محمد يسري:
بدأت الحملات العسكرية العربية على بلاد المغرب عام 643 (22 هـ)، وذلك بعد إتمام فتح مصر. وتمثلت الغاية الرئيسة من التوجه غرباً في تأمين المكتسبات التي أحرزها العرب في مصر وبلاد الشام، وإضعاف القوة البيزنطية في سواحل شمال إفريقيا، بحيث تتوطد السيطرة العربية في منطقة الشرق الأدنى بشكل كامل.
عندما تقدموا نحو المغرب، اصطدم العرب بالأمازيغ وامتدّ هذا الصدام لما يقرب من السبعين عاماً، وتعددت الرؤى التقييمية له، بين وجهة نظر إسلامية تراه جهاداً مقدساً لنشر الدين الحنيف وتجفيف منابع الكفر والوثنية، ورؤية قومية أمازيغية تنظر إليه على أنه احتلال لم يستهدف إلا جمع الغنائم والجزية.
كيف سيطر المسلمون على المغرب الكبير؟
يذكر البلاذري في كتابه "فتوح البلدان" أن الصدام العربي الأمازيغي الأول وقع عام 643 (22 هـ)، عندما قام والي مصر عمرو بن العاص بقيادة حملة على برقة، الواقعة في ليبيا الحالية، واتفق مع أهلها على دفع جزية سنوية مقدارها 13 ألف دينار، فيما قام عقبة بن نافع الفهري بقيادة بعض السرايا التي تمكنت من غزو بعض الواحات المهمة في الصحراء، مثل أجدابية وزويلة وفزان.
رغم سهولة فتح برقة، إلا أن الخليفة عمر بن الخطاب رفض طلب عمرو بن العاص بالتوجه لفتح إفريقية، وهو الاسم القديم الذي عُرفت به تونس الحالية. يذكر ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" أن الخليفة أرسل لعمرو: "لا، إنها ليست بإفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت"، وهي الرسالة التي تعكس خوف عمر من توغّل المسلمين في أرض مجهولة غريبة عنهم.
بعد مقتل عمر بن الخطاب، اقتنع الخليفة الثالث عثمان بن عفان بأهمية استكمال الفتوحات المغربية. يذكر ابن عذاري في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" أنه في عام 647 (27 هـ)، خرج والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح على رأس 20 ألف مقاتل لغزو إفريقية، ودخل في معركة مهمة ضد ما يقرب من 100 ألف من قوات البيزنطيين وحلفائهم من الأمازيغ، وكانوا بقيادة البطريرك غريغوريوس بن نيقيتاس، الحاكم البيزنطي لولاية إفريقية، وهو نفسه الذي تسميه المصادر العربية بـ"جرجير".
حقق المسلمون الانتصار في تلك المعركة، ورجع والي مصر إلى الفسطاط بعد أن حصل الجزية من باقي بطاركة إفريقية، بالإضافة إلى جمعه قدراً هائلاً من غنائم المعركة.
وعقب مقتل عثمان ودخول المسلمين في فترة من الصراع والاقتتال الداخلي، تراجع الاهتمام بالجبهة المغربية كثيراً. ولكن مع وصول معاوية بن أبي سفيان إلى كرسي الخلافة عام 661 (41 هـ)، عادت الحملات الإسلامية على إفريقية مرة أخرى.
يذكر ابن عذاري أن القائد الأموي معاوية بن حديج قاد حملة كبيرة وتمكّن من تحقيق انتصار مهم على البيزنطيين عام 666، بالقرب من سوسة، وبعدها تولى عقبة بن نافع أمر "الجهاد" في المغرب، فحقق مجموعة من الانتصارات المتوالية على الأمازيغ والبيزنطيين، وتوج جهوده في تلك المرحلة ببنائه مدينة القيروان عام 670، والتي تدفق عليها المسلمون وحلفاؤهم من الأمازيغ، واستقروا فيها، واتخذوا منها قاعدة ثابتة للغزو، حسبما يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ".
ويذكر أبو بكر بن عبد الله بن محمد المالكي، في كتابه "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية"، أن فتوحات المغرب مرّت بتغيّر مهم، بعدما قام والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري بعزل عقبة وتولية أبي المهاجر دينار مكانه، ذلك أن القائد الجديد للفيلق المغربي انتهج سياسة تعتمد على التسامح مع الأمازيغ، واستطاع أن يقنع كسيلة بن لمزم، زعيم قبيلة أوربة الأمازيغية، بالإسلام، بعد أن هزمه في بعض المعارك، وكانت نتيجة ذلك تحوّل الآلاف من أفراد القبيلة إلى الدين الجديد.
بعد اعتلاء يزيد بن معاوية كرسي الخلافة، أُعيد عقبة إلى منصبه القديم، ويبدو أن باني القيروان كان يضمر السخط على أبي المهاجر وسياسته في التعامل مع الأمازيغ، إذ يذكر عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه أن عقبة وضع الأغلال بيد أبي المهاجر، وبالغ في إهانة كسيلة والسخرية منه، ما دفع الأخير للهروب من الجيش العربي، ولم شتات أتباعه من الأمازيغ، حتى إذا ما اجتمع لديه جيش كبير، قام بمحاصرة عقبة وقتله مع عدد من أتباعه في تهودة الواقعة جنوب جبال الأوراس. ولم يكتفِ كسيلة بذلك، بل اجتاح المغرب كله وتمكن من السيطرة على مدينة القيروان مستغلاً حالة الارتباك التي وقع فيها المسلمون بعد وفاة يزيد بن معاوية.
وتزامناً مع وصول عبد الملك بن مروان للحكم، بدأت المرحلة الحاسمة في غزو المغرب. فعام 688 (69 هـ)، تم تعيين زهير بن قيس البلوي على القيروان، فاستطاع أن يثأر لعقبة، فقتل كسيلة وشتت جموعه، ولكنه قُتل بعدها بقليل على يد البيزنطيين.
وعام 693 (74 هـ)، عُيّن حسان بن النعمان الغساني لاستكمال الفتوح، وبلغ تعداد جيشه حوالي 40 ألف رجل، بحسب ابن عذاري، ودخل المسلمون في معارك متلاحقة مع قوات الكاهنة ديهيا، زعيمة قبائل الأوراس، وتبادل الطرفان النصر والهزيمة مراراً، حتى تمكن حسان في النهاية من قتل غريمته، ليتحول الآلاف من أتباعها إلى الإسلام.
وعام 704 (85 هـ)، قام والي مصر عبد العزيز بن مروان بتعيين موسى بن نصير كوالٍ جديد على إفريقية. وتتفق المصادر الإسلامية على المجهودات العظيمة التي قام بها ابن نصير في سبيل تهيئة المغرب للحكم الإسلامي، إذ هزم قبائل هوارة وزناتة وكتامة، وتصالح مع المصامدة، وعيّن مولاه طارق بن زياد والياً على طنجة، وتوسع في استعمال الأمازيغ واستخدامهم في أعماله، كما أمر العرب بتعليمهم الدين الإسلامي، وأدى ذلك كله إلى شيوع الإسلام بين القبائل الأمازيغية، وذلك بعد نحو سبعة عقود من الصراع العربي الأمازيغي المحتدم (حتى 92 هـ).
وجهة النظر الأمازيغية... تشويه لتاريخ المغاربة
أحد أهم الاعتراضات التي سجلها الباحثون الأمازيغ على المدوّنات العربية للغزوات الإسلامية، هي أنها حاولت إظهار الأمازيغ وكأنهم لم يعرفوا التحضر والدين إلا بعد الغزو العربي، رغم أن الحقائق التاريخية تثبت أن القبائل المغربية عرفت اليهودية والمسيحية منذ فترة مبكرة، كما يذكر الدكتور سعد زغلول عبد الحميد في كتابه "تاريخ المغرب الكبير".
في السياق نفسه، انتقد الباحثون المعاصرون إصرار الكتابات الإسلامية على توصيف المغاربة بالبربر، وتغافلهم عن تسميتهم بالأمازيغ، وذلك رغم أن التسمية الأولى هي تسمية بيزنطية بالأساس، بعكس الاسم الثاني الذي أطلقه سكان المغرب القديم على أنفسهم، ويدلّ معناه على "معاني النبل والشهامة والإباء"، حسبما يذكر محمد شفيق في كتابه "تاريخ الأمازيغيين".
ويتفق العديد من الباحثين المعاصرين على أن الفتوحات العربية لبلاد المغرب، لم تكن أكثر من غزوات وتوسعات عسكرية، لم تهدف إلى نشر الدين الإسلامي، بقدر ما ابتغت كسب غنائم ومتاع دنيوية.
يعتبر باحثون معاصرون أن الفتوحات العربية لبلاد المغرب لم تكن أكثر من غزوات وتوسعات عسكرية، لم تهدف إلى نشر الدين الإسلامي بقدر ما ابتغت كسب غنائم ومتاع دنيوية
يعترض الأمازيغ على كتابات العرب حول "فتح المغرب"، ويطالبون بإعادة توصيف الثورات الأمازيغية التي قامت ضد العرب، إذ عملت الكتابات الإسلامية برأيهم على تشويه حركات المقاومة المغربية
فعلى سبيل المثال، يذكر أحمد الزاهد في كتابه "الغزو العربي لشمال إفريقيا" أن "الواقع أن المؤسسة العسكرية أثناء حملات الفتح طغت بشكل رهيب على مؤسسة الدعوة، وهذا يتناقض بطبيعة الحال مع مفهوم الفتح وجوهره وشروطه وقوانينه وأخلاقياته التي برزت بشكل واضح في عهد الرسول ومن بعده الخلفاء الراشدين".
ورغم عدم توافر نصوص تاريخية أمازيغية موازية للنصوص العربية التي أرّخت لفتوحات المغرب، إلا أن بعض الباحثين بنوا رأيهم على العديد من الإشارات والأدلة التي تناثرت في بطون السجلات والحوليات الإسلامية، من ذلك أن أخبار غنائم المغرب احتلت مساحة كبيرة في نصوص المؤرخين المسلمين.
