على هامش مأساة كنيسة أبوسيفين - مقالات
أحدث المقالات

على هامش مأساة كنيسة أبوسيفين

على هامش مأساة كنيسة أبوسيفين

مالك العثامنة:

 

المأساة التي حدثت في كنيسة أبوسيفين القبطية في مصر، وإن كانت حادث تماس كهربائي، إلا أن فجيعتها لا تتوقف عند عدد الضحايا الأبرياء من المؤمنين الوادعين فيها، وقد عاشوا رعبا في حريق هائل فقضوا إلى رحمة الله.

الفجيعة كانت دوما في ما بعد تلك الحوادث التي تتعرض لها دور العبادة المسيحية في العالم العربي أو الإسلامي.

هناك دوما شعور متغطرس بالتعالي والفوقية يولد مع غالبية المسلمين، ويتم تشكيله منذ بدايات الوعي والإدراك بأن من يولد مسلما فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من المعاصي والخطايا إلا أن يشرك بالله أو يكفر به.

والشرك أو الكفر أيضا خاضعان، في الدوائر الضيقة المتطرفة للإسلام، لفتوى مزاجية غالبا ما تصدر عن نصف أمي وجاهل، يتم تسميته بالعالم لأنه قادر على الحفظ واسترجاع ما حفظه من كتب وقواعد مكتوبة من ألف سنة وضعها في غالبيتها من حفظوا ما كتبه السلف قبلهم.

في مأساة حريق كنيسة أبوسيفين، يتكرر عزف تلك الأسطوانة المشروخة التي لا يتجرأ أحد على خلعها وكسرها والتخلص منها إلى الأبد، فنجد في تعليقات تتجاوز الآلاف بمجموعها في مختلف صفحات مواقع التواصل الاجتماعي شعورا بالتشفي يثير التقزز، وغطرسة استعلائية موجهة لمعتنقي أكثر ديانة منتشرة على سطح الأرض، وذات القواعد الأصولية المتكررة دوما وباستمرار بنهي طلب الرحمة من الله مع تقرير جازم بأن الله لن يرحم!! هكذا يقرر هؤلاء باسم الله وعنه وبتفويض وهمي أن الله لن يرحم أي موتى من غير المسلمين، وفي داخل الدائرة الإسلامية نفسها سنجد ذات التكفير والإقصاء عن الرحمة يشتعل جدلا بين الطوائف والمذاهب حد الشتم والإمعان في هدر الكرامة.

هذا حريق مشتعل منذ زمن طويل ولا يستطيع أحد إطفاؤه إلا بالوعي والمعرفة المجردة من الدجل والتزييف التاريخي، والوعي كما المعرفة الحقة مفقودان، ما دام حديث الشيوخ أصحاب العمائم واللحى "وربطات العنق في نسخ مشوهة حديثا" يدخل في خانة المقدسات التي يحظر المس بها.

المسيحية بدأت من المشرق أساسا، وأخطر حيلة وضعها تاريخ الفقه والفقه الإسلامي نفسه كانت بترسيخ فكرة "الجاهلية" التي شملت كل ما سبق الدين الإسلامي، فجعلها عتمة مظلمة لا حياة فيها ولا تفاصيل بل رسخها في أدبياته من رواة التاريخ حتى عصر السينما بأنها عصور عبث وقتل وسفك دماء ومجون وجنس جماعي ورموز من لم يدخلوا بالدين الإسلامي دوما تم تصويرهم كأناس غلاظ كثيفي الحواجب يشربون الخمر ويضربون الناس ويستضعفون الفقراء.

الأقباط، كانوا تحت احتلال "غربي أوروبي بيزنطي" والخلاف العقائدي كان دمويا وتحصيل حاصل لمواجهة "لاهوتية" بين رغبات الإمبراطور الروماني وأصول العقيدة الكنسية عند الأقباط الذين تمسكوا بعقيدتهم، وفي حاصل فرق المواجهات دخل المسلمون مصر من تلك الثغرة، واحتل العرب القادمون من الجزيرة أرض مصر تحت مسمى "الفتوحات".

هذا ينعكس على كل المشرق العربي عموما، فبلاد الشام التي كان متى وسمعان وبطرس وصموئيل ورفقة ومرثا ( وهي أسماء البيئة المحلية التي انقرضت) يعيشون فيها بمختلف معتقداتهم المتباينة وجدوا انفسهم تحت وطأة ثلاث خيارات، إما القتل أو دفع الجزية "بعد مصادرة الأملاك" أو دخول الدين الجديد واعتناقه، فكان الخيار الثالث طبيعيا تفرضه غريزة الحياة والتمسك بها.

كانت المسيحية – كما اليهودية أيضا- منتشرة في نفس شبه الجزيرة العربية ضمن حواضر مدنية محترمة عصفت بها الجاهلية كمفهوم "تجوية وتعرية أيدولوجي" فكان أوفى العرب حسب كل التراث العربي يهوديا اسمه شموئيل لكن "التعريب القسري" جعل اسمه السموأل ابن عادياء ( وهو حمو حيي ابن أخطب زعيم بني النضير، وكان شاعرا بليغا من شعراء ما يسمى بالجاهلية) ، كما كان سيد قبيلة طيء حاتم الطائي أكثر من ذكره التاريخ العربي بالكرم والجود والعطاء مسيحيا ملتزما بعقيدته وديانته وكان كرمه ركن الأساس في نحت مفهوم "الصدقات والتصدق على الفقراء"، بل تذهب بعض الأبحاث التي وجدت طريقها بمشقة وصعوبة وهي تخوض في عمق الحفر التاريخي أن عبدالمطلب جد النبي العربي نفسه كان من طائفة مسيحية مثله مثل ورقة بن نوفل الذي ذكرت بعض الدراسات أنه كان أسقفا، وهذا يعني – إن صح- وجود بناء هيراركي مسيحي واسع في مكة وما حولها، طبعا ناهيك أن بني قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع كانوا أهل يثرب الأصليين.

تلك واجهة تاريخية غير معيبة ولا تنتقص من حاضر العرب ولا المسلمين، بل تعكس الثراء في التنوع الاجتماعي للمنطقة بأسرها في منطقة تاريخية تم تظليلها بعتمة مفهوم "الجاهلية" على يد السلف وتيارات الإسلام السياسي عبر التاريخ، حتى بلغ العبث بتصنيف الناس في حقبة ما قبل ظهور الإسلام بقليل بأنهم كانوا "أهل فترة" وهو اشتقاق بلاغي لا معنى له إلا تطويع وتطبيع فكرة الجاهلية ومسح تاريخ تلك الفترة بكل تفاصيله وثقافاته وناسه.

في الخلاصة..

وعودا على بدء، وفي عصرنا الحديث حيث تحاول فكرة "الدولة" جاهدة أن تثبت نفسها كحالة وجودية قوامها وأساسها المتين مفهوم المواطنة، أستذكر تعليقا واعيا من السينمائي المثقف المصري باسل رمسيس، حين طالب بعد مأساة حريق الكنيسة بأن لا يستقبل بابا الأقباط العزاء من باب أن تلقي العزاء من هذه الزاوية الضيقة يضع الأقباط في تصنيف "أقلية أو جالية" لا مواطنين متساوين يتلقى المصريون جميعا العزاء بهم، كما الإنسانية جمعاء.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث