عبث الدراما التاريخية - مقالات
أحدث المقالات

عبث الدراما التاريخية

عبث الدراما التاريخية

محمد المحمود:

 

تُشَكِّلُ أحداثُ التاريخ وشخصياتُه البارزة مادةً خِصْبة لاشتغال الفنون التمثيلية على أوسع نطاق. في التاريخ ثمة قصّة يمكن استثمارها؛ دون عناء الإبداع/ الابتكار الفني الخالص. ثمة إبداعٌ مَجانيٌ قابل للاستثمار. كما أن الوعي الجماهيري أكثر احْتفاءً بالأعمال الفنية التي تَسْتعيد شيئا من التاريخ؛ لأن الذاكرة الجمعية تحتفظ بالخيوط العامة/ الغائمة لملامح القصة المُنْتَقاة للعمل الدرامي، وتملك "رؤية ما" تجاهها؛ ما يعني أن ثمة استثارة سابقة تربط المُشاهِد بالعمل، المشاهد المُحْتَفظ بأكثر من سؤال؛ فيما هو يتوقع من العمل الفني/ الدرامي التَّبرّع بالجواب.

الدراما التاريخية، وتحديدا: "الدراما التاريخية العربية"، هي جَمْهَرَة التاريخ بكل ما تستلزمه فعالية الجَمْهَرة من تشويق وتسطيح. هي إنزال المادة التاريخية من مستوى "العِلم الجاد" إلى مستوى "الفن المبتذل" الذي يُغَازِل المشاعرَ الساذجة عند عموم الجماهير البائسة المأخوذة ـ جَهلا وتَعصّبا ـ بأوهامها عن تاريخها البعيد.

إن هذه الجماهير المُشْتَعِلة جَهْلا وتعصّبا حَدَّ الاحتراق؛ دون أن تشتعل ـ ولو بِحدود شَمْعة يتيمة ذَابِلة ـ بَحْثاً في المصادر الأولى، وتَنْقيباً في الوثائق، واستثمارا لنتائج الدراسات المحققة، أقول: هذه الجماهير الجاهلة، الكسولة والمستفزة في آن، تَملأ الدراما التاريخية فراغَ جهلها بما تظنه عِلما، وتُرْوِي ظمأَ تَعصّبها بما تظنه حَقا، وتُداوِي جُرْحَها النرجسي بما تظنه مجدا تاريخيا...إلخ، تفعل ذلك مُغْتبِطةً بما تستهلكه، بينما هي تصبح ـ بعد مشاهدتها لهذه الأعمال الدرامية العبثية ـ أعظمَ جهلا وأشدَّ تعصّبا.  

طبعا، يُمْكن لك أن تجمع في العمل الدرامي بين الجَمْهَرة والتشويق من جهة، والمصادقية التوثيقية (التي تحتفظ بنواة الحقيقة التاريخية التي صَادَق عليها العِلم) من جهة أخرى. لكن هذا لا يحدث في الدراما التاريخية العربية؛ إما لأن حقائق التاريخ ليست محل اهتمام أصلا، وكل ما يهم هو التكسّب المادي والرمزي من استعادة التاريخ؛ وإما لأن إرادة التزييف (لأجل التوظيف... !) موجودة سلفا. ولهذا، لا تتضمن مسيرة إنتاج هذه الأعمال تخصيص لجان علمية/ بحثية تُشْرِف على مسيرة إنتاج العمل(توجد لجان شكلية لا علاقة لها بالبحث الجاد والموضوعي)، بحيث تضمن له أن يكون وَفِيّاً للحقيقة التاريخية في خطوطها العامة، خاصة وأن للعمل الفني شروطه الخاصة التي تستلزم مستوى من التحوير، وبالطبع، التحوير الذي يفي لـ"نواة الحقيقة"، لا التحوير الخائن الذي يتعمّد التزوير، ويُمَارس بَهْلوانية الانتقال بالحقائق من النقيض إلى النقيض.

على أي حال، لا يخفى على أحد أن "المادة التاريخية"، حتى في وجودها الموضوعي الخام، ليست محايدة تماما. وبالتالي، فإن استحضارها في عمل درامي ليس محايدا بالضرورة، ليس محايدا ابتداء؛ على افتراض إرادة الحياد. ومؤكد أنه لن يكون محايدا في سياق عملية الاستحضار التي لن تكون لوجه الحقيقة، على الأقل، لوجه الحقيقة النسبية كما هي في حدود مشروطية البحث التاريخي.   

