الأب منويل بدر :
الكنيسة تقول: السّلام لا يقبل ولا يعتمد ولا يتّكل على الحرب، إذ هي مخالفة لوصايا الله القائلة: لا تقتل!
"لا للحرب"، كان هذا نداء البابا بولس السّادس من على منبر هيئة الأمم عام 1965. وقد كان البابا الأوّل الذي كسر التقاليد الكنسيّة وخرج من أسوار الفاتيكان في أوّل زيارة خارج الأراضي الإيطاليّة، وتحديدًا إلى الأرض المقدّسة عام 1964، تلك الأرض التي ما عرفت في حياتها الهدوء والسّلام، بل التناحر والحروب والتدمير، وذلك بسبب الإختلافات السياسيّة والدينيّة فيها منذ أقدم العصور.
من ضمن ما نادى به في زيارته التاريخيّة إمكانيّة الحوار والمصالحة إلى جانب بذل الجهد لإنهاء الحرب الدائرة رحاها هناك، إذ بعبوره إلى الأرض المقدسة اختبر بنفسه ما تسببه الحرب من مضايقات وآلام للبشر. هذا ولا تزال كلماته يوم 4 تشرين الأوّل 1965 ترنُّ إلى اليوم من على منبر هيئة الأمم المتحدة، حيث قال: "قبل أن تُصوِّتوا لصالح الحرب عليكم التّروّي والتّمعُّن ودراسة الأسباب الّتي قد تدفعكم لتحليل إعلانها واللجوء إلى استعمال السّلاح والقوّة المفرِطة".
قبل قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش، بالتعاون مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، عام 2001 الاستقلال برأيهما ومهاجمة العراق، بل وتدمير كلِّ مكوِّنات الحياة البسيطة، قدّم أمين سر دولة الفاتيكان آنذاك الكاردينال أنجيلو سودانو الرد على بعض الأسئلة حول الحرب الأمريكية الوشيكة ضد العراق، حيث قال: "إنّ هذه الحرب ستثير غضب مليار مسلم، وخطر وجود عقود من العداء في العالم الإسلامي. إنّ استخدام القوة هو الملاذ الأخير بعد استنفاذ كل حل سلميّ، وفقًا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة". إنّها كلمات حكيمة، لدبلوماسي يتطلع لمستقبل هذا البلد أكثر من الوصول الى نصر عسكري سريع.
كان للدبلوماسيّ البابا يوحنا بولس الثاني مخاوف من هذه "المغامرة دون العودة" والتي للأسف كانت على حق. كم تمنّى أن يسمع بوش وبلير لمطلبه، بدلاً من إعلان حرب مبنيّة على الأكاذيب، دون غطاء أمميّ ودون الأخذ بالحسبان نتائج هذه الحرب. "إنّ الحرب ليست هي الحل". كان يعرف أن هذه الحرب ستكون مقدمة لزعزعة الاستقرار في المنطقة برمتها، وبالتالي ستعمل على تقوية التطرّف والإرهاب. وهذا ما حدث فعلا، وها نحن لا زلنا على هذا الحال بعد عشرين عامًا من الحرب المفتعلة.
كان هذا النّداء بداية سلسلة من النّداءات اللّاحقة لعدّة بابوات زاروا هم أيضًا الأمم المتحدة ووقفوا على نفس المنبر، واستعملوا كأساس لخطاباتهم أيضًا نفس كلمات البابا بولس السّادس: لا للحرب قبل أن تنفذ الوسائل السّلميّة، وهي كثيرة وممكنة. هذا وكم وكم حذّر خلفه يوحنا بولس الثاني من مغبة السياسة الخاطئة والقبول بالحرب. هو الذي لم ينفكّ يحذر من أضرار الحروب التي لا يخرج منها أحد رابحًا. فبعد الحروب والدمار ومنطق القتل والتخريب، فالخاسر هو كلا الطرفين.
وها آخرهم البابا فرنسيس، يعلو صوتُه فوق كلِّ أصوات من سبقوه، فهو لا يترك مناسبة إلاّ وينادي لحلِّ المشاكل، الّتي يفتكرها السّياسيّون لا تُحلُّ إلاّ بالحرب، فهذه طُرُقٍ عقيمة، يسميها البابا وينادي بلا كلل ولا ملل إلى اللجوء إلى طرق سلمية، وهي كثيرة ويجب أن نسلكها. لم يترك البابا فرنسيس مناسبة، سواء في مقالاته أو مقابلاته الأسبوعية أو في زياراته لبلدان مختلفة، إلاّ ويعلو صوتُه من أجل الإنتهاء من استعمال القوّة للوصول إلى السّلام، الذي يأتي من المسيح.
وبإلحاح يطلب البابا فرنسيس من السّياسيّين أنفسهم أن يُصبحوا ناشري سلام لا فاعليّ حرب. وهذه بعض أقوال البابا في مناسبات أخرى: الحرب تجرّ إلى الحرب وتخلّف دمارًا مادّيًا وأخلاقيًّا ونحن بغنى عن هذا كلّه. النّجاح لا يُقاس باسعمال القوّة. أما حان الوقت للجلوس على طاولة مستديرة، يُعطى فيها كلِّ شعب حقوقه المشروعة، وأن يمدَّ كلُّ جارٍ يده لجاره وينادي.
نعم لا للحرب! إذ فعلاً لا يوجد مبرِّرٍ مقنع لتسميتها حربًا عادلة أو مقدّسة! الحرب لا عدل فيها لذا لا يمكن أن تكون عادلة أو مقدّسة (بهذا المعنى علّق بطريرك القدس سابقًا ميشيل صباح على الحروب في الماضي قائلا: يجب تناسيها والمهم تحاشيها بنفس الأسلوب في المستقبل. وأضاف: إننا لا نخاف التاريخ سواء كان لنا أم علينا. الماضي مضى وما حدث لا أحد يقدر أن يبدِّله. والمهمّ هو الحاضر الذي نصنعه اليوم. وحتى نصنع الحاضر يجب ألَّا نخاف من أيّ شيء حدث ولا نستطيع أن نبدِّله.
هل السلام في العالم ممكن؟
نعم السلام كالحرب ممكن ولكن له أيضًا شروطه الخاصة:
1- التربية (الدينية): فالحرب، كما اتّضح، هي من صنع البشر بينما السّلام فهو ليس وهمًا لا يُطال، بل هو حقيقة ممكنة مبنية على قول الله تعالى: "سلامي أعطيكم. ليس كما يُعطيكم العالم أعطيكم أنا" (يو 27:14). لكن كيف نحلَّل أو كيف نفسّر أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ويجب محاربته دائمًا؟ نقول: إلى جانب الغريزة الطبيعيّة للبغض والحسد، من مخلفات الخطيئة الأصلية فينا، هناك عامل مهمّ لا جدال فيه، ألا وهو التربية المبنيّة على تعليم الدّيانة الّتي ينتمي إليها المرء.
-2 التعلّم عن التسامح وقبول الآخر كخليقة الله، وهنا للأديان دور رئيسي في ذلك، وأبرز مثال على ذلك وثيقة الأخوّة الإنسانيّة التي وقعها البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، في أبوظبي يوم 4 شباط 2019، والتي تمثّل إعلانًا مشتركًا يحثّ على السلام بين الناس في العالم، ولتقدّم مخططًا لثقافة الحوار والتعاون بين الأديان، ودليلًا للأجيال القادمة لتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل، اعترافًا بأننا جميعًا أفراد أسرة إنسانيّة واحدة. ما أجمل أن تكون هذه الوثيقة حاضرة في المناهج المدرسية والجامعيّة!
