أمينة خيري:

لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فإن النقش حين يتلون بالسياسة ويكتسب نكهات الدين ويتدثر بالأيديولوجيا يصبح منحازاً وأثره أشبه بالخرسانة غير القابلة لتعديل البنيان أو تطويره.

"تطوير المناهج الدراسية" عبارة بلغت من العمر أرذله ومن الحيرة أوجها. المقصود بالتطوير ما زال حبيس دوائر تطوير الأدوات لا المحتوى وتحديث أسماء الشخصيات من عادل وسعاد إلى هيثم وأسماء. أما ماذا فعل عادل وسعاد في الدرس، أو كيف غير هيثم وأسماء من فكر الطالب، فالنتائج تحدثنا أنها قيد خناقة التطوير شرط التضييق والتحديث مع الإبقاء على الجمود قيمة أصيلة. ويكاد يكون التغيير الوحيد الحادث مقتصراً على ممحاة إزالة إنجازات السابقين واللف والدوران حول جمود الأولين غاية ووسيلة.

حرب الإملاء

وسيلة تدريب الطلاب على قواعد الهجاء وأساسات الكتابة الصحيحة من دون أخطاء تمر بسؤال الإملاء. وقبل أيام، قامت الدنيا وما زالت قائمة بين فريقين، يمجد أحدهما الأولين ويرفع راية "لا مساس" ولو من باب النقد والتحديث، بينما يرى الفريق الثاني أن الجميع بشر يخطئون ويصيبون مع ضرورة وقف تمجيد وتقديس من كان، ولا يزال، له أكبر الأثر في تغييب العقول وتحريم الحلال وتصعيب الحياة.

فما كادت معركة الهبد والرزع بين الفريقين حول نية المسرح القومي تقديم عرض رمضاني حول سيرة الشيخ محمد متولي الشعراوي تهدأ قليلاً، حتى تفجرت في وجوه الجميع فقرة الإملاء في امتحان الصف الثاني الإعدادي في إحدى المدارس المصرية.

الفقرة لم تتناول قيمة العلم والابتكار في علاج الأمراض وتخفيف الأوجاع، أو مكانة علماء الفيزياء أو خبراء الكيمياء أو الموسيقيين أو الفنانين في الارتقاء بحياة البشر والسمو بأرواحهم، بل اختارت "إمام الدعاة" المختلف على آرائه واجتهاداته في التفسير التي يرى بعضهم أنها أقرب ما تكون إلى القدسية غير الخاضعة للمراجعة، فيما يعتبرها آخرون مساهمة إلى حد كبير في الإبقاء على المجتمع المصري رهين الفكر المنغلق والتدين المتشدد.

"إمام الدعاة"

"الشعراوي، إمام الدعاة وأشهر علماء المسلمين في العصر الحديث، أحبه الناس لبساطة أسلوبه، والدليل على ذلك أنه عندما فسر القرآن الكريم فهمه الجاهل والعارف، وعلى رغم أنه رحل عن عالمنا، فإنه ما زال حياً بعلمه لأن المال يفنى والعلم يبقى". بقاء العلم وفناء المال لا يختلف عليهما، لكن المختلف عليه في قطعة الإملاء هو شعور عام بأن العلم يقتصر على علوم التفسير والفقه والشريعة، وأن المال رجس على رغم أن كثيراً من علماء التفسير والفقه والشريعة، إضافة إلى علماء الدين المتحولين نجوم فضائيات، من الميسورين جداً مادياً.

مادتا اللغة العربية والتاريخ، ومادة التربية الوطنية حال وجودها، الأكثر تلوناً وتأثراً بألوان السياسة والدين صعوداً وهبوطاً، وبالتناول السلبي أو الإيجابي.

مسيرة المناهج

وفي مثل هذه الأيام من كل عام على مدى الأعوام الـ12 السابقة، يستعرض بعضهم مسيرة المناهج المدرسية وإلى حد ما الجامعية على مدى سنوات ما بعد أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011. فبين هرولة غير محسوبة وتسرع لا يليق بقواعد العلوم التربوية والدراسية والتاريخية والاجتماعية والنفسية لحشر ما جرى في يناير 2011 باعتباره أعظم أحداث القرن الـ21، وتراجع مواز في السرعة معاكس في التوجه لوصمها باعتبارها خدعة أو دسيسة، ومحاولة للإمساك بعصا الأحكام من المنتصف تحسباً لوصفها بالثورة أثناء السنة الدراسية أو نعتها بمؤامرة مع قرب امتحانات نهاية العام، وإشارة إلى تاريخ 25 يناير باعتباره أحداثاً شعبية جرت في يوم عيد الشرطة المصرية، تعاني محتويات المناهج الدراسية ضبابية الأحكام وعدم وضوح الرؤية في ما ينبغي أن يقال أو لا يقال للطلاب.

إشكالية دمج أحداث مهمة ما زالت تتطور أو وصف حوادث مثار شد وجذب بين أبناء الوطن الواحد أو تدريس شخصيات ورموز يعتبرها بعضهم منزهة عن الخطأ وفوق النقد وبعضهم الآخر يراها مذنبة والأحق بالنقد والتفنيد تفرض نفسها موضوعاً للنقاش، لا سيما في مناسبة ذكرى 25 يناير أو عيد الشرطة، وكلاهما مثير للجدل والخلاف والاختلاف ومدمج في المناهج.

المناهج المدرسية في مصر مرت، وما زالت، بكثير من جهود التطوير ومحاولات التحديث. وبعيداً من تطوير الأدوات من حيث إحلال الكتاب الورقي باللوح الإلكتروني، أو تركيب السبورة الذكية بدلاً من السوداء ذات الطباشير، وكذلك خطوات تدريب المعلمين على أمل سحب البساط تدريجاً من تحت أقدام منظومة الحفظ والصم وتقديم مفهوم الفهم والمنطق، تبقى السياسة والدين والأيديولوجيا مناطق سريعة الاشتعال كثيراً ما ترفع راية "ممنوع الاقتراب أو التطوير".

الجمود والتجدد

مجموعة أو "غروب واتساب" يضم آباء وأمهات طلاب إحدى المدارس المصرية تشهد ألغاماً نقاشية ومتفجرات تبدو فكرية لكنها في حقيقة الأمر إما دفاعية عن أنماط ثابتة وقوالب جامدة أو هجومية بغرض النيل من الفريق الآخر باعتباره مسؤولاً عن غوص المجتمع المصري في رمال التدين المتشدد الناعمة.

نعومة بداية النقاش حول فقرة "إمام الدعاة" في امتحان اللغة العربية في إحدى المدارس تحولت إلى خشونة الخصومة وشراسة "الخروج بلا رجعة" وإغلاق المجموعة التي انقسم أعضاؤها فريقين يمثلان العالم الخارجي في مصر المحروسة. فريق هادر سائد له الغلبة العددية يرى أن تدريس وتعميم وتبجيل "إمام الدعاة" في كل المناهج أمر محمود وغاية منشودة بل واجب لكل فرد يحب بلده ويغار على دينه، وفريق يرى تدريس "إمام الدعاة" استمراراً لمنهج تعطيل عمل العقول وفرض قوالب ثابتة جامدة على الصغار لضمان تخريج صور مستنسخة تكره الآخر وتحتقر التفكير وتعتنق الجمود منهجاً ووسيلة وغاية وهدفاً.

الهدف المفترض من "الغروب" وغيره من آلاف وربما ملايين الغروبات على منصات الـ"سوشيال ميديا" لأولياء الأمور هو مناقشة شؤون الأبناء والبنات المتعلقة بالمدرسة، لكن كثيراً ما تعرض النقاشات وتتعثر السجالات في مسائل سياسية أو دينية أو دينية سياسية، والأخيرة سمة السنوات القليلة الماضية، لا سيما تلك التي تلت أحداث يناير.

أحضان التسييس

تسييس المناهج الدراسية ليس وليد اليوم أو الأمس، كما أنه ليس حكراً على دولة دون أخرى أو إقليم أكثر من غيره، لكن هناك من الدول أو الأقاليم ما اجتاز معضلة تسييس المناهج أو وضع قواعد وقيود تحول دون ضم الحرم المدرسي والمنظومة التربوية والتعليمية إلى أحضان التسييس سواء كان سياسة صافية أو ممزوجة بالدين مكوناً أساسياً وموجهاً أصولياً.

