صفاء سرور:
أعلنت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الاثنين، 27 فبراير/ شباط 2023، عن إطلاق "خريطة الحريات الدينية" في مصر، بعد ست سنوات من العمل عليها، بهدف "توفير مرجع توثيقي" لكل ما يتعلق بحرية الدين والمعتقد وما يواجه ذلك الحق من انتهاكات.
الخريطة التي اطلع رصيف22 عليها، تضمنّت ثلاثة محاور رئيسية، هي "تحقيقات النيابة والمحاكمات، وتطورات سياسية، وتمييز وعنف طائفي". واشتمل كل محور على بنود موثّقة تحمل تصنيفاً جغرافياً وزمنياً لكل واقعة أو حدث، كما يظهر لدى الضغط على الخريطة.
الخريطة تغطي الفترة الممتدة من عام 2017 إلى عام 2021، من خلال ألف مادة خبرية وتقريرية، كبداية لتوثيق كل ما من شأنه التأثير على حالة حرية الدين والمعتقد في مصر.
تبسيط معلوماتي
في حديثه مع رصيف22، يُعرّف إسحاق إبراهيم، الباحث الأول، والمسؤول عن برنامج حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، المشروع الذي كان هو واحداً من صنّاعه: "هو ببساطة خريطة أو موقع تابع للمبادرة يُقدّم رصداً وتوثيقاً لحالة حرية المعتقد تحت مظلة أوسع من المحاكمات والأحداث. وهو يرصد أيضاً قوانين وقرارات سياسية وأنشطة ومبادرات إيجابية تتعلق بحرية الاعتقاد ووضع الدين في المجال العام".
حديث إبراهيم يتّسق مع ما بدا في الخريطة من إحصائيات تشرح عبر البيانات العديد من الأمور، منها ما رصدته المبادرة. وهناك محور "تطورات سياسية" المتصل بالمحافظات، للمثال "إطلاق وثيقة مستقبل المسيحيين في الشرق الأوسط، وتوفيق أوضاع 306 كنائس ومبان بالمنيا، وانسحاب كهنة المنوفية من بيت العائلة احتجاجاً على عدم التدخل لرجوع سيدة مختطفة".
الحريات لا تتجزأ. لا يمكنكم الانتقاء منها. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!.
وعن مصاعب إصدار تلك الخريطة في ظل صعوبة الوصول إلى المعلومات والوثائق الرسمية في مصر، يقول إبراهيم: "المعوقات التي تواجه الباحثين والصحافيين في أعمالهم، وأبرزها إتاحة المعلومات، جعلت إعداد الخريطة مهمة صعبة، خاصة أننا موقع (يقصد موقع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية) لا يُعيد نشر ما ينشره الآخرون، بل نعتمد على ما نرصده، ومصادرنا هي الحالات التي نستوثق مما تعرّضت له".
لكن رغم الصعوبات، كان لا بد من ظهور الخريطة للنور، لأسباب عدة، منها ما ذكره عمرو عبد الرحمن، مدير وحدة الحريات المدنية بالمبادرة، لرصيف22: "التقارير ربع السنوية التي نُصدرها منذ أعوام عن حالة حرية الدين والمعتقد في مصر أصبحت مع الوقت تتقادم، ما سيصعّب البحث فيها ورصد استنتاجات إحصائية تتعلق بتاريخ أو مكان معين، كما أن صيغتها ليست سلسة كفاية لتسمح للباحث التجاوب والتفاعل".
ويقول إبراهيم عن الخريطة: "في ظل صعوبة الحصول على المعلومة، واستكمالاً لجهود المبادرة، كانت فكرتنا اهي إعادة تقديم المعلومات بشكل مختلف وعبر قاعدة بيانات إحصائية تمثّلت في الخريطة، ليصل إليها بسهولة أصحاب الشأن والباحثون".
