كيف عاش العثمانيون بعد اسقاط الخلافة - مقالات
أحدث المقالات

كيف عاش العثمانيون بعد اسقاط الخلافة

كيف عاش العثمانيون بعد اسقاط الخلافة

أحمد متاريك:

 

لم يستفتح شهر آذار/مارس من عام 1924 أيامَّه بالخير على بني عثمان في تركيا، بعد أن تلقّوا هزائم متتالية على أيدي قوّات أتاتورك وحلفائه القوميين، انتهت باحتلالهم العاصمة إسطنبول، وإعلانهم قيام الجمهورية التركية عام 1923 على أنقاض ما تبقّى من دولة الخلافة العثمانية. أُنهيت كافة الصلاحيات التنفيذية للخليفة، وأصبح مجرّد رمز بلا أي سُلطة، لكن لم يكتف القوميون -سادة الأناضول الجُدد- بذلك، وإنما قرّر أعضاء الجمعية الوطنية التركية (الهيئة التشريعية الرئيسية حينها) إلغاء منصب الخلافة بالجُملة، كما طُلب من العائلة العثمانية الرحيلُ عن البلاد.

بحسب كتاب حلم عثمان: تاريخ الدولة العثمانية (2007) لكارولين فينكل، لم يتبنَّ القوميون الأتراك هذا النهج فور قيام جمهوريتهم، ففي الأول من شباط/نوفمبر عام 1922 تقرّر إبقاء الخليفة في منصبه لكن بعد خفض رتبتِه وتجريده من كافة صلاحياته، فأصبح "رمزاً دينياً" بلا أيّ سُلطات في الجمهورية التركية الجديدة. وفي آذار/مارس 1924 زاد الأتراك القوميون من محنة الخليفة بإعلان إلغاء منصبه وطرده من البلاد.

لا خلافة ولا خليفة في تركيا

كشفت كارولين فينكل، أن هذا القرار العسير أثار انشقاقاً حادّاً داخل الجمعية، بعدما حظي بأغلبية صوتين فقط رجّحا كفّته (62 عضواً وافق من أصل 120).

تعالت أصوات لا يُستهان بثقلها بضرورة احترام منصب الخليفة والإبقاء عليه شرفياً كرمز للمُسلمين حول العالم. تزعّم هذا الرأي حسين أورباي، أول رئيس وزراء للجمهورية التركية، وكاظم قَرة بكر، العضو المؤثر في الجمعية الوطنية. زار الرجلان الخليفة عبد المجيد الثاني ومنحاه رسالة طمأنة.

بدت هذه الأصوات متسقة مع الأجواء التي سادت تركيا عقب سيطرة القوميين على البلاد، فتلك الجمعية التركية نفسها هي التي نصّبت عبد المجيد خليفة، ولكن، ولسوء حظ الخليفة العثماني الأخير،، فإن أتاتورك رغب في المضي بالبلاد إلى خطواتٍ أبعد في مسيرة إصلاحها وفقاً لرؤيته العلمانية، فأصرّ على اجتثاث الخلافة -وأهلها- نهائياً من التُربة التركية.

في تلك الأثناء كان أتاتورك يتمتّع بشعبية غير مسبوقة؛ ففي تشرين الأول/أكتوبر 1923 نصّبت الجمعية التركية مصطفى كمال رئيساً أول للجمهورية التركية، كما أن حزب الشعب الذي أسّسه حقق أغلبيةً كبيرة داخل الهيئة التشريعية الرئيسية في البلاد حينها. مارَس أتاتورك ضغوطاً على أعضاء الجمعية التركية انتهت بالموافقة على ذلك القرار التاريخي بأغلبية ضئيلة للغاية.

صدر القانون 431 بإسقاط الجنسية التركية عن 144 فرداً عثمانيّاً ذكوراً وإناثاً، ومصادرة كافة ممتلكاتهم لصالح الجمهورية الجديدة، كما طُلب منهم مغادرة البلاد خلال 10 أيامٍ بحدٍّ أقصى بصحبة مرافقيهم وخدمهم، وهو ما ضخّم عدد الوفد المنفي إلى 234 شخصاً حسبما أوردت السجلات التركية الرسمية.

وبهذا، تحقّقت مخاوف العثمانيين التي عاشوها خلال الشهور العسيرة الأخيرة عقب قرار إلغاء السلطنة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية. يُمكن تلخيص تلك المخاوف في حالة الضبابية التي كلّلت مصيرهم في ظلّ النظام الجديد طيلة عامٍ أو أكثر.

ينقل الباحث عمر قطوق في أطروحته عدةَ مواقف عكست حالة القلق تلك، وطريقة سيطرتها على كافة المجالس الخاصة لبني عثمان، مثل الرسالة التي كتبتها الأميرة العثمانية صبيحة سُلطانة، زوجة شهرزاد عمر فاروق، ابن الخليفة عبد المجيد، ذاكرة فيها: "لقد طالبنا مراراً وتكراراً بتحديد موقف عائلتنا. نسمع العديد من الأقاويل عن أنهم (تقصد أعضاء الجمعية التركية) سيطردون الخليفة وجميع أفراد أسرته. لقد بتنا نعيش صعوباتٍ ومخاوفَ كبيرة".

وبحسب قطوق، فإن الخليفة العثماني عبد المجيد اجتمع ببعض مرافقيه وأخبرهم باعتقاده أن عائلته ستغادر البلاد قريباً، وسألهم ماذا يفعل لو اتُّخذ هذا القرار؟ فأجابه أحدهم: "باستثناء حزم الحقائب والمغادرة، لا يوجد شيء آخر تفعله"، فيما أجاب آخر: "لو تعرّض أحد أجدادك العِظام لموقفٍ كهذا، ما سألنا ولتصرّف بشكلٍ مختلف".

كما أعربت أميرة عثمانية في رسالة لها عن أملها في عدم الطرد قائلة: "لقد أسس أجدادي دولة عُمرها 6 قرون، أتمنّى ألا يفعل بنا الأتراك شيئاً سيئاً. إنهم لن يستغنون عنّا بالتأكيد".

لسوء حظّ الأميرة العثمانيين أن أتاتورك اعتبر أن تمام نجاح ثورته لن يقع إلا بإقصاء العثمانيين تماماً من المشهد. تقول الباحثة كاهيد سينماز في أطروحتها "من المنفى إلى الوطن"، إن العديد من أفراد الدولة العثمانية غادروا البلاد على أمل أن ينتهي ذلك الوضع المضطرب قريباً، ولم يتصوّر أحدٌ منهم أن عملية عودتهم لن تتم إلا بعد عشرات السنين سيكون فيها مُلك أجدادهم قد أصبح تاريخاً.

مثّل هذا الإجراء جدلاً كبيراً بين الباحثين في التاريخ العثماني حتى اليوم؛ لماذا فعل أتاتورك ذلك؟ خاصةً وأن الأسرة العثمانية كانت قد فقدت جُلَّ قوّتها، وأصبح رئيسها بحُكم القانون "بابا للمسلمين"، ومجرّدَ مظهر ديني لا يمتلك أيَّ صلاحيات، ولا يملك الحق في اتخاذ أي قرار، ولا يُشكل خطراً على الدولة الجديدة.

بعض الباحثين اعتبروا أن أتاتورك تخوّف من قيام عبد المجيد بمحاولة انقلابية للتحالفِ مع معارضي نظامِه العلماني ذي النزعة القومية، فأراد أن يغلق الباب تماماً أمامهم ليتفرّغ لبناء جمهوريته مبرّأةً من أي وجود عثماني أو التزامات بقيادة العرب والمسلمين في أصقاع الأرض.

وحينما توجّهتُ بهذا السؤال إلى أحمد الشرقاوي الحاصل على دكتوراه في التاريخ العثماني فقال لرصيف22: أنه رغم انتزاع كافة الصلاحيات من الخليفة إلا أنه بقي رمزاً معنوياً كبيراً للغاية يمكن أن يلتف الناس حوله، وهو ما كان سيجعله خطراً لا شكّ فيه على سُلطة أتاتورك". ويعتبر الشرقاوي أن سيناريو طرد العثمانيين كان متفقاً عليه خلال مباحثات لوزان، بعدما أقنعت دولُ الغرب أتاتورك بأن تكون الدولة التركية علمانيةً لا أثر فيها للخلافة مقابل تقديمِ الدعم السياسي والمادي له.

