المسيحيون المغاربة من العزلة إلى فضاء النقاش العمومي - مقالات
أحدث المقالات

المسيحيون المغاربة من العزلة إلى فضاء النقاش العمومي

المسيحيون المغاربة من العزلة إلى فضاء النقاش العمومي

أحمد عصيد

يتصف المغرب عبر تاريخه الطويل بخاصية أساسية، ألا وهي أنه ملتقى حضارات وثقافات عبر العصور. وقد شهد على مرّ الحقب والأزمنة تبادلًا ثقافيًا زاخرًا حصل عبر المبادلات التجارية، كما حدث مع الفينيقيين واليونان، أو عبر الحروب والاصطدامات التي كانت تولد، رغم مآسيها، تفاعلًا حضاريًا عميقًا، كما حدث مع الرومان والوندال والبيزنطيين والعرب الأمويين، أو مع الفرنسيين والأسبان في الأزمنة الحديثة.

ولقد كانت نتيجة هذا التفاعل التاريخي الطويل لوحة فسيفسائية حضارية غنية صاغت الشخصية المغربية، وقامت بتوليف عميق بين مختلف مكوناتها الأمازيغية والإفريقية والعربية والإسلامية والعبرية والمسيحية والمتوسطية والأندلسية، وغيرها من المكونات الأقل بروزا على سطح الواقع الثقافي الخارجي.

 

جذور طمس التعددية في السياسات العمومية المغربية وأسبابها:

اصطدمت الطريقة التي تم بها إرساء بنيان الدولة الحديثة في المغرب قبل أزيد من قرن (منذ 1912)، والتي اعتمدت على وجه الخصوص النموذج "اليعقوبي" الفرنسي القائم على ضرورة "التأحيد"، أي فرض العنصر الواحد في كل المجالات، وخلق الانسجام المطلق والقسري منذ البداية بواقع التعدّد اللغوي والثقافي والديني الذي ورثه المغرب من كل ماضيه التاريخي، والذي تعرضت الكثير من عناصره للطمس والتمييز والإخفاء المقصود .

اقتضى نموذج الدولة المركزية المعتمد فرض أحادية الثقافة والهوية واللغة والتاريخ والدين، ولاسيما في قطاعي التعليم ووسائل الإعلام التي فرضت الأيديولوجيا الرسمية التي ظلت على مدى عقود تحتكر كل قنوات الاتصال والتواصل مع المواطنين. وكانت نتيجة سياسة الإقصاء والتمييز هذه طمس الكثير من معالم الهوية الأمازيغية للمغرب، إضافةً إلى طمس أبعاده اليهودية والمسيحية والوثنية بإخفاء المعطيات التاريخية المتعلقة بالممالك الأمازيغية القديمة وبثقافة شمال إفريقيا في الأزمنة السابقة لمرحلة مجيء الإسلام، والتركيز فقط على المعالم الحضارية والشخصيات التاريخية للمرحلة الإسلامية. فرفعت الدولة شعار "12 قرنا من تاريخ مملكة" في إشارة إلى الفترة القصيرة التي تبدأ بمجيء العرب والإسلام إلى المغرب، وفي تجاهل تام للماضي التاريخي القديم كله، الذي امتدّ لآلاف السنين.

ومن نتائج سياسة الطمس المذكورة جهل معظم المغاربة بدلالات ورموز ثقافتهم اليومية، حيث يعيشون الكثير من الظواهر الثقافية والدينية التي يعجزون عن تفسيرها بسبب النقص الكبير الذي لديهم في معرفة ماضيهم، ومنها الكثير من الطقوس الاحتفالية والعادات، إلى جانب تعابير كلامية متداولة كثيرة، كنعت الإله بـ "بابا" لدى الأمازيغ على سبيل المثال. وهي من ترسبات الديانة المسيحية التي دان بها الأمازيغ منذ القديم، وقد هجا أحد شعراء العرب في القرن السادس عشر الميلادي أمازيغ المغرب بسبب نعتهم الله بـ "بابا" حيث قال:

"يقولون للرحمن بابا بجهلهم / ومن قال للرحمن بابا فقد كفرْ"

كما احتفظ الأمازيغ في معالم المعمار والزربية والوشم والحناء برمز الصليب الذي ما زال معتمدًا حتى الآن.

ومن الأسباب التي ساهمت في عدم استيعاب دروس التاريخ قلة النصوص التي تمت ترجمتها من اليونانية القديمة واللاتينية والفينيقية والبونيقية، والتي تحمل معالم المجتمع الأمازيغي القديم، ولاسيما في مراحل شيوع الديانات الوثنية واليهودية والمسيحية، حيث من المعلوم أن الأمازيغ لم يكتبوا إلا نادرا بلغتهم الأصلية، بينما استعملوا لغات الأقوام المحيطة بهم من ذوي حضارات مزدهرة. وساهم في هذا الواقع كون الأمازيغ لم يحاربوا اللغات والثقافات والديانات الأخرى وإن كانوا قد حاربوا بشدة الغزاة والمحتلين عبر التاريخ.

يفسر ما ذكرناه كيف أن أولى المعضلات التي واجهتها "الحركة الوطنية" المغربية منذ نشأتها سنة 1930، هذا البناء الحضاري المتعدد والشديد التنوع، حيث عدّ منظروها الأوائل  هذا الغنى الحضاري عائقا أمام بناء الدولة المركزية وتقويتها. فنظروا إلى التنوع كتهديد لوحدة البلاد، فهاجموا المكون الأمازيغي لصالح المكون العربي، باعتماد تأويل سياسي خاص لما سُمِّي بـ"الظهير البربري"، وهو الظهير الذي عُدَّ موجها لـ "تنصير البربر"، رغم أنه كان ظهيرا خاصا بالمحاكم العرفية الأمازيغية ولا علاقة له بموضوع الدين.  ورغم ذلك هاجم الوطنيون المكون المسيحي لصالح المكون الإسلامي وعدّوا التبشير المسيحي مؤامرة استعمارية فرنسية، في الوقت الذي تشير فيه الوثائق إلى أن التبشير المسيحي لم ينقطع قط في الواقع المغربي. إذ كان المبشرون يعيشون بين الناس سواء في الحواضر أو البوادي في عهود السلاطين المغاربة قبل مجيء فرنسا.

وبعد الاستقلال سنة 1956، تم إرساء التعليم النظامي العصري على أسس فلسفية وفكرية تتعارض مع جوهر المدرسة الحديثة والتعليم العصري، حيث عُدّت "العروبة والإسلام" شعارا رسميا وهوية، وجُعلت المدرسة مكانًا لصنع الرعايا باستعمال الدين، حيث عدّت مهمة المدرسة صناعة مسلمين لا مواطنين، فأصبحت مادة "التربية الإسلامية" أساس التكوين الذي يهدف إلى جعل التلاميذ يشعرون بانتمائهم إلى "جماعة المسلمين" و"أمة المسلمين"، لا إلى الإنسانية ولا إلى الوطن أو المجتمع بمفهومه العصري الحديث. كما كان من أخطر نتائج هذا التعليم الأحادي تربية النشء على كراهية الاختلاف والتعددية في الآراء والمعتقدات واللغات والمواقف، وعلى اعتبار الحقيقة واحدة وحيدة بشكل ماحق، وعلى اعتبار الآخر شرًا وخطرًا ومؤامرة. وهكذا عوض أن تصبح المدرسة فضاء للحوار والنقاش ونسبية الفكر والبحث والمطالعة وشغف الاكتشاف وفضول المعرفة، تحولت إلى فضاء لشرعنة العنف وآلية لتعليب الناس في أيديولوجيا دينية في غاية الفقر والبؤس، حيث لا يتعدى هدفها الأسمى صناعة مسلمين مؤمنين ورعايا خاضعين للحكام يعيدون، إنتاج الماضي بكل مساوئه.

أدّى هذا الواقع السلبي الذي قام على معاكسة التاريخ والجغرافيا، وعلى التنكر لحقيقة المجتمع المغربي التي هي التعدد والتنوع والاختلاف، إلى نتيجة على قدر كبير من الخطورة، وهي نقل المجتمع المغربي من مجتمع منفتح على العالم إلى مجتمع مغلق، من بلد متسامح مع مظاهر تنوعه إلى بلد يسود فيه العنف والإقصاء، من دولة تقوم على تدبير عقلاني حكيم لتعدديتها الخلاقة والغنية، إلى دولة تقوم على التمييز والتفرقة وتزييف التاريخ والتكتم على عيوبها وتحويلها إلى محرمات سياسية.