في بريطانيا مثلاً، تنص القواعد الخاصة بالمناهج المدرسية وما يتم تدريسه في المدارس على حظر الترويج للآراء السياسية الحزبية واتخاذ كل ما يلزم من خطوات لضمان العرض المتوازن لوجهات النظر المتعارضة حول القضايا السياسية عندما يتم لفت نظر الطلاب إليها أو مناقشتها في الفصول، بحيث العنوان العريض لذلك "الحياد السياسي". مناقشة القضايا السياسية ليس عليها حظر أو حجر ولكن عرض كل وجهات النظر من دون إملاء أو توجيه أو حتى ترجيح لكفة أو تجريح لأخرى أمر منصوص عليه.

المنصوص عليه في قواعد التطوير والتحديث من أعمال للفهم بدلاً من الحفظ، واعتماد التفكير النقدي محل التفكير النقلي ليس تغييراً بل إعادة بناء، بمعنى آخر، التطوير يختلف عن التغيير. وتغيير المناهج، أو في الأقل محتويات بعينها في المناهج على مدى العقود السبعة الماضية يمكن تلخيصه في إلغاء تمجيد الملكية بعد قيام ثورة يوليو (تموز) عام 1952 والإشادة بالثورة وأسبابها وأهدافها وإنجازاتها طيلة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ثم تخفيف ذكر عبدالناصر وتقليص مساحة أحداث عام 1952 لمصلحة إنجازات الرئيس الراحل محمد أنور السادات وأسباب قيام ثورة التصحيح عام 1971 مع تسليط كثير من الضوء على انتصار حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 ومن بعدها معاهدة السلام مع إسرائيل وتمجيد "بطل الحرب والسلام"، وهو الضوء الذي استمر في مناهج ما بعد اغتيال السادات وتقلد الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك مقاليد الحكم عام 1981 وإن تحول انتصار حرب 1973 إلى "أول ضربة جوية"، إذ كان مبارك وقتها قائداً للقوات الجوية.

واتخذ التغيير منحى سريعاً متسرعاً بعد أيام من أحداث يناير عام 2011، إذ شهدت الامتحانات المدرسية أسئلة وإشارات إلى "ثورة" يناير 2011 باعتبارها أروع الثورات وأعظم الأحداث. وفي صيف 2011، خضعت المناهج المدرسية لعمليات إضافة سريعة ومتسرعة للحدث الكبير وتسلم الطلاب كتبهم المدرسية للعام الدراسي 2011 – 2012 وهو يحتوي فصولاً وإشارات عدة لـ"ثورة" يناير 2011.

تحذير من التسرع

وعلى رغم تحذيرات عدة أطلقها خبراء مناهج دراسية من التسرع في إدماج أحداث "الثورة" لعدم توافر الوثائق اللازمة لكتابة مناهج دراسية تحترم المعايير، إلا أن حماسة أو فورة أو ضغط الميدان (ميدان التحرير) كان أقوى. وبنفس قوة حشر أحداث الثورة جرى سحب المقاطع ذاتها بعد عامين دراسيين. أتت أحداث يونيو (حزيران) عام 2013 لتدفع في السياق نفسه وبالسرعة نفسها، فاحتوت الكتب المدرسية للعام الدراسي 2013 -2014 فصولاً ومقاطع عن "ثورة" 2013 وأهدافها وأسبابها.

فجاء مثلاً أن أسباب "ثورة" عام 2013 "أدرك الشعب المصري أن محمد مرسي لم يقدم أية حلول للمشكلات الرئيسة، ولم يحقق أي مطلب من مطالب ثورة يناير 2011. وتلخصت هذه السياسات في ممارسة الحزب الحاكم "الحرية والعدالة" للسلطة بالأسلوب نفسه الذي كانت تمارس به الحكومات السابقة سلطاتها وإصداره إعلاناً دستورياً يعزز من صلاحيات الرئيس والشروع في وضع عناصر الحزب في معظم الوظائف في الدولة وارتفاع ديون مصر الخارجية وزيادة التضخم".

قيمة التاريخ ونكهاته

تضخم الإشارات إلى أحداث آنية في الكتب المدرسية يفقد التاريخ قيمته ويفرض نكهات سياسية على المحتوى. وتغير هذه النكهات بتغير العصور والأحوال أمر يحدث في دول عدة، لكن حدوثه لا يقلل من حجم خطورته أو يخفف من آثاره على الطلاب، ذلك الحجر الذي يتم عليه نقش محتوى يتناقض حيناً ويتصارع أحياناً ولا يلتزم معايير علمية في قواعد وضع المناهج دائماً.

