الملك القديس لويس التاسع - مقالات
أحدث المقالات

الملك القديس لويس التاسع

الملك القديس لويس التاسع

محمد يسري:

 

تحين ذكرى وفاة لويس التاسع في الـ25 من شهر آب/ أغسطس. عُرف الملك الفرنسي بحماسته الدينية المنقطعة النظير، وبمجهوداته الكبيرة في شن الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي في القرن الـ13 الميلادي. وارتبطت شخصيته في الذاكرة الجمعية الإسلامية بمعاني النصر والفخر.

فمن جهة، اقترن اسمه بدار ابن لقمان التي حُبس فيها عقب هزيمته على يد المماليك في مصر. ومن جهة أخرى، لفظ الملك الفرنسي أنفاسه الأخيرة في تونس بالتزامن مع فشل الحملة الصليبية الثامنة.

"ملك مسيحي بحق"

ولد لويس التاسع سنة 1214م. أبوه هو الملك لويس الثامن وأمه هي الملكة بلانش القشتالية. يذكر المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" الدور الكبير الذي لعبته بلانش في تربية ابنها، فيقول: "عكفت على تربيته على الفضائل المسيحية، وكانت تقول له: إنها تفضل أن تراه ميتاً على أن تراه يرتكب أحد الذنوب البشرية".

بعد وفاة أبيه، سنة 1226م، نُصّب لويس التاسع ملكاً لفرنسا في سن الـ12، وخضع لوصاية أمه التي أدارت شؤون البلاد لمدة تسع سنوات كاملة، حتى إذا ما بلغ سن الرشد تولى مقاليد السلطة بشكل رسمي.

يتحدث ديورانت عن الصفات التي تمتع بها الملك الشاب. يذكر أنه "تخلى على الترف شيئاً فشيئاً، واعتاد بالتدريج عيشة البساطة المتزايدة، وصرف همه إلى شؤون الحكم، والصدقات، والتقوى"، كما أنه قلل من سلطات الأمراء الإقطاعيين، ومنع المبارزات في المحاكم، وأحل محلها المحاكم المبنية على الأدلة والبراهين.

على صعيد العلاقات الخارجية، تنازل لويس التاسع عن بعض الأراضي التي استولى عليها أسلافه من إنكلترا وإسبانيا، ولم يخض أي قتال ضد جيرانه من المسيحيين الكاثوليك. وكان معظم ملوك أوروبا يختاروه للوساطة في المشجرات بينهم، باعتباره ملكاً تقياً متديناً.

ينقل ديورانت عن بعض المؤرخين الفرنسيين الذين عاصروا لويس التاسع بعض الأوصاف التي تفوح منها رائحة المبالغة والتعظيم. من ذلك أنه "أمر عمّاله في كل مقاطعة أن يبحثوا عن العَجَزة والفقراء، وينفقوا عليهم من الأموال العامة. وكان أينما سار يجعل من مبادئه المقررة أن يطعم مئة وعشرين فقيراً في كل يوم. وكان يأمر بأن يجلس معه على مائدته ثلاثة منهم، يتولى هو تقديم الطعام لهم ويغسل بنفسه أقدامهم… وكان يقف على المائدة في خدمة المجذومين، ويطعمهم بيديه".

تؤكد المصادر التاريخية أن فرنسا في عهد لويس التاسع نعمت بقدر كبير من الاستقرار والهدوء والأمن، وأن ثروتها بلغت من الوفرة درجة "ارتفعت بها العمارة القوطية إلى أقصى حدود الكثرة والكمال".

أحد الملامح المهمة في شخصية لويس التاسع كانت حماسته الدينية المنقطعة النظير، والتي حدت به ليصبح مسيحياً ورعاً تقياً إلى أقصى درجة. من الشواهد الواضحة على تلك التقوى أنه كان شديد التأثر بالمقدسات الدينية المنسوبة للمسيح. على سبيل المثال، يقال إن مسماراً من المسامير التي صُلب بها المسيح ضاع من رئيس أحد الأديرة في فرنسا، فلم يهدأ الملك إلا بعد العثور عليه. أيضاً، اشتهر أن لويس التاسع اشترى تاج الأشواك (يؤمن المسيحيون أن الرومان وضعوه على رأس المسيح قُبيل صلبه) من إمبراطور القسطنطينية بمبلغ باهظ.

تأجُّج العاطفة الدينية في صدر ملك فرنسا الشاب وصل إلى أوجه سنة 1242م. في تلك السنة، قاتَلَ بعض المتمردين، وأُصيب بالملاريا، وأوشك على الموت، فأقسم أن يشن حملة صليبية على بلاد المسلمين بمجرد أن يشفى من مرضه. من المُرجح أنه أراد استكمال الكفاح الذي بدأه جده الملك فيلبس أغسطس عندما شارك في الحملة الصليبية الثالثة وقاتل قوات صلاح الدين الأيوبي.

قاد الملك الفرنسي المتعطش لنصرة الصليب قواته نحو الشرق الإسلامي في حملتين صليبيتين كبيرتين، وتوفى في 1270م. بعد 27 سنة من وفاته، رسمته الكنيسة الكاثوليكية قديساً.

يلخص ويل ديورانت سيرة لويس التاسع ونظرة الفرنسيين له، فيقول: "ظل الناس بعد وفاته أجيالاً وقروناً يرون أن حكمه هو العصر الذهبي في تاريخ فرنسا، ويعجبون كيف لا تتيح الأقدار التي لا يفقهون تصريفها لأمور البشر ملكاً آخر لفرنسا يماثله. ذلك أنه كان ملكاً مسيحياً بحق".

الحملة الصليبية السابعة

عام 1245م، قرر لويس التاسع أن يوفي بنذره، وعقد النية على قيادة جيشه إلى الشرق. رحّب البابا إنوسنت الرابع كثيراً بمشروع الحملة، وقدّم لها يد العون والمساعدة. يذكر الدكتور محمد مصطفى زيادة في كتابه "حملة لويس التاسع على مصر وهزيمته في المنصورة"، أن البابا "أعلن في مجلس ليون الكنسي، المنعقد في أواسط سنة 1245م اختيار البابوية له (لويس التاسع) لقيادة هذه الحملة. وبعد قليل أرسل البابا أحد كرادلته... لدعوة نبلاء فرنسا للانضواء تحت راية ملكهم، كما أرسل آخرين من الدعاة البابويين إلى سائر البلاد الأوروبية لشحذ همم ملوكها وأمرائها إلى الدخول في سلك هذه الحملة".

بعد ثلاث سنوات من التحضير والتجهيز للحملة، أبحرت الجيوش الصليبية في آب/ أغسطس 1248م على متن السفن التي وفرتها لهم جمهورية جنوا إلى قبرص. انتظر الملك الفرنسي انتهاء فصل الشتاء، وفي أيار/ مايو 1249م قاد ما يقرب من الثلاثين ألف مقاتل تجاه السواحل المصرية، وتحديداً نحو ثغر دمياط. كان يرى أن السيطرة على دمياط قد تكون مفيدة له في طالع الأيام، وأنه من الممكن أن يقايض بها الصالح نجم الدين أيوب، سلطان مصر الأيوبي، على بيت المقدس في ما بعد.