وطبيعي أن الضحايا الأوائل لهذه السياسات العمومية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانوا من الذين تربوا على قيم غير قيم الإيديولوجيا الرسمية السائدة، وهم الذين يتكلمون لغات غير اللغة الرسمية، ويعتنقون أديانا غير الدين الرسمي، ويختارون من القيم الإنسانية النبيلة ما لا يتماشى مع قيم مدرسة الإقصاء والتشدّد، وهم اليهود والأمازيغ والمسيحيون والبهائيون والشيعة وغير المؤمنين، وهم جميعا لا تعترف بهم الدولة الاعتراف العملي المطلوب، كما لم تربّ المجتمع على احترامهم.

وإذا كان اليهود قد حظوا بنصف اعتراف خجول من الدولة المغربية بوصفهم "طائفة"، إلا أنهم منعوا من التعريف بديانتهم وأعيادهم وتقاليدهم في وسائل الإعلام، كما لا تتضمن الكتب المدرسية المغربية أية إشارة إلى وجودهم، حتى أصبح شباب اليوم لا يعرفون ما يربط هؤلاء اليهود بوطنهم، كما أن الإيديولوجيات السياسية الدخيلة، مثل القومية العربية والإسلام السياسي، نجحت في إشاعة الكثير من الكراهية ضدّ اليهود المغاربة بسبب الخلط المتعمّد بين اليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل.

أما المسيحيون المغاربة فقد ظلوا بمنزلة الطابو الأكبر. فالمسيحية في المغرب تعني من الناحية الرسمية ديانة الأجانب المقيمين في المغرب، والذين هم أقلية صغيرة جدا ولها الحق في أداء شعائرها الدينية في الكنائس الموجودة في المملكة، هذه الكنائس التي تناقصت، حيث تحولت الكثير منها إلى قاعات للثقافة أو للرياضات وفنون الحرب، كما أنّه تمّ تدمير بعضها رغم توفرها على هندسة فريدة تستحق معها الصيانة والترميم. وقد ألزمت الدولة الكنيسة الكاثوليكية بعدم التبشير، وبمنع أي مغربي من ولوجها سواء لهدف ثقافي أم بغرض ممارسة الشعائر الدينية.

 

لماذا لا تعترف الدولة المغربية بمسيحييها؟

إذا كانت الدولة المغربية تعترف بالمسيحيين الأجانب، فإنها على عكس ذلك لا تعترف بالمغاربة المسيحيين، أي بالمواطنين المغاربة الذين ولدوا في محيط إسلامي واختاروا بعد بلوغهم سنّ الرشد اعتناق الديانة المسيحية. ويرجع هذا الموقف الرسمي الذي يتعارض مع التزامات الدولة المغربية إلى عوامل منها:

1) استمرار النظام السياسي في استعمال الدين في مجال السياسة وفي حقل الشرعية السياسية، ما يؤدي إلى تنصيب السلطة نفسها مراقبًا للدين والمعتقد وحارسا لهما، وهو الدور الذي يتم التعبير عنه دائما بعبارة "حامي حمى الملة والدين" التي يقصد بها الملك بصفته الدينية التي يجسدها لقب "أمير المؤمنين". ورغم أنّ "إمارة المؤمنين" مؤسسة يمكن أن تتسع لجميع المؤمنين بالديانات الذين ينبغي أن تحميهم الدولة وتحمي حقوقهم الأساسية في الاعتقاد وفي ممارسة الشعائر الدينية، إلا أن هذه التسمية أطلقت على الملك باعتباره فقط ملكا للمؤمنين من المسلمين وحارسا للدين الإسلامي ومدافعا عنه، ما انعكس سلبًا على واقع المواطنين الذين يدينون بديانات أخرى، والذين لا يتمتعون بأية حماية، باستثناء اليهود المغاربة الذين يعدون تحت "حماية السلطان" بالطريقة التقليدية التي اتبعت منذ قرون، والتي لم تعد كافية اليوم في إطار الدولة الحديثة القائمة على مبدأ المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن التيار الإسلامي المحافظ يعد "إمارة المؤمنين" مؤسسة لتنميط المجتمع وقولبته في إطار إيديولوجيا إسلامية معادية للتعددية الدينية. وخير دليل على ذلك التصريح الذي أدلى به الدكتور أحمد الريسوني الذي يعدّ أكبر منظري التيار الإسلامي المشارك في الحكومة (التيار الذي أفرز حزب "العدالة والتنمية")، حيث صرح موجهًا خطابه إلى الملك سنة 2011، بأنه في حالة ما إذا تم إقرار حرية المعتقد في الدستور المراجع، "فسوف لن يبقى لأمير المؤمنين مؤمنون يحكم عليهم"، جاعلا من "المؤمنين" قطيعا محروسا بعصا السلطة وبنادقها. وهو تصريح خطير يكشف عن حقيقة ما يضمره المتطرفون الدينيون الطامحون إلى الاستيلاء على السلطة، وهو أن استمرار الدين الإسلامي رهين بحراسته ومراقبة معتنقيه بشدة حتى لا يغادروه. والحقيقة هي أنه لا يمكن بغير هذا المنظور الفاشستي ضمان الهيمنة السياسية والوصاية على المجتمع باستعمال الدين.

2) يعود العامل الثاني الذي يحول دون الاعتراف بالتعدّدية الدينية إلى الطريقة التي تمّ بها تأطير المواطنين على أساس أنّ المغاربة "كلهم مسلمون"، واستعمل بشكل كاريكاتوري رقم 99,99 بالمئة لإسكات المعارضين، وعدّ من ليس مسلمًا خارجًا عن "الجماعة" وعن "الأمة"، وهي مفاهيم استعملت بكثافة من أجل ترسيخ الطابع التقليدي في المجتمع، وعرقلة مسلسل التحديث والدمقرطة، والنتيجة أن المغاربة في معظمهم لا يعرفون حتى بوجود مواطنين مغاربة يدينون بديانات أخرى. وعندما يسمعون بذلك يشعرون بالصدمة، ويميلون إلى إنكار ذلك إنكارا تاما. وعندما يتأكدون من الخبر يصبحون في غاية العنف والقسوة، حيث تخرج ردود أفعالهم عن طور التعقل، وتصنف ضمن ردود الأفعال الهذيانية.

3) أما العامل الثالث فيكمن في الترسانة القانونية التي تعتمدها الدولة في علاقتها بالمواطنين، حيث ينصّ القانون الجنائي المغربي في المادة 220 على المعاقبة بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى 500 درهم لكل من "استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك، أو استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم". وهي المادة التي يتم تأويلها بطريقة مجحفة لتستعمل في المحاكم ضدّ من اختار بإرادته الحرة دينا آخر دون إكراه أو إغراء، حيث لوحظ أن جميع الحالات الظاهرة للمغاربة الذين اعتنقوا المسيحية - ومنهم من حوكموا واضطهدوا - لم يفعلوا ذلك بسبب إغراء أو ضغط من أي نوع، بل لأسباب أخرى أولها تزايد التطرف الديني الإسلامي الذي يعتمد نصوص الدين من الأصلين القرآن والسُّنة، وثانيها تخلف المجتمعات الإسلامية، وبشكل خاص في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وترديها في مهاوي الجهل واللاتسامح واستعمالها الدين بكثافة لتبرير ذلك والحفاظ عليه، وثالثها القلق الوجودي الفردي الذي يقود العديد من الأشخاص إلى التفكير وإعادة القراءة والبحث عن الخلاص والطمأنينة النفسية.

أما في ما يخصّ اتهام المبشرين باستغلال المياتم والأطفال للتبشير، فقد تبين بالملموس من خلال التحقيق الذي أجرته الدولة المغربية خلال محاكمة مبشرين أجانب، أن العمل الخيري الذي قام به هؤلاء في المغرب لم يعمد قط إلى تعريف الأطفال بالدين المسيحي خلال توليهم بالعناية، وقد ثبت ذلك بحكم قضائي بالبراءة صادر عن القضاء المغربي سنة 2010. وطالب بعده هؤلاء المبشرون برد الاعتبار وبتعويض قدره 15 مليار سنتيم.