مصير "وحيد الدين" يلاحق العثمانيين جميعاً

بدأت عمليات النفي بعد 24 ساعة من صدور القرار، وكان على رأسها عبد المجيد الثاني الخليفة الأخير (كان في الـ56 من عُمره حينها) الذي غادر البلاد بصحبة أسرته في 4 آذار/مارس 1924. أُخذ الخليفة من السراي، حيث ركب القطار عنوةً، لينقله لاحقًا إلى خارج البلاد، فيما تُركت مهلة أسبوع واحد لرحيل باقي أفراد العائلة، بعدما أُجبروا على بيع ممتلكاتهم النفيسة بأسعارٍ زهيدة.

منذ تلك اللحظة تعيّن على العثمانيين أن يعيشوا ما تبقّى من أعمارهم بجنسيات دولٍ أخرى، محرومين من العودة لوطنهم طيلة 28 عاماً أُعلن بعدها السماح للنساء فقط من بني عثمان بالعودة.

لا ريب أن الـ234 منفياً دار في خلدهم المصير المؤسف لأول العثمانيين المنفيين من تركيا وهو الخليفة قبل الأخير وحيد الدين محمد السادس، والذي شهدت فترة حُكمه الهزيمةَ العثمانية المذلة في الحرب العالمية الأولى، والتي كانت توابعها سبباً رئيسياً في تفجير تمرّد مصطفى كمال أتاتورك عليه وعلى دولة الخلافة بأسرها.

بحسب كتاب سلاطين الدولة العثمانية (2014) لصالح كولن، فإن المجلس الوطني التركي الأعلى أزاح الخليفة المغضوب عليه عن منصبه في الأول من شباط/نوفمبر 1922، وقرّر تعيين عبد المجيد (الخليفة الأخير) بدلاً منه. وعقب هذا القرار تسابقت وسائل الإعلام التركية في وصف الخليفة بـ"السلطان الخائن"، وتكاثفت الدعوات لقتلِه بسبب انبطاحه أمام الإنكليز وقوى الغرب، وتعدَّد خروج المظاهرات ضدّه تُطالب برأسه.

استشعر الخليفة المخلوع أن حياته باتت في خطر، فطلب حماية البريطانيين لتأمين خروجه من تركيا، فأرسلوا له بارجة نقلته خارج البلاد، وهي الخطوة التي فسّرها في مذكراته: "لقد تُركتُ كي أضطر إلى قبول خلافة من دون سلطنة، ولم أكن قادراً على الاعتراض على هذا، لكني قررت المغادرة إلى أن تتضح الأمور. أنا لم أهرب لكني هاجرت، وقد اخترت مالطة باعتبارها الخيار الأقل سوءاً حيث يمكن منها الذهاب إلى الأراضي المقدسة. لقد سرت على خطى الرسول، ولم أتخلّ على الإطلاق عن حقّي في السلطنة والخلافة الذي ورثته من أسلافي".

طلب وحيد الدين السفرَ إلى فلسطين أو إلى قبرص، فرفض البريطانيون بسبب اعتقادهم أن عيشَه داخل بلدٍ إسلامي في ظلّ إصراره على عدم التخلي عن منصب الخليفة سيخلق مشاكلَ جمّةً، وفي النهاية اعتبروا أن إيطاليا ستكون أفضل وِجهة له.

وحيداً عاش الخليفة قبل الأخير في مدينة "سان ريمو" الإيطالية، ولم يجتمع مع عائلته إلا عقب صدور قرار النفي. وبحسب كولن، فإن نفقات سفرِ أفراد الأسرة قضت على ما تبقّى من مدخرات وحيد الدين بعدما نفدت الـ20 ألف جنيه إسترليني التي اصطحبها معه قبيل سفره، ولم يعد يمتلك شيئاً، فاضطُرّ إلى بيعِ جميع ممتلكاته بما فيها شارة السلطنة الذهبية.

وعندما تُوفي في أيار/مايو 1926 كان مديناً بـ200 ألف فرنك. يقول كولن: جاء الضباط إلى منزله وصادروه، وحبسوا جميع الممتلكات مع جسد الخليفة المحنّط في غرفة، وأغلقوها. ولم يسمح الإيطاليون بإقامة جنازة له حتى تمّ تسديد جميع ديونِه، وأعادوا جسدَ الخليفة إلى أسرتِه بعد شهر على وفاته. وعقب تسلّم جثمانه اختارت عائلتُه دفنَه في دمشق.

الطريق المُرّ إلى نيس

من تركيا غادر الخليفة العثماني الأخير عبد المجيد إلى سويسرا لفترة قصيرة، ومنها إلى فرنسا، حيث عاش فيها ما تبقّى من عُمره في حالةٍ من العوز المالي انتهت عقب تزويجه ابنتَه بأمير مملكة "حيدر آباد" الهندية.

أوضح أحمد الشرقاوي لنا أن عبد المجيد ذهب إلى فرنسا تحديداً لأنه كان فنّاناً يرسم اللوحات، وتعيّش في أيامه الأخيرة من ذلك النشاط الإبداعي.

يقول المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه تاريخ الدولة العثمانية (1988)، إن الخليفة استأجر القصرَ الخاص بوليِّ عهد إنكلترا في ذلك الوقت، وبعدما انتقل عبد المجيد إلى باريس اختارت أكثريةُ سلالتِه الرحيلَ إلى القاهرة والإسكندرية عقب وفاة ملك مصر فؤاد، الذي كان يرفض استقبالهم في بلاده.

ألمُ الخليفة الأخير من تجربة الطرد القاسية والمهينة بحقّه جعلتْه يُحجم عن ممارسة أي نشاط سياسي لاحقاً. وبحسب كتاب "حيدر آباد والهند والعالم" لإريك لويس، فقد تلقّى الخليفة عروضاً متتالية لتزويج أيٍّ من أبنائه مع ملوك العالم الإسلامي في مصر وإيران والعراق وبعض الممالك الإسلامية الصغيرة في جنوب شرق آسيا، سعياً منهم لاكتساب شعبية كبرى عبر الاقتران بالدّم العثماني.

رفض عبد المجيد كافةَ هذه العروض لفترةٍ من الزمن حتى استجاب لأحدها أخيراً وزوّج ابنته "در الشهوار" من أحد أمراء مملكة حيدر آباد الثرية، التي خصّصت راتباً شهرياً كبيراً أنقذ الخليفة الأخير من براثن فقر لم يذقه يوماً.

وبحسب الشرقاوي، فإن كثيراً من أفراد البيت العثماني لم يعرفوا "الاستقرار المالي" الذي عاشه عبد المجيد في أيامه الأخيرة، فبعدما صُودرت منهم ممتلكاتهم وعقاراتهم في تركيا، خرجوا وهم لا يمتلكون إلا أجرةَ الطريق. ويضيف الشرقاوي: كثير من أفراد الأسرة المالكة عاشوا حياةَ التشرّد فغسلوا الأطباق لكسب العيش.

مات الخليفة الأخير عبد المجيد في آب/أغسطس 1944، ورفضت الحكومة التركية استقبالَ جثمانه، فدُفن بشكلٍ مؤقت في باريس، ثم نُقل رفاته لاحقاً إلى المدينة المنورة، حيث دُفن في البقيع.

بالرغم من رحيل عبد المجيد، استمرّت المساعي المحمومة للارتباط بالنسب العثماني، الذي يحظى بمكانة كبرى في المشرق الإسلامي حتى بعدما فقد عرشه؛ تزوّج الأمير محمد بن الخديوي عباس بـ"نسل شاه"، حفيدة الخليفة العثماني عبد المجيد، كما خطب ملك العراق فيصل الثاني الأميرة فاضلة ابنة الاميرة خانزاده، هي أيضاً حفيدة الخليفة عبد المجيد.

لسوء حظِّ كلا الحفيدتين، فإن كلتيهما كانتا شاهدتين على فقدان عرشٍ جديد؛ فـ"نسل شاه" عُيِّن زوجها رئيساً لمجلس الوصاية على الملك أحمد فؤاد الثاني عقب قيام ثورة تموز/يوليو. وبموجب منصب زوجها أصبحت "نسل شاه" آخر ملكة متوجة على مصر حتى حزيران/يونيو 1953 حين أعلن الضباط الأحرار إعلان الجمهورية.

أما الأميرة فاضلة فكانت أسوأ حظّاً بعدما اغتيل خطيبها ملك العراق فيصل الثاني قبل شهور من زواجها عقب اندلاع ثورة 1958 بقيادة الضابطيْن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، والتي شهدت أحداثها مجزرة دموية قُتل فيها أغلب أفراد الأسرة الهاشمية الحاكمة للعراق حينها. وكأنه كُتب على العثمانيات أن يشهدن خسارة العروش الواحد تلو الآخر.

زيارات عثمانية لتركيا رغم قرارات المنع

بحسب سينمار، فإن الـ28 عاماً من الحرمان التركي الرسمي للعثمانيين من زيارة أراضي بلاد أتاتورك لم تُطبّق بصرامة، وإنما شهدت عدة استثناءات، أشهرها زيارة الأميرة "در الشهوار" ابنة الخليفة عبد المجيد الثاني، التي تزوجت من الأمير "أعزم جاه" ابن السلطان عثمان علي خان، آخر حكام دولة حيدر آباد، المملكة الإسلامية السُنّية التي ظلت قائمة في جنوب الهند حتى عام 1948.

فعقب وفاة والدها عام 1944 سافرت بصفتها "أميرة هندية" إلى تركيا، وحاولت إقناعَ قادةِ البلاد بالسّماح لها بدفن والدها في تركيا، وهو الطلب الذي قُوبِل بالرفض مراراً، فاضطرت معه إلى دفنه في المدينة المنورة.

من ضمن هذه الاستثناءات أيضاً، كانت الأميرة العثمانية "نسل شاه"، حفيدة الخليفة العثماني الأخير، فهي ابنة الأمير العثماني عمر فاروق عثمان أوغلو، نجل الخليفة العثماني عبد المجيد. كانت "نسل شاه" في عُمر الـ3 سنوات حينما نُفيت أسرتها، واستقرَّ بها الحال في نيس بفرنسا حيث تربّت هناك.

لم تتمكن تركيا من تطبيق قرار "منع دخول البلاد" على الأميرة عقب زواجها من الأمير محمد عبد المنعم ابن عباس حلمي الثاني آخر خديوي لمصر، فبموجب هذا الزواج نالت مكانةً دبلوماسية مرموقة وهو لقب "أميرة مصرية".

بموجب منصبها، دخلت "نسل شاه" تركيا بصحبة زوجها بعد 23 عاماً من الرحيل عنها. وزارت إسطنبول وأزمير، وهي الزيارة التي حظيت باهتمام كبير من الصحافة التركية، وتبارت على نشر أخبار وصور تجوّل "حفيدة الخليفة العثماني" في أنحاء البلاد، كما أجرت الأميرة لقاءً صحافيّاً أكدت فيه اعتزازَها بأصولها الأناضولية وإرث أجدادها، موضحةً أن التركية هي اللغة الأساسية في منزلها، وأن أطفالها يتحدثون بها أغلب الأوقات.

وكشفت "نسل شاه" أنها حينما كانت في الـ11 من عُمرها طُلب منها في المدرسة أن تكتب مقالاً عن أكثر شيءٍ تريده في حياتها، فكتبت عن اشتياقها للعودة إلى وطنها، وهو ما علّقت عليه الصحيفة التركية بأن أمنية الأميرة العثمانية تحققت أخيراً.

نفس السيناريو تقريباً تكرّر مع الأميرة نيلوفِر، حفيدة السُلطان العثماني مراد الخامس، التي كانت في الـ8 من عُمرها حينما صدرت قرارات الطرد الجماعي بحقِّ أسرتها.

عاشت بصحبة عائلتها في نيس الفرنسية حتى تزوجت من أحد أمراء مملكة حيدر آباد الهندية. وفي معية زوجها زارت إسطنبول عام 1947. اهتمّت الصحافة التركية بالحديث معها وتغطية زيارتها لـ"قصر دولما"، أحد المراكز الأساسية للحُكم العثماني في سنواته الأخيرة.

قالت الأميرة نيلوفر للصحافة: "إنه لمن المؤسف أن تكون تركيّاً ولا ترى تركيا. إسطنبول لا تُنسى. لقد سيطرتْ على كل أحلامي، على مدار 24 عاما لطالما رغبتُ في القدوم إلى هنا".

لاحقاً ستكون نيلوفر أولى الأميرات العثمانيات العائدات إلى تركيا عقب صدور قرار العفو عنهن، والسماح لهن بزيارة البلاد.

لم تمرّ هذه الزيارات بلا عواقب، بعدما أثارت استياء بعض سياسيي البلاد، منهم النائب سيهان رمزي يوريغير عن حزب الشعب الجمهوري، الذي سعى لمناقشة تلك الزيارات تحت قبة البرلمان، مطالباً بالتحقيق في أسبابها ومعرفة كيف تمّ السماح بها، بعدما اعتبر أنها خرق جسيم للقانون 431.

أجراس العودة فلتقرع

حملت بداية الخمسينيات بشرات الخير للعثمانيين مع تولّي السياسي التركي جلال بايار رئاسةَ البلاد، وعدنان مندريس رئاسةَ الوزراء، وكلاهما تبنّيا موقفاً ليّناً إزاء "المنفيين العثمانيين".

اعتبرت الحكومة أن "قرار عام 1924" كان خاطئاً، ودعت في 16 حزيران/يونيو عام 1952 إلى جلسة برلمانية خطب فيها رئيس البرلمان قائلاً: "في العام المقبل ستحلّ الذكرى السنوية الـ500 لفتح إسطنبول الذي نفذه الخليفة محمد الثاني. ذلك البطل العبقري إذا رفع رأسه وسألنا (أين أهلي؟)، ماذا سنقول له؟ الجواب في مشروع القانون الذي قدّمته الحكومة".

سمح القانون الجديد لمن تبقت من نساء الأسرة العثمانية بالعودة لتركيا وأعيدت لهن الجنسية، وهو القرار الذي لم ينل الرجال مثله إلا في 15 آذار/مايو عام 1974 بعدما صدر عفو عام عن كلّ العثمانيين.

العثمانيون الحاليون لم يعطونا فرصة أن نكون أتراكاً

بعد العفو عنهم، عاد بعض أفراد العائلة العثمانية إلى تركيا لكن أغلبهم فضّل البقاء في أوروبا وأمريكا، حيث لا تزال ذريتهم موجودة حتى الآن، وتحمل اسم "عثمان أوغلو" أي "أبناء عثمان". بعض أفراد هذه الذرية انقطعت الصِلة بينهم وبين وطنها الأساسي حتى أنهم لم يعودوا يتحدّثون التركية.

وقد يكون أبرز الأمثلة على ذلك هو ناظم زياد عثمان أوغلو، الذي ينحدر من نسل السُلطان العثماني محمد الخامس، يبلغ عُمره 36 عاماً، تربّى في إنكلترا، ويعمل ممثلاً كوميديّاً في بعض الأعمال متواضعة المستوى، كما قدّم برامج "ستاند آب" حيّة للجمهور أشهرها مُقتبس من حياته، وحمل عنوان "عثماني بدون إمبراطورية".

في 2016، زار ناظم تركيا، وتفقّد عدداً من قصور عائلته، وصرّح للصحافة ساخراً أنه اضطرّ لدفع تذكرة كي يدخل منازل أجدادِه مثله مثل أي سائح أجنبي، مضيفاً: "لم يمنحوني حتى أي خصومات". كما صرّح بأنه يشعر بالخجل لكونه حفيدَ الخليفة العثماني ولا يُجيد التركية، وهو ما برّره بقضائه حياتَه كاملة خارج بلده، قائلاً: "لم تُتح لي الفرصة لأن أكون تركيّاً".

تجتمع عائلة عثمان أوغلو من وقتٍ لآخر، في لقاءات بروتوكولية تهتمُّ الصحافة المحلية التركية بنشر صورها كأحد أشكال النوستالجيا العثمانية التي سيطرت على تركيا مؤخراً.

وفي عهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أظهر اهتماماً بالأسرة العثمانية، ففي عام 2004 زار أردوغان أرطغرل عثمان، أكبر أفراد الأسرة العثمانية عُمراً وقتها (وُلد عام 1912، أي كان في الـ12 حينما طُبِّق عليه وعلى أسرته قرار النفي)، ومنحه جوازَ سفرٍ تركيّ، وحُرية تأسيس مؤسسات مجتمع مدني عثمانية في إسطنبول، وعقب وفاته دُفن جثمانه جوار جدِّه السلطان عبد الحميد الثاني في إسطنبول.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*