وإذا كانت "المادة التاريخية" ليست محايدة، لا ابتداء، ولا في عملية الاستحضار، فإنها لا تحضر ـ بأية صورة ـ إلا بوصفها "قناعا" لفكرة ما. تحويل المادة التاريخية إلى عمل فني هو تعبير ـ بطريق غير مباشر ـ عن فكرة خاصة بصاحب العمل الفني؛ لا بالتاريخ، تعبير عن منحى ايديولوجي ما، وعن "اصطفاف ما"، لهذا السبب أو ذاك. ولا ضير في ذلك لو كان الوسيط مُتَخَيّل تماما، أو مُدَّعَى تماما، ولكن المشكلة أن الوسيط هنا هو وقائع تاريخية محددة، لها علائقها العضوية بكثير من مسارات التاريخ، وبكثير من مسارات الفكر على امتداد التاريخ أيضا. ما يعني أن تحويلها لقناع بعد تزييف كثير من مُكَوِّناتها الأساسية، يُعَدُّ انتهاكا لِحُرْمَة الحقيقة، وتدميرا لمبادئ الوعي العلمي، وتشويها ـ واعيا أو غير واعٍ ـ لِنَسقِ القيم الإيجابية التي تتغيا الإنسان في الإنسان، والتي لا تَتشكّل إلا من خلال وعي قِيَمي بالتاريخ.

إن مستوى مصداقية العمل الدرامي في علاقته مع حقائق التاريخ، جزء لا يتجزأ من مقومات الإبداع الفني فيه. التهافت الفني في الأعمال الدرامية التاريخية العربية له ارتباط عضوي وثيق بتهافت المصداقية في علاقة العمل بالتاريخ. الهُزَال الشديد الذي يطال العَصَبَ الفكري للعمل الفني يُورِث بالضرورة هُزَالاً على كل مستويات الإنتاج؛ لأن ثمة رثاثة عقلية ناظمة لكل عناصر العملية، منذ ما قبل البداية، وإلى ما بعد قراءة رَد الفعل الجماهيري.  

لا يجوز أن يغيب أن أذهاننا إبان مقاربة هذا العبث الدرامي أن الإبداع الفني هو فعالية منخرطة في سياق إرادة الارتقاء بالإنسان، ومنه احترام عقل المُشَاهد، مقرونا باحترام موقع العمل الفني المراد إنتاجه في تاريخ الإبداع؛ لأن الإبداع الحقيقي ليس ظرفيا، الإبداع الحقيقي لا يقع أسيرَ اللحظة التاريخية المحدودة التي يتموضع فيها، وإنما يعي ذاته بوصفها إبداعا خالدا يتجاوز ظرفيّة الزمان والمكان، أو على الأقل، يطمح لدرجة ما من درجات الخلود المتجاوز للظرف الخاص.

وطبيعي، والحال كذلك مع الأعمال الخالدة، أن العمل الذي يتعمّد التزييف، وقلبَ حقائق التاريخ، والاستخفافَ بالإنسان، لا يَهتم بموقعه في تاريخ الأعمال الفنية، أي لا يهتم بما سيقال عنه في مستقبل الأيام، لا يهتم بأن تتهكم الأجيال اللاحقة به، من حيث كونه "طيشا فنيا" عابرا لا يهدف إلا لكسب معركة جماهيرية تافهة في حدود ظرف خاص، ولهدف أقل بكثير من الحدود الدنيا لمستهدفات الأعمال الفنية الخالدة التي كانت تعبيرا عن الثابت الإنساني في الإنسان.          

وكمثال مُنَمْذَجٍ على كل ما سبق، لِنَتَذكّر مسلسلَ "الحَجّاج" الذي كان كارثيا بكل مقاييس الفن، وبكل مقاييس المصداقية مع وقائع التاريخ، وبكل مقاييس النسق القِيمي الذي يجب أن يستهدف الإنسان في ناهية المطاف. فهذا المسلسل، ورغم كل الجرائم الطافحة فيه كوقائع تاريخية على يد بطل المسلسل/ الحَجّاج، إلا أنه ـ وهنا الخطورة والخطأ الكارثي ـ حاول إضفاء معقولية واقعية على أبشع مرحلة من مراحل التاريخ العربي/ الإسلامي، مرحلة لا يزال الوعي العربي/ الإسلامي يرزح تحت تأثيرها الواعي وغير الواعي، حيث الإنسان ظهر بلا قيمة تماما، الإنسان يُنْتهك بكل سهولة، بكل برود، وبلا حدود، في سياق "تطبيع متوحش" مع أبشع وأشنع جرائم ذلك التاريخ.    

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*