كيف أعيد تشكيل العالم فى القرن الخامس عشر؟ - مقالات
أحدث المقالات

كيف أعيد تشكيل العالم فى القرن الخامس عشر؟

كيف أعيد تشكيل العالم فى القرن الخامس عشر؟

محمد يسري:

 

شهد القرن الـ15 الميلادي حدثين على قدر كبير من الأهمية، أولهما هو سقوط القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، في قبضة الأتراك العثمانيين، عام 1453، وثانيهما سقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، في يد ملك أراغون فرناندو الثاني، وملكة قشتالة إيزابيلا الأولى، عام 1492.

شكّل هذان الحدثان علامة فارقة في التاريخ السياسي والديني والاجتماعي في منطقة حوض البحر المتوسط والشرق الأدنى، كما أثّرا كثيراً في تشكيل العلاقة بين الإسلام والمسيحية في فترة أواخر العصور الوسطى وبدايات التاريخ الحديث.

انتهاء عصر وبداية آخر

تسبب سقوط القسطنطينية في القضاء على الإمبراطورية البيزنطية التي تمكنت من الصمود لما يزيد عن الألف عام. وكان في ذلك إشارة واضحة على وقوع تغيرات كبيرة في موازين السياسة الدولية.

يقول الباحث جمال الدين الكيلاني في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية" إن المؤرخين يكادون يجمعون على أنه بفتح القسطنطينية "تنتهي العصور الوسطى الأوروبية وندخل في العصور الحديثة"، بناء على "أهمية تحول المدينة إلى إسلامية حيث شكلت أكبر خطر على أوروبا طول الفترة اللاحقة".

بسقوط القسطنطينية، أضحى العثمانيون على مرمى حجر من القارة الأوروبية، كما تمكنوا من تثبيت أقدامهم في الأناضول وآسيا الصغرى. وكما هو متوقع، أثار الانتصار العثماني عاصفة من الغضب في شتى العواصم الأوروبية.

يتحدث علي حسون، في كتابه "العثمانيون والبلقان"، عن ذلك فيذكر أن البابا نيقولا الخامس سارع إلى عقد مؤتمر عاجل في روما، طالب فيه الممالك الأوروبية بتكوين حلف عسكري لقتال الأتراك. ورغم اهتمام ملوك أوروبا بالأمر إلا أن الوفاة المفاجئة للبابا تسببت في إفشال المشروع.

في السياق نفسه، حاول الأمير "فيليب الطيب"، دوق بورغوندي الواقعة في فرنسا، متابعة العمل للنهوض بهذا التحالف ودعا كل من الإمبراطور الألماني فريدريك الثالث، وملك فرنسا شارل السابع للانضمام إليه، ولكن المشكلات بين الدول الأوروبية حالت دون تحقيق هذا الهدف.

من جهتهم، استثمر العثمانيون سيطرتهم على القسطنطينية بالشكل الأمثل. لم يمر وقت طويل حتى توغلت القوات العثمانية في منطقتي تراقيا والبلقان. فأخضعت اليونان، وشبه جزيرة المورة، وألبانيا، والبوسنة، والهرسك، وصربيا، والمجر، وبلغاريا، محققة الانتصار على الجيوش الأوروبية في العديد من المعارك.

في سياق آخر، تسبب الغزو التركي للقسطنطينية في تحسين الصورة العثمانية في البلدان الإسلامية. يورد المؤرخون المسلمون شهاداتهم على الآثار الإيجابية التي أحدثتها أخبار الانتصار في تلك البلدان. على سبيل المثال، يذكر ابن إياس الحنفي، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، أن أخبار الانتصار لمّا وصلت إلى القاهرة، عاصمة المماليك، "دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة...".

المعنى نفسه يظهر في ما أورده ابن تغري بردي، في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة". يقول: "سر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياماً... وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك إلى الغاية وعمل السلطان الخدمة (الولائم) بالحوش السلطاني من قلعة الجبل...".

من هنا، يمكن القول إن الاستيلاء العثماني على القسطنطينية مثّل حجر الزاوية في مشروع التوسع العثماني، بعدما منح سلاطين بني عثمان الشرعية اللازمة للحكم ولمتابعة فتوحاتهم شرقاً وغرباً، الأمر الذي ظهرت آثاره بعد سنوات، عندما أسقط العثمانيون الدولة المملوكية، واستولوا على ممتلكاتها الواسعة في مصر والشام وشبه الجزيرة العربية، وأعلنوا عن تأسيس الخلافة العثمانية.

ضربة أخيرة لمسلمي الأندلس

إذا ما انتقلنا إلى كانون الثاني/ يناير من عام 1492م، سنجد أنه شهد حادثة لا تقل خطورة أو تأثيراً. تمكن الإسبان في ذلك التوقيت من توجيه الضربة الأخيرة لمسلمي الأندلس في شبه الجزيرة الإيبيرية، فسقطت غرناطة، عاصمة دولة بني الأحمر، في أيدي تحالف قشتالة وأراغون.

مثّل سقوط غرناطة خاتمة للحروب الطويلة التي خاضها الإسبان ضد المسلمين، والتي عُرفت بحروب الاسترداد. وبسبب هذا السقوط، انتهى الوجود السياسي الإسلامي من الأندلس بشكل كامل، خصوصاً بعدما أعلن آخر ملوك غرناطة، أبو عبد الله محمد الثاني عشر، عن تسليمه للمدينة وخروجه منها إلى المغرب.

بسقوط غرناطة، تحمل المغرب عبء التصدي للأحلام التوسعية الإسبانية. وبدأت جيوش قشتالة وأراغون المؤيَّدة من قِبل البابا الكاثوليكي بشن الحملات تباعاً على الأراضي المغربية بذريعة حماية السواحل الإسبانية من خطر القراصنة المتحالفين مع البحرية العثمانية.

في خضم تلك المنازعات، تمكن الإسبان من احتلال مدينتي سبتة ومليلية، واللتين صارتا في ما بعد قواعد للهجمات الاستعمارية التي ستصل إلى أوجها في بدايات القرن العشرين.

في سياق آخر، لعب الانتصار على المسلمين في غرناطة دوراً مهماً في تزايد نفوذ الإسبان في أوروبا. تولى العديد من ملوك إسبانيا من سليلي أسرة هابسبورغ الشهيرة لقب إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وعُرفوا بتمسكهم الشديد بالكاثوليكية، وبتحالفاتهم المستمرة مع باباوات الفاتيكان.

كل تلك الأحداث أسفرت عن ظهور العثمانيين وآل هابسبورغ كقوتين سياسيتين عظيمتين في شرق وغرب حوض البحر المتوسط على الترتيب. ومما زاد من قوتيهما أن كل منهما استند إلى تأييد ديني واسع النطاق، تمثل في مؤسسة الخلافة في الحالة العثمانية، وبابا الفاتيكان في حالة الهابسبورغ.

بين الدين والمذهب

تسبب سقوط القسطنطينية في تدهور مكانة المسيحية الأرثوذكسية بشكل كبير. تراجعت المكانة الدينية لبطريركية القسطنطينية، وصار البطريرك يُعيَّن من قِبل السلطان العثماني نفسه. أدى ذلك إلى حدوث تحول مهم في مسار المسيحية المشرقية عندما أضحت مدينة موسكو الروسية المعقل الأهم للأرثوذكسية المسيحية في العالم، ولُقبت وقتها باسم روما الثالثة أو روما الجديدة. ساعد في ذلك التحول أن أمير موسكو إيفان الثالث تزوج من صوفيا باليولوغ، ابنة أخ قسطنطين الحادي عشر، آخر أباطرة الدولة البيزنطية.

من جهة أخرى، انتشر الإسلام بشكل سريع بين الكثير من الأعراق المستوطنة في أقاليم تراقيا والبلقان. ولعب شيوخ الصوفية المؤيَّدون من قِبل السلطة العثمانية دوراً مهماً في ذلك الانتشار. على سبيل المثال تحدثت الباحثة البوسنية مريم توليتش، في دراستها المعنونة بـ"رحلة في غمار صوفية البوسنة والهرسك"، عن التصوف ودوره في تحويل البوشناق وأهل بلاد البوسنة للإسلام، فقالت: "في القرنين التاليين (لفتح القسطنطينية) وبشكل تدريجي، تزايد عدد معتنقي الإسلام من أهل البوسنة، فبعد 150 سنة، أصبح ثلثا سكان البوسنة من المسلمين، ورافق ذلك انتماءٌ للطرق الصوفية في كثير من الأحيان، وهو ما يدلّ عليه عدد التكايا الذي تزايد بسرعة كبيرة".

إذا ما انتقلنا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، سنجد أن حادثة سقوط غرناطة تسببت في إحداث تغيرات كبيرة في شكل الخريطة الدينية في تلك المنطقة. يذكر محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" أن ملوك إسبانيا قرروا طرد جميع اليهود المتواجدين في شبه الجزيرة.

في آذار/ مارس من عام 1492م، صدر مرسوم ملكي جاء فيه "أن يغادر سائر اليهود (الذين لم يتنصروا) من أي سن وظرف، أراضي قشتالة في ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألا يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألا يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية أو إيواء أى يهودي أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرفوا فيها وفق مشيئتهم".

بموجب هذا القرار طُرد ما يتراوح بين 100 و300 ألف يهودي. بعد سنوات قليلة من سقوط غرناطة، تعرض المسلمون للمحنة ذاتها. في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1525 خيَّر الملك فيليب الثاني المسلمين في بلنسية (فالنسيا) بين أن يتحولوا لاعتناق المسيحية أو أن يغادروا شبه الجزيرة، وبدأ عمل محاكم التفتيش لمراقبة المتحولين الذين احتفظوا بإيمانهم الإسلامي في قلوبهم.

تدريجياً توسع ملوك إسبانيا في إجبار المسلمين على اعتناق المسيحية حتى حُكم على أحفادهم المعروفين باسم الموريسكيين بالطرد في سنة 1609. وهكذا تحولت شبه الجزيرة الإيبيرية إلى مملكة مسيحية كاثوليكية خالصة بعد أن كانت نموذجاً للتعايش السلمي بين أصحاب الديانات الإبراهيمية الثلاث.

الديموغرافيا والحضارة

تسبب سقوط القسطنطينية في هجرة العشرات من العلماء والفنانين والكتاب والمفكرين والفلاسفة البيزنطيين من القسطنطينية إلى إيطاليا وفرنسا وسائر البلاد الأوروبية. نقل هؤلاء معارفهم وثقافتهم اليونانية إلى أوروبا اللاتينية، وأسفر ذلك عن بعث حركة النهضة في دول المهجر. في ما بعد ستجني تلك الدول ثمار هذه الهجرة من خلال ما عُرف باسم عصر النهضة الأوروبية.

من جهة أخرى، كان من الطبيعي أن يشجع العثمانيون على هجرة العشائر التركية المسلمة إلى القسطنطينية وضواحيها ليسدوا الفراغ الذي خلّفته هجرة قسم كبير من السكان المسيحيين إلى الأراضي اليونانية. يذكر أندرو ملر في كتابه "تاريخ الكنيسة" أن الحكومة العثمانية استقدمت ما يقرب من خمسة آلاف أسرة تركية للسكن في المدينة.

في ما يخص شبه الجزيرة الإيبيرية، سنجد أن سقوط غرناطة وهزيمة المسلمين تسببت في استحداث "لغة الألخميادو" بين المدجنين والموريسكيين الذين رغبوا في الحفاظ على ثقافتهم العربية الإسلامية بعيداً عن رقابة محاكم التفتيش الإسبانية. كانت الألخميادو لغة رومانية قشتالية كُتبت بأحرف عربية. وتمكن الموريسكيون من خلالها من نقل معاني القرآن الكريم والكثير من المعارف الفقهية الأساسية في حياة المسلم العادي كأمور الصلاة، والطهارة، والصوم، والزكاة.

لا يوجد إحصاء دقيق لأعداد الموريسكيين الذين طردوا من إسبانيا في 1609، ويذهب الكثير من الباحثين إلى تقديرهم بما يتراوح بين الـ300 ألف إلى المليون. هاجر هؤلاء إلى المغرب الكبير واستقروا في العديد من المدن.

على سبيل المثال، نزحت الأغلبية الغالبة منهم إلى المدن المغربية مثل تطوان، وشفشاون، والقصر الكبير، والرباط، ومراكش، وفاس. وسافر البعض إلى المدن الجزائرية مثل القُليعة، كما هاجر بعضهم إلى المدن التونسية كرأس الجبل، ورفراف، والملتين، والسلوقية، وتستور. أثر هؤلاء المهاجرون كثيراً في ثقافات المناطق التي هاجروا إليها، وظهرت تلك التأثيرات في أشكال الملبس والمأكل واللهجات المحلية.

في سياق آخر، لعب الانتصار الذي حققه الإسبان في غرناطة دوراً مؤثراً في تغيير شكل العالم كله في السنوات اللاحقة. في آب/ أغسطس من عام 1492، عرض كريستوفر كولومبوس على الملك فرناندو والملكة إيزابيلا تمويل رحلته الاستكشافية في المحيط الأطلسي. وافق الملكان اللذان استراحا من خطر مملكة غرناطة، وبعد شهرين فحسب من انطلاق الرحلة وصل كولومبوس إلى جزر الأنتيل في أمريكا الوسطى، وظن وقتها أنه قريب من الهند.

في ما بعد، ستتابع الرحلات الاستكشافية البحرية في المحيط الأطلسي، وسيعرف الأوروبيون أنهم اكتشفوا عالماً جديداً لا علاقة له بالهند أو آسيا. لفترة طويلة، ستسيطر الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الأيبيرية على مقدرات ذلك العالم، وستستحوذ على كميات هائلة من الذهب المُستخرج من أراضيه، وستستخدم تلك الموارد الهائلة في تقوية الجيوش الأوروبية وفي شن الحملات الاستعمارية في إفريقيا وآسيا. من جهة أخرى، سيهاجر الأوروبيون إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وستجد المسيحية متنفساً جديداً لها في تلك الأراضي الواسعة.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*