وبهذا الصدد، يلاحظ بخصوص الخطاب المناهض للتبشير المسيحي ما يلي:

ـ إن استعماله كلمة "التنصير" في حدّ ذاتها تحريف للواقع، لأنها توهم بأنّ التبشير تحويل قسري للأفراد عن معتقدهم الأصلي عبر الإكراه، والذين يلجؤون إلى هذا التحريف إنما يفعلون من أجل تبرير استعمال ما ورد في الفصل 220 من القانون الجنائي، والذي لا يتطابق مطلقا مع ما يجري في الواقع.

ـ يطبق ما ورد في القانون الجنائي بشكل جزئي وانتقائي، حيث يشمل بعضهم دون آخرين. فالذي يعوق غيره عن أداء شعائره الدينية يعاقب طبقا للقانون، لكننا نكتشف في سلوك السلطة أن المقصود هو "من يعوق مسلما عن أداء شعائره" وليس غيره، ما دامت السلطة نفسها تعوق من ليس على الدين الرسمي وتمنعه من أداء شعائره الدينية.

ـ وذريعة الإغراء بالمال التي تستعمل من أجل التضييق على التبشير المسيحي أو غيره هي ما تقوم به الجمعيات الإسلامية في كل بلدان العالم. بل إن الوهابية العالمية تخصص لذلك ملايين الدولارات. ولولا المال السعودي والخليجي، لما كانت جمعيات التبشير الإسلامي بالعدد الذي هي عليه في القارات الخمس.

ـ يكشف الحديث عن "التنصير" بوصفه "خطرا" عن حقيقة واحدة، وهي عدم القبول بحرية الاعتقاد والسعي إلى فرض الدين الواحد بقوة السلطة وغلبتها، وهو سلوك لا يمتّ إلى الديمقراطية وإلى ثقافة العصر الذي نحن فيه بصلة. فبالنظر إلى أثر المعتقدات على السلم الاجتماعي في بلدنا نرى أنّ أخطر ما يهدد كياننا واستقرار العالم هو الأسلمة السياسية التي تصنع الأحزمة الناسفة. إذ لم يثبت أنّ مغربيا انتقل من الإسلام إلى المسيحية اعتمد أسلوب التفجير أو وضع لوائح الاغتيالات، أو مسّ بحق غيره في الاعتقاد.

4) أما العامل الرابع فهو جهل المغاربة بتاريخهم القديم، حيث عملت الدولة، كما أشرنا، إلى تجهيل المجتمع في ما يخص تاريخه بالتركيز على التاريخ الإسلامي فقط، والذي يرسخ لدى الأفراد بدهية غير علمية وهي أن الإسلام هو بداية التاريخ ونهايته، وبهذا يغيب على الكثير من المغاربة أن أجدادهم كانوا على ديانات مختلفة منذ فجر التاريخ، ومنها الديانة المسيحية التي كانت تشغل رقعة كبيرة من شمال إفريقيا، كما كانت بمنزلة نوع من لاهوت التحرير ضدّ الأمبراطورية الرومانية أيام عدائها لهذه الديانة، وأبدعت مذاهب جديدة في الديانة المسيحية لمعارضة روما بعد أن صارت مسيحية.

رغم هذا الواقع الذي لا يساعد المسيحيين المغاربة على الحياة الطبيعية، والذي ينبغي الاعتراف بأنه قد أصبح أقل عنفا وقسوة من ذي قبل، إلا أنه لوحظ في الشهور الأخيرة تزايد أعداد المواطنين الذين يملكون الجرأة على إعلان اعتناقهم للديانة المسيحية. وأهم الظواهر بهذا الصدد شروعهم في تسجيل فيديوهات يعلنون فيها بلغة واضحة بسيطة بأنهم مغاربة اعتنقوا الديانة المسيحية، وأنهم قرروا ذلك باختيارهم الحرّ بعد تفكير طويل وتأمل وبحث، من دون إكراه من أحد أو تغرير أو تسرع، كما استطاع بعضهم القيام بحوارات صحفية عبّر من خلالها عن اختياره العقدي بحرية. وهي ظواهر قوبلت كالعادة بالاستهجان في البداية، وبقدر من العنف الرمزي، لتتجه بالتدرج نحو النقاش الهادئ الذي يطرح أسئلة جوهرية حول حرية العقيدة، ليس فقط في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، بل في الثقافة الوطنية المغربية أيضا.

