سعد سلوم – العراق :
يخيم على تغطية قضايا الأقليات الدينية في الشرق الأوسط -لا سيما الأقليات المسيحية-، طابعُ المأساة التي مروا بها خلال عقود نهاية القرن العشرين، فتظهرهم الخطابات في صورة طائفة منقرضة أو معرضة للانقراض. وتاريخيًّا، يُختصر دورهم في مجرد النقل أو الوساطة الثقافية، أي بوصفهم جسرًا ثقافيًّا فقط. وبحسب ما سبق أن أشرت إليه في كتابي "المسيحيون في العراق: التاريخ الشامل والتحديات الراهنة"، لا يمكن تخيل الحضارة العربية الإسلامية من دون مسيحيين، وما كانت هذه الحضارة العالمية من دون المسيحيين لتستجيب على النحو الذي استجابت فيه للتحديات، التي واجهتها وهي في طور إمبراطوري يقوم على حكم شعوب وأديان مختلفة، من دون التفاعل مع هذه الثقافات! ولم يكن ممكنًا تقديم إنجازات نوعية على صعيد الفكر والفلسفة والعلوم والفن من دون دور المسيحيين، الذي جرى برأيي إغفاله أو التغاضي عنه لمصلحة نسخة انتقائية من التاريخ.
ومثلما وُصف القرن العشرون بأنه "قرن الإبادات"، فقد جرى وصفه أيضًا بأنه "قرن الأقليات"، أو -بشكل أكثر دقة- القرن الذي حظيت فيه الحاجة إلى توفير إطار قانوني لحماية الأقليات باهتمام غير مسبوق. وحتى وقت قريب، لم تكن الأقليات الدينية في الشرق الأوسط موضع اهتمام أكاديمي كبير، باستثناء بعض الأعمال الكلاسيكية للمؤرخين عن المسيحيين واليهود في المنطقة، والتي تمَّ معظمها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
لقد سيطر "البراديغم المهيمن" (النموذج الفكري المُتسلِّط) على الأدبيات التي تناولها المرسلون الغربيون والمغامرون والمستشرقون، وخاصة الذين لعبوا دورًا معادلًا لدور الأنثروبولوجيين والإثنولوجيين في القارة الأفريقية، ورسَّخ تصوراتهم من خلال فكرة المأساة والمعرفة للصدمة، أي بعبارة أخرى ركزت تلك الأدبيات على فترة محددة عصيبة مر بها المسيحيون في السنوات الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، في ظل مسارَين مُهمَّين للأحداث: مذابح المسيحيين الأرمن في شرق الأناضول، وتاليًا وبدرجة أقل مذبحة الأشوريين في عام 1933 في دولة العراق الفتية المستقلة عن الإمبراطورية العثمانية.
يبدو أن مسار الاهتمام بالمسيحيين ظل ملازمًا لهيمنة هذا "البراديغم" على معرفتهم، من خلال التحولات السياسية الإقليمية والدولية، حاجبًا اكتشافهم أو دراستهم، عبْر علاقتهم بمجتمعاتهم الشرق أوسطية الأوسع. ففي نهاية سبعينيات القرن الماضي ظهر حافز جديد على دراسة الأقليات الدينية في الشرق الأوسط، سيطر على تناول قضيتهم خلال ثمانينيات القرن الماضي، بفعل عامل جديد هو ثورة إيران 1979، وما حفزت عليه من بروز الإسلاموية في الشرق الأوسط، وبروز الإسلام باعتباره أيديولوجيا ثورية، وخميرة لتغيرات سياسية طويلة الأمد في العقود التالية. وأيضًا خلال حقبة التسعينيات التي شهدت مجازر وإبادات جماعية في البلقان (البوسنة والهرسك 1995، وكوسوفو 1999)، وفي أفريقيا (راوندا 1994، ودارفور 2003). وفي الحالة الأخيرة، خيم الصراع في السودان بين الجنوب المسيحي والشمال العربي المسلم، على تنميط العلاقة في صورة صراع إثنو طائفي انتهى بانفصال الجنوب المسيحي عام 2011.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انتقل الاهتمام بالأقليات الدينية في الشرق الأوسط إلى الصدارة، في ضوء عامل دولي هو أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2011، وما تلاه من انطلاق الحرب على الإرهاب، والتدخل الغربي في عراق متعدد الأديان؛ ما أثَّر سلبًا في وزن المسيحيين الديموغرافي، في ضوء موجة جديدة وواسعة من الهجرة والنزوح، وسلسلة من التطهير العرقي والإبادة الجماعية للأقليات الدينية في سوريا والعراق خلال السنوات التالية، لا سيما بعد أن جاء الربيع العربي ليفضح تخلخل ميزان العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العديد من دول المنطقة مثل: مصر، وسوريا، ولبنان والعراق.
واجه المسيحيون -أسوة بمواطنيهم المسلمين- خيارات معقدة وصعبة، في ظل تحولات عصفت بالشرق الأوسط، وحملت طابعًا عنيفًا أدى إلى نزوح وهجرة هائلة، لكنه حمل أيضًا مطالب جديدة ترافقت مع جذب للحماية الدولية، مُعيدًا تفسير الوجود المسيحي بوصفه وجودًا طارئًا في حاجة إلى الحماية والتدخل من راع غربي.
لذا، أصبح من الأهمية بمكان تقديم تحليل جديد لأوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط، وإثارة سؤال إعادة اكتشاف مكانة المسيحيين ودورهم في المنطقة، من منظور بعيد عن التسييس، وعن المعرفة للصدمة والبراديغمات المهيمنة على صورة المسيحي في الشرق الأوسط في الأدبيات ووسائل الإعلام الغربية، وعن معالجة بعض الأدبيات العربية ذات الطابع الغنائي والعاطفي. وعلى مسار مُوازٍ، ينبغي العمل على تغيير البراديغم المهيمن على دراسة المسيحيين، بوصفهم ضحايا سلبيين يعيشون تحت حكم الحديد والنار، مِن قِبَل أغلبية قوية أو أنظمة استبدادية إبادية.
إن التركيز حصريًّا على أوقات النزاعات الحادة، يُغْفل مساهمتَهم في بناء أوطانهم، وحقب التعايش السلمي التي عاشوها قرونًا، على نحو يغطي برماده مقاربة وجودهم ودورهم، ومسؤوليتهم التاريخية عن مستقبل المنطقة ما بعد الربيع العربي.