3- وماذا نقول عن دور الإعلام والصّحافة المُوجّهة ودور العبادة والمنظمات الرسميّة والأهليّة في المرتبة الثانية في الخطورة في نشر خطاب الكراهيّة. وعندما نقول الإعلام، نشير أيضًا إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومنابر دور العبادة بأنواعها. وعندما نقول المنظمات فمنها الأحزاب والجمعيات التي تتكوّن على أساس دينيّ أو إقليميّ أو عنصريّ أو طائفيّ أو عرقي وغيرها. جميع هذه الأطراف المجتمعيّة مدعوة إلى أن تكون عامل سلام، لا عامل خصام.
وإذ ليس لخطاب الكراهيّة قانون معيّن (رغم أن العديد من الدول قد سنّت في الآونة الأخيرة قوانين تجرّم هذا الخطاب بوصفه جريمة) فإن انتشاره يتزامن عادة مع الانكسارات والتحركات الكبرى للشعوب، مثل ما حدث ويحدث منذ سنوات في الشرق الأوسط مما دُعِيَ بالربيع العربي. فقد ازدهر خطاب مريضٌ يصنّف الناس والشرائح والطوائف والأعراق خارج حقوق الإنسان، وخارج البعد الإنساني والأخلاق والأخوّة الإنسانيّة، بل وخارج العقل أيضًا، وإذا شئت خارج الدين. كما احتفظ التاريخ بسجلٍّ غير شريف لجعل الدين أو العرق سببًا لتحليل جرائم التاريخ، كحملات الاستكشاف الأوروبيّة مع السكان الأصليين في الأميركيتين، ومجازر الأرمن والسريان والأكراد في عهد الإمبراطورية العثمانية، والممارسات الصهيونيّة على أرض فلسطين المحتلة، وناهيك عن الجماعات الإرهابية التي تتخذ من الدين غطاءً للإرهاب والإجرام والاضطهاد.
لو استعمل الإنسان عقله لَأصبح ممكنًا جدًّا تحاشي الحروب، ليس المحلّية فقط، بل الإقليميّة والعالميّة أيضًا. وخير برهان على ذلك هو الدعوات والنداءات المتكرّرة للبابا فرنسيس، ومنذ بداية حبريته، حول الأوضاع في الأرض المقدّسة، وسورية، والعراق، وليبيا، وميانمار، وأرمينيا، والعديد من الدول القارة الأفريقية، وأخيرًا ما يحدث من مآسي جراء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. ولا ننسى ترؤس قداسته يوم 7 أيلول 2013 أمسية صلاة في ساحة الفاتيكان من أجل السّلام، اشترك فيها هو شخصيًا لساعات طويلة، مع ألوف الحجّاج والمؤمنين مصليًا ومناشدًا أصحاب الإرادات الطيّبة أن يسلكوا طريقًا غير طرق الحرب.
قال البابا فرنسيس في إحدى مداخلاته: نحن نريد عالمًا سلميًّا. نحن نريد أن نكون رجالاً ونساءً صانعي سلام لا رجال حرب. ثمّ كرّر كلمات أسلافه المشهورة من القديس البابا بولس السادس إلى القديس البابا يوحنا بولس الثّاني من على منبر هيئة الأمم: "لا للحرب!" داعيًا مجموعة الدول المسؤولة عن إحلال السّلام في العالم أن تتحلّى بالشجاعة، وأن تترك أسلوب استعمال الحروب، وتبدأ بثقافة الحوار السّلمي.
الخاتمة
لا داعٍ لتبرئة تاريخ الكنيسة الممتد لأكثر من قرنين من الزمان، فقد وقعت في أخطاء حدثت ضمن العقلية السائدة في ذلك الزمان والعصر. أمّا اليوم، فلا غبار من أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تعد الصوت الأبرز والأوضح، وربما الوحيد، في الدعوة إلى تمتين أسّس السلام في العالم المبنيّ على الأخوّة والتضامن بين أبناء البشر أجمعين، بغض النظر عن جنسياتهم وأديانهم وتقاليدهم...
ابونا