تكمن أهمية خروج المسيحيين المغاربة عن صمتهم في كسرهم للطابو، وفي نقلهم للنقاش حول حرية المعتقد من الإطار النظري إلى المستوى العملي الإجرائي، حيث يمثلون التجسيد الحيّ لهذه الحرية التي اعترف بها المغرب مؤخرا في المنتظم الدولي، وإن كان ما زال لم يدرجها في دستوره الذي يمثل القانون الأسمى للدولة.

ما العمل من أجل تدبير عقلاني للتعددية الدينية ؟

من اللافت للانتباه أن الخريطة الدينية الفعلية للمغرب تظلّ دائما خارج النقاش العمومي عندما يتعلق الأمر بالحريات الفردية. فقد رسخت الأحزاب التقليدية بسبب ضعفها أمام السلطة وتراجعها في تأطير الرأي العام شعارا أبدعته في مواجهة الإسلاميين الذين تزايدت أهميتهم في المجال السياسي المغربي منذ الثمانينيات، وهو الشعار الذي يقول "المغاربة كلهم مسلمون"، وهو شعار يقصد به عدم ترك الدين يتحول إلى آلية سياسية يحتكرها المتطرفون. غير أن هذا الشعار سرعان ما أبان عن محدوديته، وقد جاء الجواب واضحا ومنطقيا من الشيخ عبد السلام ياسين زعيم جماعة "العدل والإحسان" حين قال: "إذا كنتم مسلمين حقا فتعالوا إلى كلمة سواء على أرضية الإسلام"، وهو ما لا تستطيعه الأحزاب المذكورة لأنها عمليا أحزاب علمانية، لكنها تفضل تملق الوجدان الديني للجمهور ما دامت قد تخلت - لصالح المتطرفين - عن تكوين الشباب وتأطير المجتمع بوعي عصري، وانشغلت بالصراع على الكراسي. كما أن السلطة بدورها في تعاملها مع تيارات الإسلام السياسي لا تعتمد أبدا ثقافة العصر ومفاهيمه، بقدر ما تزايد على تلك التيارات باعتماد لغة خشبية تذكر فيها بالمذهب الرسمي وبالثوابت الدينية وبإمارة المؤمنين، وإن كانت في محاكمة الإرهابيين من هؤلاء تلجأ إلى القوانين الوضعية والمحاكم المدنية. وقد نجم عن هذا النهج من طرف السلطة والأحزاب السياسية تواطؤ ظاهر على تحويل موضوع التدين في المغرب إلى طابو والاكتفاء بترويج الشعارات الرسمية.

لكن عند النظر إلى الواقع بتجرد، يمكن القول إن الخريطة الدينية بالغة التعقيد بسبب تنوع مكوناتها، لكنها تتضمن الكثير من العناصر المسكوت عنها. فبجانب الأغلبية من المسلمين بمللهم ونحلهم، ثمة مسيحيون ويهود وبهائيون، إضافةً إلى السكان الذين يمكن إدراجهم ضمن "غير المؤمنين"، أي الذين لا يجدون أنفسهم في أي دين من الأديان، كما لا يشكل الدين مرجعية في سلوكهم أو تفكيرهم.

غير أنّ الأغلبية المسلمة بدورها ليست متجانسة. فهناك المسلمون الذين يؤدون الشعائر الدينية ومنهم أتباع الإسلام "الشعبي" المتوارث والوسطي، أي إسلام "الآباء والأجداد"، وهم على ما يظهر الأغلبية، ومنهم المسلمون "العلمانيون" أي الذين يؤدون الشعائر الدينية من صلاة وصيام وحج، ويعدون أنفسهم مسلمين لكنهم لا يؤمنون بضرورة الدولة الدينية ولا بتطبيق الشريعة ولا يعدون "الحجاب" فريضة دينية، ويقولون بالمساواة بين الرجل والمرأة. وهم على العموم من المنخرطين في الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية، وهم رجال ونساء معلمون وطلبة وتجار ورجال أعمال. ومن هؤلاء أيضا المسلمون "العلمانيون" الذين يلتقون مع الفئة السابقة، لكنهم مختلفون في أنهم لا يؤدون الشعائر الدينية كالصلاة والصوم، وهم يشربون الخمر ويعدون أنفسهم مسلمين لأنهم يؤمنون بوجود الله وبوجود حياة بعد الموت، ويعيشون ثقافة إسلامية في حياتهم اليومية. ثم هناك المسلمون "الإسلاميون"، وهم المنخرطون عمليًا في تنظيمات الإسلام السياسي والذين يوجدون بدورهم في الفئات المذكورة آنفا، ويتميزون عن المسلمين السابقين بتبني أيديولوجيات ومذاهب دينية مستوردة من خارج المغرب كـ"الوهابية" السعودية و"الإخوان المسلمين"، يربط بينها مبدأ الجمع بين الدين والسياسة والسعي إلى إعادة الدولة الدينية. وهم وإن كانوا يحاولون الظهور بمظهر الكثرة، إلا أنّ العديد من المناسبات التي يحتشدون ويعبئون أنفسهم فيها تظهرهم كأقلية منظمة، ولاسيما في الانتخابات والمسيرات. ثم هناك المسلمون "المتصوفة" المنخرطون في مختلف الزوايا والطرق الموجودة في المغرب منذ قرون، ثم المسلمون "الشيعة" الذين لا يجدون بعد أي فضاء للتعبير العلني عن رأيهم وعقيدتهم، كما لا يسمح لهم مطلقا بممارسة شعائرهم بشكل ظاهر، أو بالخوض في أي نقاش عقدي مع المسلمين السنيين بالمغرب.

وبجانب هذه الفئات من المسلمين، ثمة مسيحيون تقول إحصائيات غير رسمية أنهم قد بلغوا ما بين 40 و 44 ألفا، كما ذهبت إحدى التقارير الصادرة عن المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، وهو مركز تابع لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي المغربي، إلا أن عدد المغاربة الذين كانت لهم صلة بتبشيريين مسيحيين يبلغ 150 ألفا. غير أن بعضهم يرى أن هذه الأرقام مبالغ فيها. ويبقى الرقم الصحيح غير ممكن معرفته بسبب انعدام الحريات وشيوع مناخ عدم التسامح الديني الذي تشجعه السياسة المتبعة من طرف الدولة. غير أنه من المؤكد الإشارة إلى أنّ عدد المغاربة الذين يغادرون الإسلام إلى المسيحية سواء أكان ذلك داخل المغرب أم خارجه في تزايد مستمر.

ثم نجد اليهود المغاربة الذين يقال إنهم في حدود 3000 بقوا في المغرب بعد تهجير أغلبية اليهود المغاربة ما بين فجر الاستقلال ومنتصف الستينيات، سواء أكان ذلك في اتجاه إسرائيل أم إلى البلدان الأوروبية والأمريكية، وكان عددهم قبل التهجير 300000 يهودي مغربي.

أما البهائيون فلا شك في وجود بعض منهم في المغرب، أي بقايا معتنقي هذه الديانة بعد الحملة القمعية والتصفيات والمحاكمات التي تعرضوا لها بعد استقلال المغرب عام 1956، حيث حكم عليهم بالإعدام لولا تدخل الملك الحسن الثاني الذي أصدر عفوا ملكيا عليهم. ويقال إن عددهم اليوم يتراوح بين 400 و500 شخصًا.

ثم هناك المغاربة "العلمانيون" الذين لا يعتنقون أي دين من الأديان، ويدخلون في خانة "غير المؤمنين"، ويطلق عليهم في المرجعية السلفية "الكفار"، وهو مفهوم لم تعد له أية دلالة اليوم بعد تراجع الأنظمة الدينية وبروز فكرة المساواة على أساس المواطنة، وليس الانتماءات العرقية أو الدينية أو القبلية. وهم أيضا فئة من المتعذر تعدادهم بسبب غياب تنظيمات تجمعهم وانعدام الحريات والتسامح الديني في الدولة والمجتمع.

هذه هي الخريطة التقريبية التي تبقى بحاجة إلى تدقيق بالأرقام، وبالاستقصاء الميداني والعلمي المحايد عندما يتيسر ذلك، والتي تخفيها السلطة والإسلاميون بشعار "المغاربة كلهم مسلمون"، أو بحديث الإسلاميين الأخرق عن "الأقلية المعزولة من المعتوهين والشواذ". وهي خريطة تظهر أن ما نحن بحاجة إليه اليوم ليس خلق الانسجام القسري بإرهاب السلطة والتهديد بهياج العامة والفئات الأمية، إنما احترام حق كل واحد وحمايته، وحماية كلّ الأديان والمعتقدات، وتربية المجتمع على قيم التسامح، لأن من مبادئ الدولة الديمقراطية حقا حماية الحريات والتدبير المعقلن للاختلاف بناء على الاحترام المتبادل. وإذا كان بعض المسلمين لا يقبلون بذلك، فلأنهم ببساطة لا يكنون أي احترام لغيرهم، ويطالبون رغم ذلك بأن يُحترموا في عقيدتهم. وتلك هي المفارقة.

فما العمل من أجل تحقيق التدبير العقلاني للاختلاف والتعددية الدينية والثقافية؟

إذا كان الهدف هو أن يشعر كل مغربي بالكرامة، وباحترام كل حقوقه أولها حقه في التعبير وفي اختيار نمط الحياة، فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالبدء بإعادة النظر في الترسانة القانونية المغربية من أجل تطهيرها من كل ما علق بها من مضامين تكرس التمييز بين المواطنين، وتحرم الكثير منهم من ممارسة حياته بشكل طبيعي، وتجعل من حقوق أساسية جرائم يعاقب عليها القانون.

يعد التنصيص على حرية المعتقد في الدستور وفي القانون الجنائي، والحديث عن الأديان بالجمع لا بالمفرد، وحذف كل العبارات والفقرات التي تشكك في حق المواطنين في اعتناق الأديان، مع الإبقاء على الفقرات التي تعاقب على أي نوع من أنواع العنف ضدّ المعتنقين لكل الأديان، إضافةً إلى تجريم التكفير والإرهاب بكل أنواعه المادية والرمزية، إجراءات ضروربة وحيوية من أجل إنجاح تجربة الانتقال نحو الديمقراطية في المغرب.

بجانب ما ذكرنا، لا بد من مراجعة جذرية للأسس التي بني عليها النظام التربوي، حيث ما زالت المدرسة المغربية تكرس التناقض الصارخ بين قيم الحداثة الديمقراطية وقيم التقليد الماضوية من دون أن تجد المعابر بينهما، بسبب انعدام الرؤية الواضحة وغياب الإرادة السياسية في الإصلاح الفعلي. وإذا كان الملك محمد السادس قد تنبه مؤخرا إلى خطورة بعض المضامين الدراسية الخاصة بالتربية الإسلامية وأصدر أوامره بتعديلها، إلا أن التعديلات التي أجريت ليست كافية، لأن المقررات الدراسية لهذه المادة ما زالت بعيدة عن الاستجابة لالتزامات الدولة المغربية والخيار الديمقراطي الذي تم التنصيص عليه في الدستور باعتباره من ثوابت الدولة المغربية.

ومن جانب آخر، لا بد من توسيع مجال الحريات وبشكل خاص حرية التعبير في الفضاءات العمومية وشبه العمومية حتى يتسنى للجميع التعبير عن آرائهم، ومعاقبة من يسعى إلى إرهاب الناس والضغط عليهم بالطرق غير القانونية من أجل إسكات أصواتهم والاستفراد دونهم بالكلمة في منابر الإعلام والخطابة.

ثم لا بدّ من القيام بحملات الإرشاد اليومي من أجل توعية المواطنين وتحسيسهم بأهمية التنوع الثقافي والتعدّدية الدينية واللغوية والثقافية في بلدهم، واعتبارها عاملا لتقوية العيش المشترك، عوض أن تعد عاملا لزعزعة استقرار البلد كما يزعم المناوئون الذين هدفهم تنميط المجتمع وإشاعة الفكر الأوحد.

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*