توثيق وتساؤلات
أهمية الخريطة بدت في ما كشفته من وقائع بأرقام وتواريخ لا تسمح بالتشكيك فيها، منها على سبيل المثال العنف الطائفي، الذي تصدّرت به المنيا محافظات مصر بمعدل 50 حالة خلال خمس سنوات هي فترة الرصد، وهذا ما يجعل العنف الطائفي فيها "مُشكلة دائمة"، على حد وصف عبد الرحمن الذي علّق: "ماذا يحصل في المنيا؟ سؤال لا بد من الإجابة عليه. مع العلم أن الإحصائية تتصل بأحداث رصدناها فقط، وهناك ما تم حلّه بالتراضي"، أي حوادث لم ترصدها سجلات المبادرة.
والخريطة لم تكشف عن إحصاءات حول العنف الطائفي وحرية الاعتقاد وما يتصل بهما من قرارات وقوانين فحسب، بل قدمت كذلك ما يُثير التساؤلات، حسب عبد الرحمن: "صُدمنا بهذا الكم الرهيب للعنف الطائفي في أماكن بعينها. فمركزان بالمنيا مثل سمالوط وأبو قرقاص لا يتجاوز تعداد سكانهما 50 ألفاً، لكن الوضع فيهما ملتهب منذ سنوات". وتساءل: "فلندع الحريات والحقوق جانباً. لكن، هل من الدولة وأجهزتها الأمنية انتبهت إلى هذا؟ ما من أحد يعمل للحل؟".
وعن أوجه الأهمية الإحصائية للخريطة وما يتعلّق بالمجتمع الحقوقي الدولي، يقول مدير الوحدة: "لأن الدعاية الرسمية تتحدث في الأمم المتحدة وغيرها عن انتهاء مشكلة الحريات الدينية وتحسّن أوضاعها، تصبح المسألة الإحصائية وإتاحة البيانات حاسمتين في مثل هذه الأمور التي لا يصلح أن تُكون متروكة للانطباعات. فلا بد أن يتوفر دليل على القضايا الملتهبة التي لم يتم حلّها".
الدعاية التي يُشير إليها عبد الرحمن لم تبعد مصر عن انتقادات دولية تلقتها، رغم تأكيد الرئيس السيسي نفسه عام 2021 على احترام حرية الاعتقاد وعدمه. إذ واجهت مصر عدة انتقادات، منها ما صدر بعد شهور قليلة من تصريحات الرئيس السيسي. ففي فبراير/ شباط 2022 طالب 175 برلمانياً في الاتحاد الأوروبي ونظراء لهم من بريطانيا حكومات بلادهم والأمم المتحدة بـ"إخضاع ملف حقوق الإنسان في مصر للمراقبة ولمزيد من التدقيق العالمي"، وقد وصفوه بـ"المروّع" لما فيه من "تجاوزات حقوقية"، أحدها "قمع الأقليات الدينية".
هذه الأقليات تشمل "شيعة" سبق أن تعرّض أتباعها للعنف ومواقعها الإلكترونية لاستهداف قانوني بدعاوى ترمي إلى غلقها. وهنالك فئات أخرى طاله الاضطهاد مثل "شهود يهوه"، وغير المحسوبين على الديانات الإبراهيمية، وأبرزهم البهائيون، وقد ورد ذكرهم وما يواجهونه من مصاعب في تقرير "الحرية الدينية الدولي لعام 2021" الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في يونيو/ حزيران 2022، وهم يحاولون منذ عدة أعوام نيل حقوقهم المدنية، حسبما وثّقت المصرية البهائية الدكتورة سوسن حسني، في كتابها "رحلة من الإيمان إلى الإيقان".
شملت خريطة المبادرة البهائيين أيضاً وأضاءت على أوضاعهم. يُشير عبد الرحمن إلى ما يعانونه من "مشكلات حقيقية تتعلق بالحالة المدنية سواء في توثيق عقود زواج وطلاق وإلحاق أبنائهم بالمدارس، ودفن موتاهم في مقبرة مُكدّسة"، مُضيفاً: "مع العلم أن المصاعب تطول حتى أتباع الديانات الإبراهيمية".