ودائماً ما يلقى هذا النوع من "التغيير" الذي يتنكر على هيئة تطوير، ردود فعل لا تقل تسييساً وأدلجة عنه. فمثلاً في مصر حين يتم دمج مفاهيم عن حرية الاعتقاد أو قبول الآخر المختلف في العقيدة وغيرها، تنتفض الجماعات الدينية والمنتمون إليها والمتعاطفون معها والممسكون بتلابيب تدين السبعينيات الطاغي للبكاء والعويل على ضياع العقيدة وفتح الباب أمام "مؤامرات" هدم الإيمان وتخريب العقول وإتلاف المجتمع وتقويض الأخلاق ومحاربة الدين وكراهية المتدينين.

هدوء سياسي نسبي

واقع الحال يشير إلى هدوء نسبي في حركة "تطوير" المناهج عبر تعديل مكونات الجرعات السياسية في الأحداث الآنية، لكنه يشير كذلك إلى سطوة كبيرة وقبضة حديدية على إدماج مكون آخر وثيق الصلة بالإسلام السياسي، وفي أقوال أخرى وثيق الصلة بمقاومة دعوات ومحاولات وتلميحات تجديد الخطاب الديني وتخليصه مما لحق به على مدى ما يزيد على نصف قرن مما يصفه دعاة التجديد بـ"التشدد" و"الرجعية" و"الظلامية".

الشد والجذب دائران في نطاق "النقش على الحجر"، لكن يصعب تحديدهما أو تقفي مسارهما أو تقييم أثرهما. المعلم الذي يرى أن شخصية مثل الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي جديرة بأن تكون درساً يتعلمه الصغار أو فكراً يتم زرعه في عقول المراهقين قد يلتزم بما ورد في كتاب القراءة عن روعة التفكير النقدي وعظمة إعمال العقل ومكانة الإبداع من دون قيود والابتكار بلا أغلال، لكنه سيجد بدلاً من الوسيلة ألفاً لينقش في عقول الصغار كيف أن التفكير النقدي مشروط وإعمال العقل بقواعد والإبداع جميل لكن يجب أن يلتزم القواعد التي سنها الأولون والابتكار محمود على ألا يقترب مما حذرتنا من الاقتراب منه الرموز. وإن لم يتمكن من ذلك عبر الكلام في الفصل، فمن خلال قطعة إملاء في امتحان شهري.

"ويجز" في مقابل الشعراوي

المؤكد أن طرفي النقيض يتنازعان على الهيمنة على "النقش في الحجر"، وإن كان الطرف الممسك بتلابيب إتاحة التفكير النقدي المشروط والإبداع العقلي بقيود والتعلم وليس التعليم ولكن في أطر محددة جامدة لا يمكن اجتيازها له الغلبة العددية والشعبية. قبل أيام أثار سؤال في امتحان كلية الألسن جامعة عين شمس هرجاً بالغاً بين المصريين، إذ اعتمد سؤال الترجمة على كلمات أغنية "البخت" لمغني الراب المصري "ويجز". وبين مدافع عن أن عملية التعلم يجب أن تكون ممتعة ومواكبة للعصر وغير منفصلة عن حياة الطلاب، ومهاجم بأن العلم له قواعد والامتحان له قيود، أعيد طرح فقرة إملاء الشعراوي للمقارنة والولولة على غضب بعضهم من أن يكون "إمام الدعاة" موضوعاً للإملاء.

يشار إلى أن "المشروع القومي لتطوير التعليم في مصر" الذي بدأ عام 2017 يؤكد أن خطة تطوير التعليم في مصر تستهدف تحويل التعليم إلى التعلم، مع عدم اقتصار دور الطلاب على أن يكونوا متلقين للمعلومات بل مستفيدين من نظام متكامل واكتساب مهارات تشكل بنيانهم الفكري وسلوكهم من أجل تحقيق رؤية مصر 2030، والهدف أن يكون الطالب المصري أكثر إقبالاً على التعلم والابتكار.

اندبيندت عربية