التكفير والإسقاطات المجتمعية...عواقب أن تقول رأيك بحرية في فلسطين - مقالات
أحدث المقالات

التكفير والإسقاطات المجتمعية...عواقب أن تقول رأيك بحرية في فلسطين

التكفير والإسقاطات المجتمعية...عواقب أن تقول رأيك بحرية في فلسطين

ميساء منصور:

 

هذا المقال أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.

مذ سافرت واستقررت خارج فلسطين، ابتعدت بشكلٍ تدريجيّ عن النّقاشات والمعارك النّسويّة التي تخوضها النساء في كلّ مرةٍ تضطر فيها إحداهنّ إلى الكتابة والقول في العلن إنها حرة في أفكارها ومعتقداتها وتفكيرها ورغباتها وحياتها.

لاحقتني النّظرات دوماً من الأقارب في القرية، ومن غير الأقارب كذلك، كوني ابنة بيئة متديّنة وأب متديّن ومسالم، فلماذا تحلو لي إثارة الجدل بالحديث عن الحريات وحقوق النساء ومشكلاتهن أمام الرجال الذين لم يسبق لهم أصلاً الخروج من حيّز المكان والاحتكاك مع أي ثقافة أخرى لا تشبه ثقافة القرية، حتى ولو كانت حيفا؛ المدينة القريبة.

عندما قرّرت بعد سنواتٍ طويلة من ارتدائي الحجاب خلعه، وترك السنوات التي كنت أخاف فيها من تركه خلفي، خوفاً من كلام الناس والمجتمع عني، وخطيبي السابق الذي كان يعدّ المرأة "ألماسةً" إذا ما خُدش حياؤها فلن يقترب أحد منها، جاءني الناس البعيدون عني والذين لا يعرفون عني أكثر من صورة على فيسبوك، لكتابة آرائهم عني بشكلٍ صارخ، واتهامي بالتكفير ورمي الشتائم وبأني أعمل ضمن حملة لتشويه الدين الإسلامي وتشجيع بقية الفتيات على خلع حجابهنّ!

لم أدرك ذلك قبل سنتين، إلا حين كتبت في الأيام الأخيرة منشوراً تضامنياً مع النساء في إيران على إثر الثورة القائمة هناك، عبّرت فيه، من خلال تجربتي الشخصية مع الحجاب عن كم كانت فكرة الفكاك منه صعبةً أمام المجتمع حين قرّرت خلعه، فجاءت إحدى النساء المتدينات، والتي لا تعرفني إلا من خلال العمل والتقاطع في بعض الاهتمامات الثقافية، لتقول إني لا أملك حرية الرأي لتشجيع النّساء على مثل هذه الخيارات المعارضة للدين، والمحرضة عليه، وبأن عليّ التزام الصمت في مثل هذه المواضيع!

تفاجأت حين أدركت أنّ معظم الذين يهاجمونني بسبب تعبيري عن رأيي وتجربتي الشخصية، كانوا من النّساء، ولم أفهم حتى الآن، متى ستصير النساء داعمات، وحقيقيات، ومحبّات للأخريات وخياراتهنّ أمام السلطات المجتمعية والذكورية التي تفرض مثلاً ارتداء الحجاب في سنٍ صغيرة من دون أن تعي الطفلة أبعاد الرمز الذي ترتديه! خطرت ببالي افتتاحية كتاب "الجنس الآخر" لسيمون دوبفوار: "أي مأساةٍ أن تكون امرأةً! مع ذلك فالمأساة الكبرى حين تكون امرأةً لا تفهم أنها كذلك".

حرية ضمن الحدود المجتمعية فقط

بينما كنت أتنقل بين شمال البلاد وجنوبها ووسطها، بسبب طبيعة عملي ودراستي، كانت الأسئلة تُطرح على أمي عن موعد زواجي بعد أن تركت خطيبي الذي قضيت معه سنوات طويلةً من حياتي، فقد كنت "مضمونةً" لشخصٍ ما حتى لو اتضح لي لاحقاً بأنه لا يناسبني ولا يمكنني ممارسة الحياة التي أرغب فيها برفقته.

جاءت الشكوى على شاكلة أنّ فتاةً في الثامنة والعشرين من عمرها، قضت سبع سنواتٍ مع شخصٍ واحد، ما بين علاقة غير رسمية وعلاقة رسمية، كيف سينظر إليها شخصٌ آخر؟

فاجأني يوماً أحد المعارف في القرية عند دخولي إلى محلّه لشراء بعض الأغراض لأمي، بالحديث معي عن الزواج وأهميته للمرأة، وبأنه "ستر وغطا" لها، إذ سيكون هذا الرجل مسؤولاً عني وعن مصاريفي ورغباتي وسيتمكن من كبح جماح حريتي إذا ما تمادت عن المتعارف. ثمّ استكمل قائلاً: "بعرف مش رح تلاقي عريس بعد ما تركتِ، صرتِ زيّك زي المطلقة".

جاء هذا التأكيد ضمن الشائعات التي قيلت لحظة انفصالي عن خطيبي السابق: "تركها لأنها بتحكي إنها نسوية"

رنّت جملته في أذني، من دون أن أتمكن من الرد عليه. كنت أسمع سابقاً تجارب الصديقات، وأقرأ عن تجارب النّساء في المجتمعات المختلفة، وكنت مقتنعةً بتحرّر مجتمعنا من هذه الأفكار، إلى أن واجهتني بشكلٍ شخصي، ضاربةً بعرض الحائط كلّ المعتقدات وخطوط الأمان التي رسمتها حول نفسي، ومن حولي.

لقد كان من حولي يهاجمونني أصلاً، بأن عليّ الكفّ عن الكتابة في مواضيع حساسة أمام المجتمع، كالحب والعلاقات غير الرسمية والنسوية وحقوق النساء وجرائم القتل ضدهنّ، لأنّ مثل هذه المواضيع تُبعد "العرسان" عن النساء وتجعلهنّ خياراً غير مطروح عند اختياره من يريد أن يتزوّج بها. جاء هذا التأكيد ضمن الشائعات التي قيلت لحظة انفصالي عن خطيبي السابق: "تركها لأنها بتحكي إنها نسوية".

الرجال في المقدمة... النّساء في الخلف

ارتُكبت جريمة قتل في قريتي، مجد الكروم (بلدة فلسطينية في أراضي الـ48)، في الجليل الأعلى، راح ضحيتها ثلاثة شبان في اللحظة نفسها، ونزلت الجريمة كالصاعقة على الناس وأهالي القرية، فعمّ الهدوء الحذر ذلك اليوم الشوارع، وتوقف الناس عن الذّهاب إلى العمل، واجتمع الجميع في مفارق البلدة وأمام مركز الشرطة.

كانت النساء في الصفوف الأولى للدفاع عن المسجد الأقصى، الذي يخصهنّ كما يخصّ الرجال.

ذهبت برفقة إحدى الناشطات في القرية للوقوف بجانب الشباب أمام مركز الشرطة، للاحتجاج على تقاعسهم في الوصول إلى مكان عملية القتل، المكان الذي يستغرق خمس دقائق في السيارة، واستغرق معهم أربعين دقيقةً. وقف أحد الرجال أمامنا، صارخاً في وجهنا بضرورة ترك العمل في الشارع للشباب والرجال فقط، ونحن مكاننا الصحيح في بيت العزاء وفي بيوتنا.

كذلك الأمر في المظاهرات الوطنية المختلفة التي تشارك فيها كافة الأطياف في مجتمعنا، والتي ليست معدّةً للأحزاب الوطنية التحررية.

الأقصى يخصّ النساء كما الرجال

تروي لي صديقتي المرابطة في القدس في معظم الأحيان، والتي تقوم بتغطية الأحداث في المسجد الأقصى بشكلٍ مستمر بسبب عملها في الصحافة، بأنها دوماً تتلقى الرسائل في مواقع التواصل الاجتماعي التي تخبرها بضرورة بقائها في البيت وعدم الذهاب إلى المسجد الأقصى في أيام التصعيد واقتحام المستوطنين، لأنّ وجودها يعرقل الشباب الموجودين في الساحات والمدافعين عنه.

أذكر شخصياً عام 2017، أيام محاولات الاحتلال الإسرائيلي فرض البوابات الإلكترونية للدخول إلى المسجد الأقصى، أني كنت أنزل برفقة والدتي بشكلٍ شبه يومي للوقوف مع المرابطين/ ات أمام باب الأسباط. في أحد الأيام، خدع الاحتلال النّاس بأنهم سيفتحون "باب حطة"، حين اندفع الناس إلى الداخل، ثم حاصرهم الجيش ليبدأ بإطلاق القنابل الصوتية وقنابل الدخان. كانت النساء في الصفوف الأولى للدفاع عن المسجد، الذي يخصهنّ كما يخصّ الرجال.

ولو كان هؤلاء الرجال يحتجون على مشاركة النساء في الاعتصامات، فلربما نسوا أن عائشة، زوجة الرسول محمد عليه السلام، قد شاركته في معظم الغزوات في بدايات الإسلام، فمن أين جاءت فكرة بقاء النساء في البيوت وعدم مشاركتهن في أيّ من الاحتجاجات المجتمعية والدينية؟

لم أتوقف في الحقيقة، طوال سنوات مواجهتي للمجتمع الذي يرفض وجود نساء مثلي فيه، عن مواجهة رجالٍ غير قادرين على إسكاتي، على الرغم من كوني حظيت بعائلة داعمة تقريباً في جميع القرارات التي اتخذتها في حياتي، فلم يقم أبي بمحاولة تغييري، وكانت أمي داعمةً لي في فكرة اختيار مساراتي في الحياة، وأخي لم يحاول فرض أيديولوجيا الأخ الذي يجب عليه إيقاف أخته عند حدّها.

كان النضال اليومي من أجل إسماع صوتي محاولةً لخلق مجتمع أكثر أماناً للجيل القادم، تحظى فيه الفلسطينيات بحرية القرار والاختيار، بعيداً عن الإسقاطات الأخلاقية المسبقة للزواج، والحجاب، والتديّن

لم يكن بالنسبة لي، النضال اليومي من أجل إسماع صوتي، وصوت الفتيات الأخريات الصامتات في محيطي، نضالاً أرغب في التباهي به، ولم يكن من أجل مجدٍ شخصي، أو عملاً أتقاضى عليه راتباً من جهةٍ معيّنة، بل كان محاولةً لخلق مجتمع أكثر أماناً للجيل القادم، تحظى فيه النساء الفلسطينيات على الأقل، بحرية القرار والاختيار، بعيداً عن الإسقاطات الأخلاقية المسبقة للزواج، والحجاب، والتديّن.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*