علي بنهرار:
ما معنى أن تكون سلفيّاً مغربيّاً؟ لعلّ الإجابة في ظاهرها بسيطة: "أن يعود السلفيّ إلى نهج صحابة النبيّ؛ وأن يكون خلفاً لهم في التّفكير واللباس والعبادة". السلفيّ، ولو كان مغربيّاً خالصاً، فهو شخص لا يؤمن بالضّرورة بحركيّة التاريخ. الزمن، عند السلفيين "المعاصرين"، تجمّد عند التجربة الإسلامية الأولى. تجربة عقديّة صارت في الراهن متخيّلةً أكثر من أي شيء آخر. والسلفيون يحاولون العيش في عصر آخر حديث كليّاً، لكن بوسائل عصر قد انحلّ تبعاً لشروط تاريخيّة جارفة لا ترحم من تخلّف عنها. فما هي حكاية السّلفية المغربية يا تُرى؟
سؤال الماهية
يقول أحمد المهداوي، الباحث في الدراسات الإسلامية، في مقالة له، إنّ السلفيين المغاربة يرفضون "فكرة الزمن المتغير، والأنساق المجتمعية المتبدّلة؛ في إغفال تام لجدليَّة الوحي والتاريخ، ومن هنا تسعى إلى توظيف العاطفة الدينية في أشكال محددة وبدقة، على اعتبار، كما في مخيال السلفيين، أنها ترجمة صحيحة للتعاليم الإسلامية الصحيحة، فيقومون بذلك بدغدغة المشاعر لدى فئات المجتمع وأطيافه".
من ناحية أخرى، يرى حسن الحو، الباحث في الدراسات التراثية، أنّ السلفية كجماعة إسلامية تؤمن بالعودة إلى القرون الثلاثة المفضلة من أجل استقاء الأصول الفقهية والعقدية والأخلاقية للسلف الصالح بغية تنزيلها على الحاضر والمستقبل. لا يمكن تصنيفها في قالب جاهز وإطلاق القول بأن الباحث أمام جماعة واحدة، ولكنها سلفيات يصعب حصرها وإن كانت كلها تتفق على ضرورة رهن المستقبل بماضي السلف وفهمهم، فهناك "السلفية العلمية" المهتمة بطلب العلوم الشرعية، و"السلفية الجهادية"، التي ترى وجوب رفع السّلاح في وجه أعداء الدين، كما ثمّة "السلفية المدخليّة"، التي لا هَم لها إلا طاعة الحاكم المتغلب وشرعنة أفعاله السياسية.
يرى الحو، في حديثه إلى رصيف22، أنّ "كل طوائف السلفية، بما فيها المغربية، تجتمع على مبادئ واجبة التحقيق للانتساب إلى السلفية، منها الإيمان بعقيدة السلف جملةً وتفصيلاً في أقسام التوحيد والأسماء والصفات والتكفير والتبديع، بالإضافة إلى تقديم النقل على العقل، واتّباع الآراء الفقهية للمذاهب المعتبرة، والاجتهاد الضيق في إطار الأدبيات السلفية، وكذلك الشمول والإحكام، فالمذهب السلفي يرى أن شرائع الدين وتراث السلف الصالح محكمة وشاملة لكل مناحي الحياة، دقيقها وجليلها، فلا ينبغي أن يقال أو يُفتى في مسألة ليس للقائل والخائض فيها سلف، فضلاً عن احتكار الحقيقة الدينية والاطمئنان إلى صوابية المذهب وأحقيته بحكم الدنيا والنجاة في الآخرة".
السلفية إلى أفول؟
السلفية ضدّ "العقل المطلق" الذي يتجاوز حدود إدراك البشر، لكنّها أيضاً تتعلق بخطاب مطلق ووثوقيّ خطير، لا يمكنك منازعته إلا ولحقتك تهمة الكُفر والزّندقة عندهم. فما مآل المقولات السوسيولوجية القائلة بأنّ شباب اليوم يعيشُ عصره بامتياز خارج أفق السلفيّة؟
في تصريح خصّ به رصيف22، يقول حسن المحجوبي، الباحث في سوسيولوجيا التديّن في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، إنّ أخطر ما نعثر عليه عند السّلفية هو "التكفير"، فضلاً عن الدوغما والشّمولية في الآراء والتصورات والإيمان بأن لله أرجلاً وصفات آدميةً أخرى. وهذا التفكير لم يعد وعداً مقبولاً بالنظر إلى عصر متحول بسرعة فائقة. السلفيون لا يناقشون الأفكار لأن خرائط أذهانهم محصورة في تصورات جامدة لا يأتيها الباطل من أي جانب، لذلك تراهم يكفّرون كلّ من يختلف معهم، ويكفّرون حتى تارك الصّلاة، بالرغم من أنها شأن فرديّ يعني الإنسان في علاقته بالله.
