كاتب: Alice Su
مصدر: After ISIS, Iraq Is Still Broken
عبدالرحمن النجار:
إن التهميش كان سببًا رئيسًا وراء دعم عدد كبير من السنّة لـ«داعش» في المقام الأول. والآن يواجه السنة الذين يعودون إلى غرب الموصل الشكوك والعزلة مرة أخرى.
قالت أليس سو في مقال لها على موقع «ذي أتلانتك»: «إن أجواء الخوف وانعدام الشعور بالأمن والثقة ما تزال تسيطر على العراق، على الرغم من مضي نحو عام تقريبًا على دحر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وطرده من معقله في الموصل».
وأوضحت أليس أن رائحة الموت ما تزال عالقة في أجواء وادي حجر، الحي المدمر في غرب الموصل. كان رجال مبتورو الأطراف يتجمعون حول شاحنة تحمل موظفين من منظمة غير حكومية تقدم خدمات قانونية، في انتظار طلب المساعدة. وكان أحدهم، محمد مصطفى وهو من العرب السنة، قد أتى طلبًا للمساعدة في استخراج شهادة ميلاد لابنته التي ولدت أثناء احتلال الموصل من قبل تنظيم الدولة الإسلامية الذي استمر من عام 2014 إلى عام 2017.
وفي سبيل إعالة أسرته، فقد تعاون مصطفى مع الشرطة العراقية – وهو عمل محفوف بالمخاطر في مرحلة ما بعد غزو الولايات المتحدة للعراق، مع انتشار نفوذ القاعدة في جميع أنحاء المنطقة. وعندما استولت تنظيم (داعش) على الموصل في يونيو (حزيران) 2014، هرب مصطفى إلى قرية جده في ضاحية جنوب الموصل. يقول مصطفى لمعدة التقرير: «كانوا يعتبرون من يتعاون مع الشرطة مرتدًا. وقد أخذوا أكثر من ألف شخص وقتلوهم، بما في ذلك بعض أبناء عمومتي».
ظل مصطفى مختبئًا حتى تحررت الموصل بعد أربع سنوات على يد الجيش العراقي، لكنه لم يكن يعرف كيف يعيش: فغرب الموصل ما زال مدمرًا، وقد وضع على قائمة سوداء للحكومة، وحُرم من وظيفته القديمة مع الشرطة. يقول: «الحكومة تعتقد أن جميع من يعيشون هنا (دواعش)».
اليوم وبعد عام من تحرير الموصل من داعش – تشير أليس – تقلص عدد سكان المدينة قبل الحرب بمقدار ثلاثة أرباع. ويعود ذلك جزئيًا إلى أن معظم المدينة – لا سيما الجزء الغربي منها، حيث وقع أسوأ قتال – لا تزال غير صالحة للمعيشة. ما تزال هناك أكوام من الزجاج والقمامة والأسلاك المعدنية. ويتدلى حبل مشنقة داخل الممر الخلفي للكنيسة المحروقة. وتتناثر في الشوارع الكتب والثياب وأشرطة الكاسيت والأطباق. بلغ الدمار قمته في المدينة القديمة، حيث تسيطر رائحة الجثث على المنطقة.
مسجد النوري في الموصل
حتى الآن ساهم المجتمع الدولي بنحو 30 مليار دولار لإعادة بناء المناطق المتضررة في القتال ضد داعش، لكن الفساد والفوضى وضعف الحكومة أعاقت عملية إعادة الإعمار. وحتى لو أعيد بناء المدينة، فإن انعدام الثقة والعنف الطائفي والعرقي المستمر قد يدمر مستقبل العراق في مرحلة ما بعد (داعش).
ثمة حالة من عدم الثقة في العرب السنة تعوق جهود المصالحة – تكشف سو – إذ إن (داعش) يتبنى نسخة متطرفة من الإسلام السني. وقد شجعت بغداد بشكل رسمي النازحين – بمن فيهم العرب السنة، الذين مكث الكثير منهم في الموصل طوال فترة الاحتلال، ويخشون الآن باعتبارهم من أنصار (داعش) – على العودة، لكن القوات الكردية والمليشيات الشيعية والجيران السابقين الذين يهددون بالثأر لذويهم ممن قتلتهم (داعش)، غالبًا ما يمنعونهم من الوصول إلى مدنهم. وفي تقرير نشره مجلس اللاجئين النرويجي في فبراير (شباط)، فإن 16% من النازحين العراقيين من الأنبار، وهي مقاطعة يغلب عليها العرب السنة، وإن محاولاتهم للعودة إلى ديارهم قد أعيقت. وقد أكد واحد من كل خمسة عراقيين قاطنين في أحد مخيمات اللاجئين في الأنبار في ديسمبر (كانون الأول) أنهم حاولوا العودة إلى ديارهم، لكنهم فروا مرة أخرى بسبب التهديدات بالانتقام.
