محمد ربيع:
هال جاسر صديقي، وهو شاب أربعيني يسكن في حي الدقي بالقاهرة، في خضم زيارته لإيطاليا أواخر التسعينيات، إزاء تلك المرونة التي يتعاملون فيها مع القانون؟ كان هناك انتشار لحالات سرقة مؤسسات شبه بنكية، وصادف العديد من المافيات، التي تتحرك بحرية لأنها ماهرة في حيل الهروب والإفلات من العقاب القانوني.
بشكل ما، أفادته تلك الرحلة في إعادة النظر إلى ما يمكن أن نعتبره ملامح لهوية الإنسان المصري. فما يعرفه في القاهرة، المدينة التي عاش بها، والمنصورة مسقط رأسه، وما انبثق في ذهنه في تلك الأيام، هو نفس حالة المرونة، ولكن فيما يتعلق بالدين والقناعات المرتبطة بالأيديولوجيات.
قال لي: "كأن المصري هو الذي اخترع الدين والأيديولوجيات، لذا يستخدم منها ما يخدم مصالحه، بمقاربة باراغماتية بعيدة عن قوة الأيديولوجيا وسطوتها".
تذكرت كلماته أثناء زيارة صديق صحافي عربي، لطالما شاهد الأفلام والمسلسلات المصرية، وتابع على المنصات والسوشال ميديا كتابات كتّاب مصريين.
صدم مثلاً عندما تعرف على صحافيات محجبات ومحافظات جريئات في التحدث عن أمور الجنس والتحرر، وتعرف على أكثر من كاتب يشارك في منصات متناقضة في التوجهات والنزعات، من الإسلامية إلى الليبرالية، ومن المعارضة إلى الموالاة.
ما أدهشه أكثر هو هذه المرونة التي يتحركون بها بين المتناقضات، كأنه أمر عادي، وكأنهم يندهشون من أسئلة تخص الانتماءات والقناعات الفكرية.
هذه المرونة/ التحايل يعبر عنها المثل الشائع: "إذا كان لك حاجة عند الكلب قول له يا سيدي"، أو "لو روحت بلد بتعبد العجل . حش برسيم واديله".
استغلت الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة تلك الحالة، وصوّرت المثقف المصري باعتباره ذليلاً للسلطة، يتعامل معها كوالدته، وأيضاً لم تخل بعض الرؤى الاستشراقية من إدانة المصريين، بأنهم بلا انتماء أو قناعات حقيقية أو أصيلة، واصمةً إياهم بالكسل، بسبب المناخ الذي يميل للحرارة، وهي رؤية شاعت حيال الدول الشرق الأوسطية المستعمرة في حقبة الاستعمار.
أثناء زيارة المستشرق البريطاني "إدوارد وليام لين" لمصر عام 1833 لفت انتباهه أمر مهم. ففي أثناء رؤية الهلال، يخرج المصريون، شيوخ المهن مثل التجار وبعض الجنود والفقراء، في موكب يبدأ من عند محكمة القاضي، وهناك ينتظرون عودة أحد الذين ذهبوا لتحري الهلال، وإذا لم يروه، لا يحتفل المصريون. فلا صيام غداً. يسهرون يأكلون ويغنون ويبتهجون، ثم يراهم في الليلة التالية محتفلين ببدء الصيام، يرقصون ويغنون ويأكلون، وأيضاً يقرأون القرآن ويتلون الصلوات.
في المرة الأولى، تعتقد أنهم لا يريدون رؤية الهلال، وفي المرة الثانية تحسب أنهم يريدون رؤية الهلال إلى الأبد، وهذا ما لم يفهمه المستشرق البريطاني.
مصر مجمع كل التناقضات
تبرز تلك "المرونة" أكثر في مجال العلاقات الجنسية، وتحولات المثقفين مع تحول مراكز القوى والسلطة.
يحكي صديقي عن تلك المرة التي مارس فيها الجنس مع إحداهن بينما كانت تصلي، والأخرى التي كانت تطالبه بالتوقف عن ممارسة الجنس حتى ينتهي الأذان، ورفض بائعة هوى ممارسة الجنس مع مسيحي عندما رأت نقش الصليب في يده.
تتماشى تلك الحكايات والمواقف مع وصف العالم "موريس هيندوس" بأن مصر هي أرض التناقضات. أو وصف جمال حمدان للتباين الاجتماعي الشديد، فمن ناحية هناك خلود للآثار القديمة، وهناك تفاهة المسكن القروي.
وفي دراسة عن سمات الشخصية المصرية، يكتب الدكتور محمد المهدي عن سمات الشخصية المصرية: "تجد نفسك أمام كم هائل من الصفات والجوانب المتعددة والمتناقضة في نفس الوقت".
لا عجب في أن تقرأ خبراً عن شخص قتل صديقه داخل مسجد أثناء صلاة الجمعة، لخلافات بينهما، ولا عجب في أن تجد موظفاً يحرص على الصلاة في وقتها لكنه لا يتوانى عن تقاضي رشوة.
يستطرد المهدي: "الصورة أشبه بمصر نفسها، فيها الفقر المدقع والغنى الفاحش، وفيها الظلم وفيها العدل، وفيها القسوة فى أشد صورها مثل التعذيب حتى الموت، وفيها الرحمة فى أجمل صورها، فيها الطيبة والقسوة، وفيها الشهامة والنذالة".
نحن متماهون بطبيعتنا
المصريون لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف، بحسب المهدي، وهي قدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل في التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات، وتغير الظروف والأحوال التي عاشوا تحت وطأتها، فلديهم مرونة كبيرة في التعامل، ولديهم قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أياً كان هذا الأمر.
وحتى الأديب يتماهى…
كان توفيق الحكيم يُوصف بأنه "الأب الروحي" لثورة يوليو 1952. من 1933 حتى أواخر الأربعينيات ناقش أحوال الحكم، والقضايا النيابية، والتبعية الزائفة لتركيا، وعُرف بمعارضته للملك، واعتبره جمال عبد الناصر "الأب الروحي" للثورة، وتأثر بكتابه "عودة الروح" الذي تنبأ فيه بـ"البطل" الذي يخلص مصر، ويخرج من بين أبنائها. ومنحه عبدالناصر قلادة النيل عام 1958، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960، ووسام العلوم والفنون في العام نفسه. بل وصل إلى حد فصل جمال عبدالناصر لوزير المعارف لأنه طالب بفصل توفيق الحكيم باعتباره موظفاً غير منتج.
ودعم توفيق الحكيم أفكار الثورة في رواية "الأيدي الناعمة" 1954، و"مصير صرصار" عام 1966، و"صاحبة الجلالة"، وغيرها، حتى قيل إنه أغمى عليه بعد وفاة عبدالناصر.
لكن، في عام 1972 أصدر كتاب "عودة الوعي" هاجم فيه عبدالناصر، وأبرز مساوئه. حتى أن "محمد حسنين هيكل" اتهمه بالجبن لأنه لم يواجه عبدالناصر حينما كان حياً، خوفاً من بطشه.
نفس الأمر فعله مع السادات…
يقول الكاتب "جلال أمين" إن توفيق الحكيم كان أقل استعداداً لتعريض نفسه لغضب السلطة، ولم يكن لديه الدافع القوي للتعبير عما لا يرضى عنه في النظام السياسي.
لم يكن التناقض في مواقف الحكيم السياسية فحسب. في قصة "وجهها الآخر" ينبهر بالمرأة التي تعرف اللغات الأجنبية، لكنه يُفجع ويتراجع عن انبهاره حين يعلم أنها ليست إيطالية، وإنما وُلدت في إحدى حارات القاهرة، وليس لها لغة أصلية، "ولا يُعرف لها أصل ولا فصل".
يرى "جلال أمين" أن نجيب محفوظ أيضاً يتسم بتلك الصفة، موقفه من السلطة جمع بين نظرة المصري التقليدية والمتوارثة إلى الحكام، وبين شعور الكاتب بالكبرياء واحترام النفس.
محفوظ أراد أن يحمي نفسه من بطش الحاكم، وأن يستمر في إنتاجه الأدبي.
ويصرح بأنه لا يحب الماركسيين، لكنه في رواية "خان الخليلي" يظهر أنه يحترم الماركسيين عبر تجسيده شخصية أحمد راشد الماركسي المستنير.
كان عظماء الفن أيضاً كذلك؛ اتصلت أم كلثوم بجميع الحكام بداية من "فؤاد الأول" مروراً بعبد الناصر انتهاءً بالسادات، علاقة ممتازة. مثلها مثل آخرين.
يصف غوستاف لوبون في كتاب "الحضارة المصرية القديمة"، برؤية تتماهى مع الحالة الاستشراقية الاستعلائية السائدة في زمن الاستعمار، شخصية الإنسان المصري بميلها إلى الاستقرار والوداعة والمهادنة، وتثبيت الوضع القائم، والتصادق معه، وقبوله، تماماً كما الطبيعة التي نشأ فيها "لا براكين ولا زلازل ولا عواصف".
بحسب سردية المهدي، ذلك يفسر مرور الكثير من الحكام الأجانب على مصر والتسامح معهم، كانوا يقبلونهم رغبة منهم في الراحة والاستقرار، وحين يشتد الأمر عليهم بسبب ذلك الحاكم، يواجهونه بالنكات اللاذعة والسخرية، وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة.