أحمد رياض جاموس:
منذ 25 آب/ أغسطس الماضي، تجري عمليات تمشيط واسعة النطاق ضمن قطاعات مخيم الهول شرق الحسكة، من قبل قوات سوريا الديموقراطية "قسد"، بالتعاون مع التحالف الدولي، وسط تداول معلومات عن إلقاء القبض على العشرات من عناصر تنظيم داعش وخلاياه النائمة، والعثور على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر ووثائق مهمة وأجهزة اتصالات ومواد متفجرة وأنفاق.
قوى الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا وشرقها (أسايش)، كانت قد أعلنت السبت 16 أيلول/ سبتمبر الحالي، عن انتهاء المرحلة الثانية من حملة "الإنسانية والأمان" التي تمكنت من تشتيت "جهاز الحسبة" و"أشبال الخلافة"، مشيرةً إلى أنها استطاعت خلال العملية، تحرير أربع نساء أيزيديات من قبضة داعش واعتقال 226 شخصاً، منهم 36 امرأةً شاركن في جرائم القتل والترهيب، بالإضافة إلى الكشف عن 25 خندقاً ونفقاً، و25 كغ من المواد المتفجرة TNT، ومصادرة أسلحة متنوعة.
وأكدت "أسايش"، أن العملية كانت ضروريةً بعد ازدياد عمليات القتل والتعذيب والبالغة 44 قتيلاً خلال العام الجاري، والتي نفذتها خلايا داعش بحقّ قاطني المخيم الرافضين الانضمام إلى التنظيم.
ووفق مصدر خاص من داخل مخيم الهول (طلب عدم ذكر اسمه)، يوجد من ضمن المعتقلين الذين اعتقلهم "الأسايش"، شخصان يتعاملان مع قيادات في الصف الأول من داعش، ولديهما مكتب للصيرفة في الهول، كما أدت الحملة الأمنية إلى إيقاف عملية تهريب نساء وأطفال داعش من المخيم إلى خارجه، مضيفاً أن نساء التنظيم شاركن في ارتكاب جرائم في المخيم ضد عملاء قسد وحرس المخيم، كما استهدفن في وقت سابق ثلاث مجندات في قوات قسد عبر مسدس كاتم للصوت.
البادية ملاذ آمن
لم تنقطع عمليات التنظيم في البادية السورية والجزيرة وخاصةً في دير الزور والحسكة، منذ انحساره عن "الباغوز"، آخر معقل له في ريف دير الزور في العام 2019، وشكّلت البادية السورية ملاذاً آمناً وعمقاً لانطلاق عمليات خلايا التنظيم وقاعدة مجموعاته وتكتيكاته ورسم كمائنه وأعمال الكرّ والفرّ والعمليات الخاطفة الفردية والتلغيم، والتجنيد، فاستهدف الميليشيات الإيرانية وأرتال النظام في عمليات وُصفت بأنها "شبه يومية"، وبالرغم من وجود الاستطلاع الروسي وعمليات التمشيط الواسعة في البادية برعاية قوات النظام والميليشيات الإيرانية الموالية الباحثة عن موطئ قدم لها هناك، إلا أن التنظيم استطاع إحراج هذه القوات وضربها في العمق واصطيادها نظراً إلى الخبرة القتالية التي يتمتع بها من جهة، ومعرفته بشعاب البادية السورية ومخارجها وطرق التخفي فيها من جهة أخرى.
في المقابل، تنشط الخلايا في شمال سوريا وشمال شرقها، وأيضاً في المناطق الخاضعة لقوات قسد، وآخر ما ارتكبته تكثيف عملياتها الانتقامية رداً على اقتحام قوات قسد مخيم الهول، إذ أكدت عبر صحيفتها الرسمية "النبأ"، سقوط 7 قتلى في صفوف قوات قسد بهجومين منفصلين خلال أسبوع واحد، في ما أسمته "ثأراً للأسيرات" في مخيم الهول، في حين سجل الهجوم الثاني مقتل عنصر خلال الهجوم على حاجز لقوات قسد في منطقة البصيرة في ريف دير الزور الشرقي، وقبل ذلك نشر التنظيم عبر وكالة "أعماق" المقربة منه حصيلة عملياته خلال الأسبوع الأخير من شهر آب/ أغسطس الماضي، والتي استهدفت قوات النظام، و"قوات سوريا الديمقراطية"، وأكد تنفيذ 8 عمليات خلال سبعة أيام في مناطق سورية عدة، مشيراً إلى أن العمليات استهدفت بشكل أساسي "قسد" التي تسيطر على معظم محافظات دير الزور والحسكة والرقة، من دون الإشارة إلى أماكن استهداف قوات النظام في هذه المحافظات.
يتحدث الناشط والصحافي همام عيسى، في حديثه إلى رصيف22، عن "اتباع التنظيم أسلوباً جديداً في الهجوم، كالكمين الذي نصبه في بادية تدمر في شرق سوريا، ضد مقاتلي لواء القدس، والذي أدى إلى مقتل وجرح عدد منهم، من خلال استخدام عربات عسكرية اغتنمها من قوات النظام في مواجهات سابقة، وارتداء ثياب عسكرية قريبة من ملابس جنود النظام"، مضيفاً أن التنظيم استخدم المعدات ذاتها في نصب حاجز عسكري على الطريق الواصلة بين مدينة تدمر والسخنة شرق حمص.
ويرى عيسى المقيم في شمال شرق سوريا، أن "خلايا التنظيم تستفيد بشكل كبير من البادية السورية ومساحتها الكبيرة التي تبلغ نحو 74 ألف كيلومتر مربع، وتتوزع على محافظات دير الزور، والرقة، وحلب، وحماه، وحمص، وريف دمشق والسويداء، إذ تتخذ الخلايا من تلك المناطق أماكن للاختباء، والتنقل لأن المنطقة مفتوحة على البادية التدمرية وموصولة أيضاً ببادية الأنبار، كما أن نشاط خلايا التنظيم في البادية، يأتي ضمن إستراتيجية مختلفة بشكل جذري عن إستراتيجياته السابقة في القتال، خاصةً من ناحية تنقّل المقاتلين أو أساليب الاستهداف المحددة".
وبالرغم من تفوّق النظام وحلفائه عسكرياً على التنظيم، إلا أن التنظيم بات يملك نقطةً مهمةً من شأنها تذليل الفارق العسكري، وهي المعرفة بالتفاصيل الجغرافية للبادية والقدرة على المناورة داخلها، على عكس الطرف الآخر الذي يفتقد تلك المعرفة، كما أن التنظيم يتفوق في الحرب الصحراوية نتيجة تراكم خبرات طويلة من المرحلة العراقية والسورية، عكس قوات النظام التي تملك مهارات حرب العصابات، لكن في إطار حرب المدن وليس الصحارى.
إتاوات لتمويل العمليات
يعتمد التنظيم على منهجية صبورة في التعامل مع المتغيرات، ساعدته على تحقيق جملة من الإجراءات لمواصلة عملياته، في مناطق عدة، واتخذت هذه الإجراءات أشكالاً جديدةً غير تقليدية، وهي تأتي على الشكل التالي:
- الاختراق الأمني، إذ يستفيد التنظيم من عناصره السابقين المنخرطين في قوات قسد، والمنضمين إليها تجنّباً لملاحقات أمنية ولحماية أنفسهم من ردّات فعل انتقامية ضدهم بعد انتهاء التنظيم في الباغوز.
- تجنيد عملاء لهم في قطاعات مختلفة ومراكز حسّاسة وأمنية وحواجز عسكرية، مستغلاً حاجة الشباب المادية والظروف المعيشية المتدهورة وحالة الاحتقان الشعبي ضد قوات قسد، بهدف تسهيل مرور عناصرهم ودخول المفخخات والملغمات والمسدسات الكاتمة.
- امتلاك التنظيم مصادر تمويل وأموالاً طائلةً من ذهب وقطع أثرية، واعتماده على العملات الرقمية المشفرة ومكاتب الصيرفة وتحويل الأموال المرخصة، ومشاريع تنموية بأسماء وهمية، بالإضافة إلى التبرعات.
- الاعتماد على مجموعات صغيرة (3 أفراد فقط)، تستقل دراجةً ناريةً، وتتولى التخطيط والتنفيذ بنفسها في ما يُعرف باسم "الذئاب المنفردة".
- فرض إتاوات على أشخاص وتجارٍ من أصحاب رؤوس الأموال، كذلك على الموظفين العاملين مع قسد، وخاصةً في قرى وبلدات ريف دير الزور الشمالي، تحت مسمى "الكلفة السلطانية"، وإرفاقهم تهديداً بالخطف والقتل إلى جانب وصل الكلفة السلطانية لكلّ من يتخلف عن أدائها، عدا عن فرض الزكاة على المدنيين في المنطقة بهدف تأمين أسلحة مقاتليه وذخائرهم ومصاريفهم.
يؤكد أحد الصيادلة في ريف دير الزور الشمالي، في حديثه إلى رصيف22، أن خلايا التنظيم تنشط بشكل كبير في ريف دير الزور، وتتعمد إخضاع المدنيين عبر ترهيبهم بالقتل والخطف، في حال عدم انصياعهم لمطالبها، والتي كان آخرها فرض إتاوات مالية من 200 إلى 1،000 دولار على بعض أصحاب المحال التجارية ومربي المواشي المعروفين بثرائهم، بالإضافة إلى الموظفين العاملين في صفوف قسد، مشيراً إلى أن بعض الذين وصلتهم الرسائل كانوا مطالبين بتحويل الأموال إلى مخيم الهول في ريف الحسكة.
ويضيف الصيدلي الذي فضّل عدم ذكر اسمه، خوفاً من أعمال انتقامية، أن "التنظيم وجّه رسائل تهديد إلى الكثير من الموظفين العاملين في قسد، بهدف وضعهم أمام احتمالين، إما إجبارهم على مغادرة القرى والهروب، أو إجبارهم على ترك قوات قسد".
ويصف هذه الأعمال بـ"التشبيح والسرقة العلنية"، وبأنها لا تفرق أبداً عن ممارسات ميليشيات النظام وقسد في اللصوصية وسلب الأرزاق ومصادرة الأموال بغير وجه حقّ، لافتاً إلى أن المصير معروف لكل من يتخلّف، وهو القتل أو الإخفاء، خاصةً بعد تزايد عمليات خلايا التنظيم بشكل منظّم وخوف المستهدفين من ذلك.
ووفق إحصائية قدّمها "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، فإن 130 عمليةً قامت بها مجموعات مسلحة وخلايا تنظيم داعش ضمن مناطق سيطرة قسد منذ بداية العام 2022، إذ بلغت حصيلة القتلى 104 قتلى، 37 مدنياً بينهم امرأة وطفل، و67 من قوات قسد وقوى الأمن الداخلي وتشكيلات عسكرية أخرى عاملة في مناطق الإدارة الذاتية.
استهداف مدروس أم لصوصية؟
يرى الباحث في الشأن السوري والحركات الجهادية، عرابي عبد الحي عرابي، في حديثه إلى رصيف22، أن "هناك عناصر منتمين إلى التنظيم يمارسون القطع والنهب، ويستفيد منهم التنظيم في القتال والترهيب، وكوقود للمعارك، إلا أنه لا يعتمد عليهم كدعاة لفكره ومشروعه أو في قرار مفصلي إستراتيجي في بنية التنظيم الذي لديه رؤية كلية وهو يقوم بكل ما يلزم لتحقيق هذه الرؤية، مدفوعاً بفتاوى دينية تبرّر له الأخذ من أشخاص معينين، وممن يوالون النظام أو قوات قسد ويقدّمون الدعم لهذين الطرفين".
واعتمد التنظيم على مدار السنوات الثلاثة الأخيرة على التصعيد تارةً والهدوء تارةً أخرى، إذ يوازن بين أسهل الأهداف من حيث التكاليف الأقل، وسرعة الانسحاب من المنطقة من دون خسائر، عندما يكون هناك تحرك كثيف لعصابات الأسد والمليشيات الإيرانية أو قوات قسد، فهذه هي إستراتيجية التنظيم عموماً، حسب عرابي، فضلاً عن أنه ومنذ العام 2017 توجهت خلايا التنظيم إلى حرب العصابات منطلقةً من البادية، ومستفيدةً من تشعب الطرق هناك، وبكثافة أكثر بعد معاركه الأخيرة في ريف دير الزور الشرقي.
ولا يعتقد الباحث أن "هناك إرادةً حقيقيةً للقضاء على فلول التنظيم سواء من قبل النظام، أو حتى من جهة قسد، لأن وجود التنظيم يعني استمرار العمليات في هذه المنطقة، وتالياً استمرار إستراتيجيات الدول الداعمة لهذه الأطراف"، مضيفاً أن "الدول تعمل على إضعافه فقط، وبالرغم من ذلك فهم بين فكّي كماشة: إمّا تقوية التنظيم ومواجهة خطر عودته، أو محاولة ضربه بعمليات أمنية مستمرة".
برأيه، "التنظيم استطاع إعادة جمع عناصره المتناثرة، وتقوية العناقيد الأمنية (خلايا صغيرة تتكون من ستة أشخاص أو سبعة يعملون في قطاعات منفردة نوعاً ما)، التي من مهامها جمع المعلومات وتأمين التمويل، وتنفيذ عمليات أمنية أو عسكرية وفق المتاح، مثل عمليات زرع العبوات الناسفة أو الاغتيالات أو تنفيذ هجمات دقيقة عبر الدراجات النّارية، لسهولة التحرك".