هذه المعاناة التي وثّقتها الخريطة لأتباع الديانات المتنوعة لم تقتصر على أمور مثل "منع الاحتفالات اليهودية بمولد أبي حصيرة" أو "تسليم حياة المسيحيين للكنيسة"، فعن المسلمين أيضاً يضرب عبد الرحمن مثالاً بقوله: "معضلتهم تتعلق بعدم مخالفة الأزهر، وإلّا فسيواجهون أحد الاتهامين، إمّا الانتماء لجماعة إرهابية أو ازدراء الأديان. هذه التهمة شبه حصرية بالدين الإسلامي"، وهو ما رصدناه في قضايا وثّقتها الخريطة كان المتهمون فيها هم الدكتورة منى البرنس، والقس مكاري يونان، والكاتب بلال فضل.
لهذا تلفت المبادرة بخريطتها ذات الأرقام نظر المسؤولين وكل المعنيين على اختلاف جهاتهم، إلى أمور عديدة، وقد أعلن مدير وحدة الحريات أنه سيتم البدء في نشرها خلال الأسبوع المقبل، ذاكراً أن من أهم النتائج الأساسية التي ظهرت بجانب "مشكلة المنيا" هي "النتيجة التي توقفّنا أمامها كثيراً ولم نفهمها وهي عدم تقديم البرلمان الحالي أي شيء في ملف الحريات الدينية".
وأوضح فيما يخص البرلمان: "لقد اقتصر عمله خلال سنواته الماضية على اللوائح فقط. حتى قانون بناء الكنائس ورد إليه من وزارة العدل ووافق عليه فوراً بدون مناقشات أو تعديلات. بخلاف وجود قوانين مؤجلة عنده كالقانون الخاص بالأحوال الشخصية للأقباط". وأكد أن أبرز الملفات التي تحتاج حلولاً عاجلة هي المتعلقة بـ"العنف الطائفي، والأحوال الشخصية، وتعقّب المواطنين بسبب آرائهم الدينية، وتحويلهم إلى متهمين بازدراء الأديان أو بالإرهاب".
و خطط المستقبل
عدا التوصية بحلول عاجلة، يتحدث إبراهيم عن خطط تتعلق بالخريطة، فيقول: "يمكن أن نعمل على تطويرها بصور مختلفة، من حيث شكلها أو طريقة التعامل معها لتكون دائماً سهلة الاستخدام، كما سنحرص على جعلها متزامنة مع الأحداث"، معتبراً إياها "خطوة لمساعدة صاحب القرار والباحثين والصحافيين والعلماء في دراسة الظواهر المختلفة لحالة الحريات الدينية والمجموعات الدينية في مصر وما يخصها".
ويذكر أن هدفها "حماية ونشر ثقافة احترام حرية الدين والمعتقد، لأن ذلك مطلب مهم في مجال الحريات الأساسية، وفقاً لمبادئ الشرعية الدولية وحقوق الإنسان، سواء كانت الحرية في أن تؤمن بأي دين أو معتقد أو لا تؤمن، وبالتالي، ندعو مؤسسات الدولة والمجتمع لاحترام هذه الثقافة".
بالإضافة إلى الإعلان عمّا ستصدره المبادرة من "قراءات" للخريطة تتعلق بإحصائياتها، يُشير عبد الرحمن إلى عدة مصاعب أبرزها "خوف البعض من المشاركة معهم في ظل الحساسية الأمنية، ليس فقط من قبل مواطن عادي، بل حتى من قبل رجال دين من الجانبين، ولو كان الحديث عن قضية عليها إجماع مثل رفض العنف الطائفي؛ ما خلق صعوبة في الوصول للمعلومة".
ويختم: "نريد أن تصبح الخريطة أرشيفنا الذي سنضيف إليه كل جديد من قرارات أو إحصائيات وأحداث ليبقى التعامل مع ما سنقدمه مسؤولية الدولة والسلطة العامة التي فوضها إليها المواطنون التصدي لهذه المشكلات".
رصيف 22