بيد أن علي البارودي، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة الموصل، ينفي أن يكون كل العرب السنة قد انضموا إلى (داعش)، ويقول: «لا يمكنك إلقاء اللوم على 95% من الناس لأن نسبة ضئيلة منهم فعلت ذلك. يجب أن يكون هناك تمييز بين المذنب والبريء. لا ينبغي أن نُعامل كمجرمين لأننا ضحايا». وتؤكد سو أن التهميش كان سببًا رئيسًا وراء دعم عدد كبير من السنّة لـ(داعش) في المقام الأول. والآن يواجه السنة الذين يعودون إلى غرب الموصل الشكوك والعزلة مرة أخرى. يضيف البارودي: «ماذا تتوقع أن نعتقد عندما نعيش في المباني المدمرة مع جثث تملأ الأرجاء؟ نحن منبوذون».
جانب من أحياء الموصل المدمرة
ومع ذلك، فإن بناء الثقة أمر صعب حتى بين العرب السنة أنفسهم، خاصة أن أيديولوجيا داعش والخلايا المتشددة ما زالت قائمة. يحكي غسان محمد، البالغ من العمر 28 عامًا، والذي يعمل في مخيم بالقرب من كركوك للعائلات النازحة، قصة لقائه بصبي يبلغ من العمر سبع سنوات يبكي من العطش، وكان قد فر من كركوك التي كانت تحت قبضة (داعش). تنقل سو عن محمد: «أعطيته الماء فنظر إلي، وقال: لا أريد ماءً من كافر». محمد، وهو أيضا عربي سني، كان يرتدي ملابس على الطراز الغربي، ولم يكن لديه لحية، وقد وصفه الطفل الذي تعرض لصدمة من العيش في ظل التنظيم المتطرف، بنفس الصفات التي يطلقها عناصر التنظيم على المخالفين لهم.
أخبرني محمد أنه عاد لتوه من جنازة راعيي غنم قتلتهما خلية لـ(داعش) في الحويجة: «الحقيقة هي أن (داعش) ما زال موجودًا في المنطقة. في الحويجة يعتلي القرويون أسطح المنازل بالبنادق للحماية من هجمات (داعش) في الليل. هناك الكثير من الخوف».
أما بالنسبة للأقليات – تنوه أليس – فإن الأمن له الأولوية على أي حديث عن المصالحة. في مخيم بالقرب من الشرية، وهي بلدة صغيرة يسكنها اليزيديون في المنطقة الكردية بالعراق، قالت ليلى مراد إنها لن تعود أبدًا إلى سنجار، الجبل الذي طردت منه (داعش) حوالي 200 ألف من اليزيديين في عام 2014. كانت قد عانت من صدمة شديدة بعد الهروب، وظلت طريحة الفراش لمدة ثلاثة أشهر، ثم تملكتها نوبات من الأكل بنهم، والقلق، والأرق. وقالت إنه تم إلقاء القبض على 25 من أفراد أسرتها من قبل (داعش). ما يزال ستة منهم في عداد المفقودين. تقول ليلى مراد: «حتى لو عاد الجميع، فلن أعود؛ أتذكر كل شيء. وسوف أتخيل ما يحدث».
نازحون من الموصل
تقوم مجموعات مثل «يازدا»، وهي منظمة غير حكومية بتقديم الإغاثة لليزيديين، وتجمع دراسات الحالة التي تعرض بالتفصيل التجارب الفردية للاغتصاب، والأسر، والقتل، وهي عناصر أساسية في الجهود المبذولة لمساعدة الأقليات على العودة. تنقل أليس عن مدير المنظمة، مراد إسماعيل، قوله: «يجب أن يشعر الناس بالثقة حتى يعودوا». وأضاف أن الافتقار إلى الإجراءات الحازمة ضد مقاتلي تنظيم (داعش) ترك اليزيديين يشعرون بأنهم لا قيمة لهم، وغير محميين. ويرى أن المحاكمات السريعة التي تجري في محاكم مكافحة الإرهاب الخاصة ببغداد ضد أعضاء مزعومين من (داعش) وعائلاتهم، مع أحكام الإعدام الصادرة في دقائق، لا تعتبر بمثابة عدالة. ويضيف إسماعيل: «أريد أن أعرف ما حدث لمجتمعي. أريد أن أعرف لماذا اعتبر (داعش) اليزيديين كفارًا. أريدهم أن يتعمقوا في جذور هذه المشكلة».
لكن من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة في بغداد مجهزة للقيام بهذه المهمة؛ فليس لدى العراق سياسة فعالة أو أطر مؤسسية لحقوق الأقليات، كما أشار المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بقضايا الأقليات. كانت الأقليات تعاني بالفعل من التمييز والاضطهاد والتشريد في فوضى عراق ما قبل (داعش): إذ قدرت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية أنه في الفترة من 2003 إلى 2008، كان ما يقرب من نصف الأقليات في العراق قد غادر البلاد بالفعل بسبب العنف ضدهم، بما في ذلك القتل والاختطاف والتعذيب والاغتصاب والترهيب، بالإضافة إلى تدمير دور العبادة والمنازل. ومع أن دستور 2005 يتضمن بعض البنود التي تضمن الحرية الدينية والتمثيل السياسي للأقليات، لم يساعد أي من ذلك عندما بدأ تنظيم (داعش) في خطف وذبح التركمان والمسيحيين واليزيديين وغيرهم. ومع استمرار عجز الحكومة العراقية والسلطات الكردية والمجتمع الدولي عن ضمان الحماية في عراق ما بعد (داعش)، تبقى فرص عودتهم منخفضة.
بالنسبة للعدالة الانتقالية – تضيف أليس – فقد اعتقلت السلطات العراقية أكثر من 19 ألف شخص بتهم متصلة بالإرهاب، معظمهم على علاقة بـ(داعش)، وأدين على الأقل 8861 منذ عام 2013، وفقًا لدراسة حديثة من الأمم المتحدة. كما صدرت أحكام بالإعدام على ما لا يقل عن 3130 من المدانين بالإرهاب. ووجدت الدراسة أيضًا أن النظام القضائي يفشل في التمييز بين المستويات المختلفة لمشاركة (داعش) – وغالبًا ما يتم التعامل مع مقاتلي (داعش) بنفس الطريقة التي تُعامل بها زوجة أحد مقاتلي (داعش). كما اعتمدت الحكومة في كثير من الأحيان بشكل مكثف على مخبرين مجهولين، وأدانت المشتبه بهم اعتمادًا على أدلة واهية. وقالت الدراسة: «إن هذا النوع من النظام العقابي المفرط قد يأتي بنتائج عكسية، ويخلق مظالم جديدة من شأنها أن تشعل مزيدًا من التطرف والعنف».
وتؤكد أليس أن مصير العراق يقع في أيدي بناة السلام الذين يعملون عبر الخطوط الطائفية. بالعودة إلى كركوك، اسطاع محمد في نهاية المطاف من تغيير سلوك الطفل البالغ من العمر سبع سنوات من خلال زيارة العائلة، وإلحاقه ببرامج إعادة تأهيل الأطفال؛ حتى توقف عن تكرار الأفكار المتطرفة. وقال محمد إنهم يحتاجون فقط للعمل والتعليم والمساعدة المالية والأمل. وقد التقى بطفل يبلغ من العمر 13 عامًا، وهو ابن أحد مقاتلي (داعش) تعرض للمضايقات من قبل آخرين في المعسكر إلى حد تفكيره في الانتحار. فقام محمد بمساعدته وإقناعه بالانضمام إلى برنامج موسيقي، حتى عاد إلى المدرسة، وبدأ يفكر في المستقبل.
قال محمد: «حتى إذا حاولت، اثنتان من أصل 10 أسر قتلى، فأنا أساعد ثماني عائلات. أشعر أن هذا العمل رائع. إنه شعور لا يوصف أن تنقذ حياة شخص واحد».
ساسة بوست