى ومؤامراتهم على الإسلام"
كانت الخطبة عبارة عن عدة نصوص ملحمية، لا تحمل مضموناً مباشراً. تحدث عن الأمن وواجب ولي الأمر في تنفيذ كل الشروط التي تضمن للمجتمع سلامته. ثم تحدث عن الأمن "الغذائي"، واعتبار أن شرط الحاكم الصالح هو توفير السلع بوفرة في السوق، وحمايتها من جشع التجار، وأن تكون بحوزة تجار مسلمين يحفظون الموازين من التلاعب، ولا يحتكرون البضائع ويرفعون أسعارها.
ربما كان ذلك مناسباً لما تشهده القاهرة من شح في السلع الغذائية والأدوية، بسبب أزمة ارتفاع الدولار، والزيادات غير المستقرة. لكن ذلك الخيط المشدود عن الأزمة كان منعرجاً للحديث بعض الوقت عن النصارى ومؤامراتهم على الإسلام، وأنه ينبغي عدم التشبه بهم بحسب صحيح السنة.
وانصرف في بقية حديثه إلى ترتيب الأكثر خطورة على تماسك الأمة الإسلامية، والتي تهدد هويتها، وتبخس من عقيدتها، وتبدل من سلوكها وتفسد قيمها وأخلاقها، بسبب جمع الشيعة والعلمانيين، لأنهم على عكس النصارى واليهود، المختلفين صراحةً عقائدياً وتأثيرهم محدود. واعتبر أن وصفهم بالكفر مشروع ومباح، وبالتالي تهيئة الناس لمخالفتهم والحذر منهم سهل.
وحذّر من أن العلماني والشيعي يتقاسمان بغالبيتهم تسمية الإسلام، وينخدع فيهما "عوام" الناس، ويخلطون بين الدين وأفكارهما الآثمة والتغريبية. وقال: "نعاني مشقة تنقية العقيدة مما دخل عليها بسببهما".
نال أهل البدع والمخالفون للهدى النبوي نصيبهم من الدعاء بالحشر في جهنم، وسمى هؤلاء "أهل التصوف والرهبنة وتيار الإلحاد وطالبي الشفاعة من القبور الوثنية ممن يتبركون بأضرحة الأولياء".
تنقية أفكار المسلمين من المنطق
بدت الخطبة الثانية التي أداها الشيخ إبراهيم نور (45 عاماً)، الحاصل على ليسانس آداب لغة عربية، في مسجد التوحيد، وهي زاوية صغيرة لا تتسع لأكثر من عشرات المصلين، أكثر رصانة وتماسكاً في وحدة موضوعها. وإن لم تخل من التطرف والتشدد المعهودين في وصم المختلفين عن اتباع ما يعرف بـ"منهج أهل السنة والسلف" بالكفر والمروق، ووعد التيارات الفكرية بالعذاب في النار.
انخرطت الخطبة في الحديث عن الفرقة الناجية، فوعدهم النبي بالنجاة بعد افتراق الأمة لثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. وذكر الحديث النبوي الشهير الذي يصف الفرقة الناجية بأنها: "هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
وتتابعت نصائحه بتنقية أفكار المسلمين وعقيدتهم، من شبهة الانحراف والفتنة، وعدم الخروج على طاعة القرآن والسنة. وقال: "لا تبنِ عقيدتك بقواعد المنطق، وتنهل من فلسفات الغرب وأفكار علم الكلام الموروثة عن فلاسفة اليونان وشركهم الوثني، الذي أدى إلى تصدع المجتمعات الإسلامية".
وأضاف: "المجتمعات المادية الغربية الكافرة وصلت إلى كل ما تملكه من نفوذ مادي، لكن هذا سيقودها إلى الدمار والانحدار. فتلك المجتمعات البهيمية عقيدتها باطلة. قوة العقيدة وصحتها، ينبغي ألا تنفكا عن القوة المادية التي توجههما وترشدهما، لمرضاة الله وهداية عباده. فالانحراف عن العقيدة يقود إلى التهلكة، ويحجب عن الفرد سبل الحياة السعيدة. فتتراكم على نفسه الهموم والضيق، ويصبح فريسة للشكوك والأفكار الباطلة، فيكثر البلاء ويتخلص الشباب من حياتهم ولو بالانتحار دون سبيل الله".
ودان وسائل الإعلام التي تروج لمنتجات وسلع الغرب الفكرية والمادية، وتهيئة المجتمع الإسلامي للانفتاح على الغرب، وقبول أفكاره وسلوك الغربيين وقيمهم، التي تسبب نشوء جيل أعزل أمام جيوش الإلحاد، دون أن تهتم بما يُقَوِّمُ الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة ويقاوم التيارات المنحرفة".
في الفصل الأخير من الخطبة، نال الشيعة نصيباً من الهجوم، باعتبارهم يتخفون وراء قناع "التقية" الذي يحجبون به أفكارهم الحقيقية. فهؤلاء عبادتهم تعظيم الموتى وتقديس القبور، وسب الصحابة وأمهات المؤمنين، مثل من يعبد الكواكب، والمجوسي الذي يعبد النار.
وتبرأ من كل الدعوات التي تدعو إلى التقارب بين أهل السنة والشيعة بدون أن يكون أساسها إيمانهم بـ"التوحيد"، والتوقف عن سب الصحابة وعدم المغالاة في حب علي، وخلع صفات الألوهية على أئمتهم المعصومين.
إجراءات الرقابة على المساجد
منذ ما بعد الثلاثين من يونيو، دأبت الدولة على اتخاذ عدة إجراءات وقيود لمصادرة المساجد والزوايا، التي ظلت بحوزة وسيطرة الجماعات الدينية والدعوية، مثل الجمعية الشرعية، وأنصار السنة المحمدية، وشيوخ السلفيين.
لا يصطدم كثير من أئمة وشيوخ أنصار السنة المحمدية مع الأوقاف، فهي مجرد هيئة تشرف على نشاطها، فضلاً عن أن دور الجمعية الدعوي لا يتحرى نشاطاً سياسياً، ويبتعد عن مهاجمة الدولة، واتخاذ موقف سياسي منها.
في إطار حملتها على المساجد والزوايا، دأبت الدولة على استعادة ساحات العمل الدعوي من نفوذ الإخوان المسلمين، والتيارات الموالية لهم، لتأميم الخطاب الديني، وتجفيف المنابع التي تتنامى فيها أي معارضة للنظام السياسي. فوضعت الأوقاف قبضتها على المساجد الكبرى، التي كانت لها الأولوية على غيرها من المساجد الصغيرة والأهلية، لتأثيرها المضاعف بسبب وجودها في مدن كبيرة، ومساحاتها التي تستوعب مصلين أكثر، وشهرة المسجد نفسه.
كان من بين المعارضين للإخوان أحمد البهي، منسق حركة "أئمة بلا قيود"، الذي همش وتولى إمامة مسجد صغير في كفر الدوار شمال القاهرة. ثم تولى بعد عزل الإخوان، إمامة مسجد سيدي جابر بالإسكندرية، وهو من أكبر المساجد وأبرزها.
في المقابل، تم وقف دروس الدكتورة هبة رؤوف عزت في مسجد السلطان حسن، إبان فترة حكم عبد الفتاح السيسي، لأنها تناولت موضوعات تاريخية، من كتاب مقدمة ابن خلدون. فاعتبروا أنها تخلط بين العمل الدعوي والسياسي، وتوظف بعض الموضوعات التاريخية، كإسقاط على الواقع والتحريض ضده.
وفي ما يتصل بشيوخ السلفية، خفت حضورهم، وتراجع وجودهم في المساجد المعروفة والكبيرة، التي ظلت رهن الموقف السياسي ومدى استجاباتهم لخطط الوزارة وتوجهاتها.
لكن بالرغم من تلك التدابير والملاحقات الإدارية والقانونية، لكل من يبدو خارجاً عن السياق الجديد وتبعاته، لا تزال العديد من المساجد التابعة لوزارة الأوقاف يعتلي منابرها أئمة وشيوخ بدون مؤهلات، وغير مقيدين بوزارة الأوقاف والأزهر، فضلاً عن عدم التزام أي منهم بخطاب ليس فيه تحريض سياسي وطائفي على خصومهم.
وبينما هناك أكثر من 88 ألف مسجد حكومي تديرها وزارة الأوقاف، ونحو 24 ألف مسجد صغير، تشرف عليها الوزارة دعوياً، فضلاً عن المساجد الأهلية والتابعة للجمعيات الدينية. فعدد الأئمة المتعاقدين مع وزارة الأوقاف بنظام المكافأة مقابل أداء خطبة الجمعة، هو 28 ألفاً، وهذا عدد ضعيف، يجعل شخصية الدولة تتضاءل أمام فرض سيطرتها على الخطاب الديني بشكل كامل.
تملك جمعية أنصار السنة أكثر من 1750 مسجداً، تعتمد في تمويلها على الأوقاف الخاصة لأنصار السنة، وتبرعات المنتمين للأنصار داخل مصر وخارجها والمشروعات الخاصة بالجماعة. بالإضافة إلى طباعة الكتب والمجلات، التي تنشر أفكارهم وأدبياتهم.
تأثيرات للحل الأمني
يشير كمال حبيب، الباحث فى شؤون الجماعات الإسلامية، إلى أن ما يجري فى المجال العام من تراجع للحريات تحت دعاوى القضاء على الإرهاب والفكر المتطرف، ينعكس على المجال الديني وممارسته خارج رقابة الدولة التى أممت المساجد، ولن تسمح بمعارضة أو منافسة أو خروج على الخط العام، الذي يؤيد سياساتها، ومنع أي تأثير خارجي على المواطنين.
وقال لرصيف22: "نحن بحاجة إلى الابتعاد عن الخلافات الحزبية والطائفية داخل المساجد وفي ساحات العمل الدعوي".
وشدد على أنه لا ينبغى أن يكون كل نقد للدولة فى هذا الإطار هو اتهام جاهز بـ"الإخوانية" حتى لا يفرغ الخطاب الديني من مضمونه.
ورأى أحمد بان، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، أن دور المؤسسة الدينية الرسمية تراجع وتضاءل لعقود طويلة، بسبب التوظيف السياسي للدين لمصلحة الدولة والنخبة الحاكمة، وهذا ما تسبب في سقوط مكانتها لدى قطاعات واسعة من الجمهور، وسمح ببروز خطاب مواز للخطاب الرسمي، شكلته التيارات الدينية مثل جماعة الإخوان والسلفيين.
وأضاف لرصيف22: "ما يجري حالياً هو إحدى حلقات صراع الدولة الوطنية مع الجماعات الحركية، التي تتبنى فكرة الرابطة الإسلامية مقابل الوحدة الوطنية، ما يفرض على الدولة أن تتبنى رؤية، يبقى الأزهر فيها مؤسسة ضمير ديني غير خاضعة لأي توظيف، وأن توفر لها درجة من الاستقلال المالي والإداري والفني، يكون على مسافة واحدة من الجميع ولا تختزلها في أداء أدوار معينة".
رصيف 22