عبد الرحمن عباس:
عدّه البعض دليل تمرد وانتصار، وعدّه آخرون خروجاً عن الدين. هكذا انقسمت الآراء حول مشهد حرق سيدات إيرانيات غطاء الرأس، احتجاجاً على مقتل مهسا/ جينا أميني، التي اعتُقلت من قِبل "شرطة الأخلاق" الإيرانية بتهمة "مخالفة قواعد تغطية الشعر"، ثم ماتت إثر احتجازها.
بالنسبة لي، بدا المشهد مُحزناً أكثر من أي شيء آخر، وتساءلت: ما الذي يدفع إنساناً للعِراك مع قطعة قماش بكل هذا القهر البادي على الوجوه؟ ماذا فعل هذا الجماد؟ هل الإنسان صغر إلى هذا الحد، أم أن القماش هو من تعاظم؟ وإذا كان حرق غطاء للرأس يعني انتصاراً، فهل لنا أن نتخيل هزائم هؤلاء النسوة!
لكن المشهد ازداد حزناً وقتامةً، حين طالعتُ بيانات بعض الدول الغربية التي تدين هذا القمع، في الوقت الذي صمتت فيه معظم مؤسسات العالم الإسلامي البارزة حسب متابعتي، فلم تصدر أي بيان إدانة أو حتى توضيح يفيد بأن ما يحدث من قتل وقمع ليست له أي علاقة بالدين الإسلامي، وتعاليمه التي تُعلي من قيمة الإنسان وتجعله فوق أي شيء، حتى لو كان الحجاب الذين يدعون إليه دوماً.
وبجانب أن أي بيان إدانة من تلك المؤسسات، كان يعني إذا صدر إثبات ما رددوه دوماً من عدم اختزال الدين في الملابس والمظاهر الشكلية، وأن الروح البشرية مُقدّسة، فإن تلك البيانات كانت ستكون لها أيضاً جدوى كبيرة في عقول ملايين الناس الذين ما زال الدين هو المتُحكّم الأساسي في آرائهم، وتالياً حين تقول لهم مؤسسات دينية يثقون بها إن هذا لا يمت إلى الإسلام بصلة، فهذا يجعلهم رافضين لكل من يحاول أن يفرض القمع عليهم من المنطلق نفسه، والأهم أن النساء الإيرانيات أكثر ما يحتجن إليه الآن هو من يقال لهم إنهن على صواب، فأرواحهن أهم من ألف قطعة قماش.
لكن ذلك لم يحدث، وربما كان الأمر عادياً لو اعتادت المؤسسات الدينية الصمت عموماً. لكنها على النقيض من ذلك حاضرة ومبادرة في كل ما تعدّه "إهانةً" للدين الإسلامي، سواء كانت رسوماً كاريكاتوريةً أو تصريحاً يطلقه مسؤول هنا أو هناك، وتالياً فالصمت ليس من عادتها وحين يحدث فهو في الغالب مقصود.
أي بيان إدانة من تلك المؤسسات، كان يعني إذا صدر إثبات ما رددوه دوماً من عدم اختزال الدين في الملابس والمظاهر الشكلية، وأن الروح البشرية مُقدّسة
وقد يظنّ البعض أن الصمت له علاقة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، ولذلك فهذا موقف طبيعي من المؤسسات الدينية، وهذه وجهة نظر كان يُمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار، لولا تاريخ المؤسسات الدينية نفسها والذي يؤكد غير ذلك. فحين قال الرئيس الفرنسي ماكرون في عام 2020، "إن الإسلام يعيش أزمةً"، انهالت الإدانات عليه من الأزهر ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرهما، بل ونُظمّت حملات مقاطعة ضد السلع الفرنسية نفسها، واستجاب لذلك مسلمون كثر.
القصة نفسها تكررت حين أطلق مسؤول في الحزب الحاكم الهندي مؤخراً، تصريحات "مسيئةً" إلى النبي محمد. وعليه، حين تريد المؤسسات الدينية أن تتدخل، فهي لا تكترث بالدول وشؤونها الداخلية، بل تسارع إلى التصريحات الهجومية والإدانات، ويعود ذلك إلى أن تلك المؤسسات ترى أصلاً أن الدين ملك معتنقيه فحسب، كما ترى نفسها مسؤولةً عنه في أي بقعة في العالم.
وحتى من يرى بـ"فرضية" الحجاب، وأن ما تفعله إيران من وضع "شروط" هو أمر صحيح لا يستلزم أن تعارضه المؤسسات الدينية، أقول حتى مع ذلك كان يجب التدخل والإدانة من منطلق القاعدة الفقهية: "إذا كان تغيير الضرر سيؤدي إلى ضرر أكبر يحرم تغيير الضرر"، وهو ما شاهدناه. فمن أجل "ضوابط" ملابس زُهقت أرواح البعض وأصيب آخرون.
لذلك كله، ولأن كل الأسباب لا تقف حائلاً أمام إصدار بيان أو كلمة، فإن الصمت تفسيره الحقيقي، وبلا رتوش، أن تلك المؤسسات الدينية نفسها، ومهما قالت وتجمّلت بتصريحات هنا وهناك، ومهما اختلف مذهبها، سواء كانت سنيةً أو شيعيةً، إلا أنها في النهاية بشكل أو بآخر تؤيد ما تفعله إيران في مواطنيها، ولو امتلكت ناصية الأمر لاحتجزت كل امرأة لا ترتدي الحجاب، ولو وصل الأمور إلى قتلها ستفعل، وفي مصر رأينا شيئاً من ذلك عام 2013، حين خرج بعض أنصار الشيوخ يحملون صور ممثلات ويطالبون بمنع الفن بالقوة.
وإذا كان هذا موقفهم الواضح والصريح، فعلينا على الأقل ألا نصدّقهم كثيراً وهم يتحدثون عن قيمة حياة الإنسان التي أعلى الله من شأنها، ولا أن نُحسن النية تجاههم كثيراً، لأن هؤلاء أنفسهم لديهم القدرة على سحق النفس البشرية مقابل قطعة من القماش.
رصيف 22