فقد أورد محمد بن مدين في كتابه "الطرفة المليحة في أخبار المنيحة" أن موسى بن نصير أرسل للخليفة الوليد بن عبد الملك، بمئة ألف أسير عقب إحدى الغزوات المغربية، وهو ما تعجب له الخليفة ووصفه بمحشر الأمة، فيما يذكر الدكتور محمد الطالبين في كتابه "الدولة الأغلبية: التاريخ السياسي" أن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان يرسل إلى عامله على إفريقيا مطالباً إياه بإرسال "الجواري البربريات الماليات للأعين الآخذات للقلوب".
ومما يؤكد أهمية الدوافع المادية للغزاة العرب أن الروايات الإسلامية اهتمت في الكثير من الأحيان بذكر تفاصيل بعض الخلافات التي دبّت بين بعض قادة الجيش الإسلامي حول مسألة توزيع الغنائم.
فعلى سبيل المثال، يذكر الدكتور حسين مؤنس في كتابه "فتح العرب للمغرب"، أن كلاً من القائدين معاوية بن حديج وعبد الملك بن مروان تخاصما حول توزيع غنائم مدينة جلولاء.
ليس ذلك فحسب، بل من المرجح أيضاً أن تعامل الفاتحين مع غنائم المغرب شهد بعض التجاوزات التي تحيد عن الخط الإسلامي في الكثير من الأوقات. فعلى سبيل المثال، اعترض الصحابي رويفع بن ثابت الأنصاري، والذي كان مشاركاً في معركة جربة عام 666 (46 هـ)، على قيام بعض الجند بمعاشرة السبايا دون انتظار استبراء أرحامهن، وذكرهم بحديث مشهور للرسول في ذلك الأمر، حسبما يذكر ابن حنبل في مسنده.
ويذكر علي صدقي أزايكو في كتابه "تاريخ المغرب أو التأويلات الممكنة"، أن من بين أهم أسباب عنف ودموية اللقاء بين العرب والأمازيغ، تلك التي ترجع إلى أن الدولة الأموية "عُرفت بتعصبها العرقي وقلة اهتمامها بتطبيق المبادئ الإسلامية سواء في الحرب أو في السلم".
على سبيل المثال، أورد ابن عبد الحكم مجموعة من الأخبار التي يُفهم منها طبيعة التعامل العنيف للعرب مع الأمازيغ، من ذلك أن عمرو بن العاص تشدد في جمع الجزية من أهل برقة، حتى باعوا بعض أبنائهم لسدادها، وأن عقبة بن نافع بعد أن عقد معاهدة مع ملك ودان، الواقعة في الصحراء الليبية، قام بجدع أنفه، وقال له: "فعلت هذا بك أدباً لك، إذا مسست أذنك ذكرته، فلم تحارب العرب". وفي موقف آخر أجبر عقبة ملك مدينة جرمة، على السير حافياً، حتى بصق الدم من الإعياء، وفي موقف ثالث قطع باني القيروان إصبع ملك مدينة "قصور كوار"، حتى يظل يستذكر ضرورة ولائه للعرب.
ويكمن الاعتراض الأمازيغي الأبرز على الفتح العربي في المطالبة بإعادة توصيف الثورات الأمازيغية التي قامت ضد العرب، إذ يؤمن العديد من الباحثين المغاربة المعاصرين بأن الكتابات الإسلامية عملت، عامدة، على تشويه حركات المقاومة المغربية، ودأب المؤرخون المسلمون على وصف القبائل الأمازيغية بالارتداد عن الإسلام خلال صراعهم مع العرب، وهو ما يعترض عليه علي صدقي أزايكو في كتابه سابق الذكر، ويصف تلك الردة بأنها سياسية لا دينية، وبأنها كانت أمراً متوقعاً في ظل تطاحن عسكري لا يهدأ بين الفاتحين وأهل البلاد الأصليين.
من الأمور الأخرى التي يعترض عليها أصحاب التوجه القومي الأمازيغي حالة تسفيه وازدراء رموز المقاومة الأمازيغية الذين تصدوا للعرب، والتي تظهر بشكل واضح في تغيير اسم الملك أكسل، ليصبح كسيلة، تصغيراً وتحقيراً له، وفي نعت الملكة ديهيا بالكاهنة، وربط سيرتها بأنواع مختلفة من الشعوذة والسحر والوثنية.
في الوقت نفسه، يعترضون على عمل المصادر الإسلامية على تمجيد شخصيات القادة المسلمين من أمثال عقبة بن نافع وحسان بن النعمان وموسى بن نصير، وهو الأمر الذي يعترض عليه الدكتور أحمد عصيد عندما يصف أمراء الجيش الإسلامي بأنهم "قادة عسكريون ليسوا مثاليين كما تصورهم نصوص التاريخ العربي، كانوا أناساً يشتغلون بإيديولوجيا عربية دينية، وكان أكسل والكاهنة زعماء وطنيين... لأنهم دافعوا عن الأرض".
رصيف 22