لكن اليوم، يقول محجوبي، "تبدو الخيالات السّلفية في تفسير الكون والإنسان والحضارة وكأنّها تتجه نحو الانسحاب التدريجي من أفق شباب غير مستعدّ لأن يتحمّل أيّ وصاية دينية أو وساطة مفترضة بينه وبين الله. لقد بدأ الغموض الذي كان يلفّ مفهوم العلمانية ينحلّ شيئاً فشيئاً. فهم هذا الجيل أنّ الوصاية على آخرته ضربٌ من الاستفزاز لتعطيل قدرات الإبداع لديه. طبعاً، لا يمكن طرد السلفيين من فضاء عام يتّسع للجميع أو من دولة يُفترض أن تكون علمانيةً ومحايدةً تقوم على مبدأ المواطنة في الأصل، لكنّ حضور السلفيين خفت بشكل واضح. لماذا؟ لأنه، ببساطة، فشل في استيعاب معنى المواطنة!".
يجمل محجوبي أنّنا في المغرب نجونا من الإرهاب، أو السلفية الجهادية، بفضل رهان الدولة على الزوايا والتصوف. وشددت الدولة الخناق على السلفيين منذ أحداث 16 أيار/ مايو 2003. لكن، بالرغم من ذلك، ظلّت مشكلة السلفيين المغاربة مرتبطةً على نحو جدليّ برغبة مرضية للتمسّك بالماضي، وكأنه أفضل ما يوجد في تاريخ البشرية على الإطلاق، وكأنهم يعدّون أن العقل البشري عجز في الاستمرار وتوقف عند أعلام السلفية: ابن تيمية والألباني وابن باز... إلخ. بيد أنّ هذا الجيل وُلد في رحم "ما بعد الحداثة". لا يمكن تقييد قدراته وطاقاته بأفكار ماضوية أو غيبيّة. إننا في زمن أصبحت فيه الخيارات السلفية مجرد مزحات فيسبوكيّة عند جزء من الشّباب.
من جهة أخرى، يوضح حسن الحو، أنّه "لا غرابة في هذا الوضع بما أنّ أصول السّلفية بكل ألوانها جامدة ومحاطة بسياج من الترهيب والتخويف، والخروج عنها كفر صراح وفسق براح. والسلفي متى ما التزم بهذه الأصول، فإنه لا يستطيع الخروج عليها، لأن التّنظيرات السّلفية جعلت منها لُبّ الإسلام وكنهه والانفكاك عنها خلاص من الدين. لنأخذ الأصل الأوّل كمثال، فالالتزام بعقيدة السلف على بساطتها وسذاجتها ومخالفتها لمعقول العقول ومنطق الأشياء، هو أول أركان البيت السلفي، ومخالفته أو الدّعوة إلى عقيدة الاعتزال والأشاعرة أو الجهميّة، كفر عند جمهور السّلفيين".
المشكلة، حسب ما يبيّنه الحو، لرصيف22، أنّ أصول السلفيّة محاطة بنصوص وفتاوى "تحرّم انتهاكها والخروج عليها، وتجعل السّلفي يعيش خائفاً من مجاراة صبيب الحياة المتدفّق منغلقاً على نفسه، يخشى أن تطاله تهم التّكفير ومتقوقعاً في قوقعة صمّاء من النصوص والآثار التي يتخذها مرجعاً للحكم على الديمقراطية والنظم الاقتصادية والنظريات العلمية، حتى لو شاهد بأمّ عينيه مخالفة نصوصه للواقع. فلا شيء يكبح الإبداع والتّنصل من الآصار الأصولية كالخوف، والسلفي خائف من الخروج على تركة السلف، وخائف من النبذ والهجر الذي يمارسه شيوخ السّلفية على المارقين، وخائف من النار، فكيف سيكون مآل من كان هذا حاله؟".
بل، "كيف سينظُر أو ينَظِّر للمستقبل وهو مرتبك خائف غارق في النصوص لأذنيه، وقد مضت قرون على الدعوة السلفية، فما زادتها السّنون إلاّ انغلاقاً وانفصالاً عن الواقع. هذا الانغلاق الذي سيؤدي بها في ظل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى المعلومة، إلى مزيد من التقلص والانكماش حتى تصير كمثيلاتها من الجماعات المتشددة المنبوذة كطائفة الأميش المسيحية، وبعض العناصر التي لا زالت تؤمن باتّباع تعاليم الساموراي بحذافيرها. فتيار التطور سيجرف كل العقبات في طريقه".
السلفية المغربية: المراجعة أو الفناء؟
يقول عبد الوهاب رفيقي، وهو سلفي سابق، إنّه "صار مؤمناً منذ زمن بأنّ السلفية، سواء في المغرب أو في العالم، بالفعل تتجه نحو ‘الفناء’، بالرغم مما قد يظهر من جيوب المقاومة التي لا زالت موجودةً، أو من بعض الشّيوخ المتأثرين بها. تحاول السلفية اليوم أن ‘تراجع’ بعضاً من أفكارها، وأن تلوّن جلدها، لكي تدخل غمار عصر أصبح غريباً عنها. رأينا، مثلاً، ظاهرةً جديدةً من شيوخ السلفيين يلبسون لباساً عصرياً ويتحدثون بجمل تتراوح بين العربية واللغات الأجنبية، ويستعملون التقنيات الحديثة بما فيها الرّقمية والتكنولوجيا عموماً".
يضيف رفيقي، في حديثه إلى رصيف22، أنّه يعتقد أن هذه محاولات بقاء أخيرة وترنح اللحظات الأخيرة لمقاومة حقيقة "الفناء". لقد كتب أحد شيوخ السلفية قبل مدة: "سنعيش فترة ما بعد السلفية"، لأنهم، ربّما، أدركوا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية التي رافقتها وسرعة الوصول إلى المعلومة ووصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، كلها عوامل ساهمت في انحصار الفكر السلفي والإسلامويّ، وفي بيان الكثير من تناقضاته وإظهار العديد من عيوبه.
يقول رفيقي، الباحث في الدراسات الإسلامية، إننا حالياً إزاء موجات كبيرة من الانسحاب من التّيار ومغادرته. والحال لا يختلف بين المغرب ودول أخرى. وسائل التواصل الاجتماعي تدق آخر المسامير في نعش الوهابية والتّفكير الأصولي، وإذا أراد أن يحيا فعليه أن يراجع جزءاً من أفكاره التي تصطدم مع معنى العيش المشترك. السلفيّة، ستغدو قريباً مجرد فكر عادي قابل للنقد والأخذ والرّد؛ بمعنى أنها ستسقط عنه صفة "القداسة" التي استغلها دهراً كاملاً للتلاعب بعقول المغاربة وغيرهم.
تزداد عند المتحدث "صوابيّة هذا الشّعور مع التحولات التي تعرفها المملكة العربية السعودية، راعية هذا الفكر سابقاً، ومصدّرته إلى العالم، إذ انقلبت عليه وتبرأت منه، ما سيجرّد هذا الفكر من أيّ مرجعية سياسية أو دينيّة".
في النهاية، يتبين أنّ السلفية باتت تصطدم بواقع قوي وبآليات فكرية أقوى. إنّها توجد الآن في زمن توقيعه يتجه نحو تجاوز سردية الأديان وما جاءت به. يتوجه الكثيرون من المغاربة اليوم نحو مفهوم الفردانيّة، كما انفتحوا على مختلف السّرديات والآراء والتصورات... وكل هذا ليس من شأنه إلا إضعاف التيار السلفي، خصوصاً مع تسجيل بعض أشكال الانقلاب عليه والتحول من منتمٍ إلى خصم وإلى عدو... لكن، هل هذه "الحقائق" تعني فعلاً أن مستقبل هذا التيار هو نهايته؟
هذا ليس شيئاً قابلاً للتكهّن موضوعيّاً، لذلك سيبقى سؤالاً مطروحاً للمستقبل.