"كان أينما سار يجعل من مبادئه المقررة أن يطعم مئة وعشرين فقيراً في كل يوم. وكان يأمر بأن يجلس معه على مائدته ثلاثة منهم، يتولى هو تقديم الطعام لهم ويغسل بنفسه أقدامهم… وكان يقف على المائدة في خدمة المجذومين، ويطعمهم بيديه"

تذكر المصادر الأوروبية أن السفن المتوجهة إلى مصر تعرضت لرياح شديدة في البحر، وأن ربعها فقط تمكن من الوصول إلى دمياط، فيما جنحت باقي السفن عن مسارها وقضت وقتاً طويلاً حتى تمكنت من جمع شتاتها ومواصلة الإبحار باتجاه مصر. وبحسب المصادر الإسلامية، كان الصالح نجم الدين أيوب مقيماً في بلاد الشام في تلك الفترة، فلمّا عرف بالتهديدات التي تواجهها السواحل الشمالية للمحروسة، سارع بترك الشام ورحل إلى مصر رغم مرضه الشديد، وعسكر في واحدة من المدن القريبة من دمياط.

يحكي سبط ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان" تفاصيل تلك الفترة الحرجة، فيقول إن الصليبيين تمكنوا من النزول إلى ساحل دمياط، وإنهم تغلبوا على قوات الأمير فخر الدين يوسف المُكلف بحماية المدينة. وانسحبت القوات الأيوبية من دمياط وهرب منها أهلها، وبعد ساعات دخل الصليبيون المدينة بغير قتال أو حصار.

وبحسب ما أورده ابن واصل في كتابه "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب"، نفّذ المسلمون المتحصنون في مدينة المنصورة، القريبة من دمياط، العديد من العمليات الفدائية التي استنزفوا بها القوة الصليبية. وكثيراً ما تمكن المسلمون من أسر العشرات من الجنود الفرنسيين، الأمر الذي أسهم في رفع الروح المعنوية في المعسكر الأيوبي.

بعد انتظارها عدة أشهر في دمياط، خرجت الحملة الصليبية قاصدةً القاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1249م. توفى الصالح نجم الدين في ذلك الوقت العصيب وتسلمت شجر الدر، زوجة الصالح نجم الدين، السلطة، وأخفت خبر وفاة زوجها لفترة، وأرسلت لتستدعي ابنه توران شاه من حصن كيفا الواقع في ديار بكر.

يذكر مصطفى زيادة أن الصليبيين تمكنوا من مباغتة المعسكر الأيوبي، وقُتل الأمير فخر الدين يوسف في هذا الهجوم، ليتولى الأمير بيبرس البندقداري، وهو نفسه الذي سيتولى السلطنة في ما بعد وسيُعرف بالظاهر بيبرس، القيادة بدلاً منه.

في الثامن من شباط/ فبراير 1250م، دخل الصليبيون مدينة المنصورة، وانتشروا في أرجائها حتى وصلوا إلى قصر الإمارة فيها، وأعدّ الجيش الأيوبي خطة محكمة للهجوم عليهم، وذلك عندما "حملوا على الفرنج حملة زعزعوهم بها، وأزاحوهم عن باب القصر فلما ولوا أخذتهم السيوف والدبابيس، حتى قُتل منهم في هذه النوبة نحو ألف وخمسمئة من أعيانهم وشجعانهم... فكانت هذه الواقعة أول ابتداء النصر على الفرنج"، بحسب ما يذكر تقي الدين المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك".

بعد ذلك الانتصار، تمكنت البحرية الأيوبية من الاستيلاء على السفن التي تحمل المؤن للحملة الصليبية من دمياط. وتمكن الأيوبيون من مداهمة السفن الحربية التي تحمل لويس التاسع وجيشه، وحققوا النصر التام في المعركة.

يتحدث المقريزي عن هذا الانتصار، فيقول: "بلغت عدة القتلى عشرة آلاف في قول المقل، وثلاثين ألفاً في قول المكثر. وأسر من خيالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسوقتهم، ما يناهز مئة ألف إنسان، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرة... والتجأ الملك ريدافرنس (يقصد لويس التاسع) وعدة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزلوا على أمانه. وأخذوا إلى المنصورة، فقُيد الملك ريدافرنس بقيد من حديد، واعتقل في دار القاضي فخر الدين إبراهيم ابن لقمان كاتب الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورة".

في أيار/ مايو 1250م، أُطلق سراح لويس التاسع بعدما دفعت زوجته مبلغاً باهظاً يقدر بـ 400 ألف دينار، ورحل الملك الفرنسي عندها إلى بلاد الشام فمكث فيها لمدة أربعة سنوات قبل أن يعود إلى فرنسا.

الحملة الصليبية الثامنة

بعد فترة من السكون والراحة، عزم لويس التاسع على مواصلة الجهاد المقدس. في 1270م، أعدّ حملة مؤلفة من 36 ألف مقاتل، وجهزها للإبحار نحو المشرق، وبدأ يفكر في وجهتها. لم يفكر الملك الفرنسي في مهاجمة مصر. كانت الهزيمة المذلة التي تلقاها في المنصورة لا تزال تقض مضجعه، كما أن السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، حاكم مصر في تلك الفترة، أعلن عن نفسه بوصفه أقوى ملوك الشرق في ذلك العصر، خصوصاً بعدما دحر المغول في فلسطين وبلاد الشام، وبعدما تمكن من استعادة أنطاكية وقيسارية ويافا وأرسوف من أيدي الصليبيين.

كانت وفاة الملك الفرنسي لويس التاسع المسمار الأخير الذي دُقَّ في نعش الحملات الصليبية، ولم تعرف أوروبا الكاثوليكية مَن يشبهه في حماسته الدينية المتقدة

بعد فترة من التفكير، استقر رأي لويس التاسع على التوجه إلى تونس. في كتابها "الصليبيون في شمال أفريقيا"، تذكر الدكتور سامية عامر أسباب هذا الاختيار. تشير إلى أن الحفصيين، حكام تونس، كانوا يدفعون جزية سنوية ضخمة لمانفريد حاكم صقلية بهدف تأمين تجارتهم وسفنهم من نهب القراصنة. وفي سنة 1265م، استولى شارل كونت أنجو على صقلية بمساعدة من أخيه لويس التاسع، فرفض الحفصيون الاعتراف بشرعية شارل، وامتنعوا عن دفع الجزية له. لهذا السبب، عمل شارل على إقناع أخيه بضرورة توجيه الحملة إلى تونس، ونجح في مسعاه أخيراً في 1270م عندما توجهت الجيوش الصليبية إلى تونس في ما عُرف باسم الحملة الصليبية الثامنة.

تذكر المصادر الأوروبية أن الحملة تجمعت في جزيرة سردينيا في البحر المتوسط، وأن الجيش الصليبي تعرض في تلك الفترة للمجاعة وتفشي الأمراض بسبب قلة المؤن. في تموز/ يوليو 1270م، وصلت القوات الصليبية إلى تونس وتمكنت من السيطرة على قلعة قرطاج ومينائها. ودارت الكثير من المناوشات والمعارك بين القوات الإسلامية والقوات الصليبية، وظل الوضع على ما هو عليه حتى توفي لويس التاسع في الـ25 من آب/ أغسطس بسبب مرض أصابه.

رغم أن الصليبيين تلقوا دعماً كبيراً بعدها، مع قدوم قوات كل من شارل ملك صقلية، والأمير إدوارد ولي عهد إنكلترا، إلا أن وفاة لويس التاسع تسببت في انهيار معنويات الجيش الصليبي.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1270م، عُقد الصلح بين المستنصر حاكم تونس وقادة الحملة الصليبية، وبموجب هذا الصلح دفع المستنصر كميات كبيرة من الذهب والفضة للصليبيين، كما تعهد بدفع الجزية لملك صقلية، لتنتهي أحداث الحملة، وليُسدل الستار على الغزوات الأوروبية الكبرى للشرق الإسلامي. كانت وفاة لويس التاسع المسمار الأخير الذي دُقَّ في نعش الحملات الصليبية في ذلك العصر، ولم تعرف أوروبا الكاثوليكية مَن يشبهه في حماسته الدينية المتقدة.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث