الأب جوزيف قزي "أبو موسى الحريري" إذ رحل - مقالات
أحدث المقالات

الأب جوزيف قزي "أبو موسى الحريري" إذ رحل

الأب جوزيف قزي "أبو موسى الحريري" إذ رحل

حسن منيمنة:

 

غيّب الموت، الأسبوع الماضي، الأب جوزيف قزي، رجل الدين واللاهوتي والباحث والمؤلف اللبناني، الذي ساهم في إنشاء جيل جديد من الكهنة ورجال الدين المسيحيين وفق منهجية تجمع الأصالة والحداثة، انطلاقاً من مقتضيات المجمع الڤاتيكاني الثاني والتراث المشرقي على حد سواء.

على أن للأب القزي كذلك مساهمات فريدة وخلافية في التطرّق إلى الموروث النصي الإسلامي والدرزي والعلوي، أنجز معظمها باسم مستعار هو "أبو موسى الحريري". ("الحريري" في نسبته إلى الحرير، هو نفسه "القزّي"، في النسبة إلى دودة القزّ التي تنتج الحرير).

مساهمات أبو موسى الحريري هذه ابتدأت بكتاب "قس ونبي، بحث في نشأة الإسلام"، الصادر عام ١٩٧٩، ثم توالت على أكثر من خط، أحدهما يتبع الكتاب الأول في منهجه ومبتغاه، أي مساءلة أصول الإسلام بأسلوب نقدي وإن كان ذاتياً وانتقائياً، فيما الخطوط الأخرى سارت، وفق توفر المواد وتعاقب الحوادث على ما يبدو، باتجاهات مختلفة في نشر المخطوطات والكتب الكاشفة لما هو مستور من الديانتين الدرزية والعلوية، بشروح وإضافات يمتزج فيها العلمي والأدبي، المحكم والمتشابه والمغالط.

يتوسع كتاب "قس ونبي" بمعالجة ما أوردته الأخبار عن ورقة بن نوفل، نسيب خديجة بنت خويلد، أولى زوجات نبي الإسلام، والذي «قرأ الإنجيل بالعبرانية»، ليجعل منه مسيحياً، بل ورقة بن نوفل هو "أسقف مكة"، الذي أقرّ للنبي دعوته ولكنه لم يُسلِم.

وليجعل من زواج النبي من خديجة زواجاً وفق الطقس المسيحي (حيث أن الرسول لم يتزوج أي امرأة أخرى طوال حياة خديجة)، ثم ينسج الكتاب التفاصيل المنتقاة ليضع ورقة في موقع المعلّم ومحمد في موقع المريد، فيعيد قراءة الرسالة من الدعوة لدين جديد إلى بشارة نصرانية أرادها لأهل مكة. غير أن المنية وافت ورقة، و"فَتُر الوحي" لدى محمد، وفق ما أوردته الأخبار المعتمدة، فأعاد المريد صياغة دعوة معلمه بحلّة جديدة لتصبح الإسلام كدين جديد.

الكتب الأخرى لأبو موسى الحريري، ضمن خط "قس ونبي"، وهي "عالم المعجزات، بحث في تاريخ القرآن"، ثم "أعربي هو؟ بحث في عروبة الإسلام"، فـ "نبي الرحمة وقرآن المسلمين، بحث في مجتمع مكة"، لا تلتزم بما توصّل إليه الكتاب الأول بالكامل، بل تخوض غمار مراجعة نشأة الإسلام، كل كتاب وفق منطلقات خاصة به. ما يجمعها أنها تلقي الشكوك على المسلّمات المعتمدة في التاريخ الإسلامي حول المرحلة الأولى من تشكّل الدين والدولة والتاريخ.

هذه الكتب، عدا أسلوب الحكاية الأدبية والذي نجح أبو موسى الحريري باعتماده، لا تأتي بالجديد من حيث المضمون، أي أن الإطار العام كما التفاصيل التي تطرحها سبق وأن وردت في كتب أجيال المستشرقين السابقة، بل فات أبو موسى الحريري بشكل عام الاستفادة من المراجعات التأريخية الغربية المعاصرة، في "مدرسة لندن" وغيرها. ولكنها كتب ذات مغزى، وذات معنى، وذات جدوى. والمقصود هنا ما أراده لها مؤلفها ابتداءً، ثم ما عاداه على أهميته وجسامته.

وبشأن هذا المقصود، ربما غير المصرّح به، قد يغيب عن القراء الطارئين لكتب أبو موسى الحريري، أن الأب جوزيف قزي أرادها لغيرهم، لقراء أصيلين، هم رجال الكنيسة، الخوري والشمّاس والراهب، ثم سائر أهل المشرق من المسيحيين في بلداتهم وقراهم، إذ هم في محيط خطابي مليء بما ينكر أساس إيمانهم، دون أن تكون لديهم وسائل المعارضة.

فمؤلفات أبو موسى الحريري، إذ تستخرج من المادة النصية الإسلامية ما يجعل من الإسلام دعوة نصرانية، أو ما يشير إلى تبدلات وتبديلات، وشك وردّة، في صميم التجربة الإسلامية في مرحلتها التأسيسية، تمنحهم ما يقابل إنكار الصلب والصليب والقيامة، ورفض ألوهية المخلص، لتأتي في سياق أدبيات المجادلات والمناظرات التاريخية. ليس المطلوب منها إثبات الحجة، بل إثارة ما يكفي من الأسئلة لتصبح رواية الخصم في موقع الدفاع.

هذا التأطير لكتب أبو موسى الحريري ليس تكهناً أو استقراءً استلحاقياً، بل هو مشاهدة عينية من كلية اللاهوت حيث كان الأب جوزيف قزي أستاذاً ومدرّساً، للطلبة، وجلّهم من غير المعنيين بأي سجال مع غير المسيحيين، يتلقفون قراءاته وأفكاره، بسعادة من أصبحت إمكانية الرد بيده، وإن كان الأمر نظرياً وحسب.

ثمة اختلاف واضح في الخصومة المسيحية الإسلامية بين لبنان ومعظم المحيط العربي، لصالح لبنان. المؤمنون الراسخون في إيمانهم هنا، مسيحيوهم ومسلموهم، متفقون على أن دينهم، لا دين الآخرين، هو الحق. وأن مصير هؤلاء الآخرين، ربما أو بالتأكيد، ليس الملكوت، ليس الجنة. ولكن، قبل أن تضاعف أخلاقيات وافدة من المحيط العربي بقضم بعض أطراف هذا السلوك اللبناني، كان هؤلاء المؤمنون متحفظين في العلن عن الطعن بدين الآخرين. باستثناء قلة عند الهامش، لا يزالون كذلك. وكأن في الأمر توافق ضمني على الإرجاء (دون أن تكون الكلمة مدعاة للاستيعاذ كما هو الحال لدى بعض الأوساط)، أي أن تترك المسألة والمساءلة للخالق، للدينونة، للساعة. لسان حالهم هو "إنك لا تهدي من تحب".

كُتُب أبو موسى الحريري جاءت خروجاً عن العرف اللبناني المتحفظ عن السجالات الدينية. ولكن حتى في خضمّ الانقسام المناطقي المتلوّن بالطائفية، في أعتى أيام الحرب في لبنان، لم تشهد هذه الكتب رواجاً واسع النطاق، بل ربما اقتصر بيعها على مكتبة خاصة واحدة، دون أن تتوفّر نسخها حتى في المكتبة الجامعية لكلية اللاهوت حيث درّس الأب جوزيف قزّي.

ويكاد واقع الحال المسيحي اللبناني يومها أن تعامل معها وكأنها "واجب كفائي"، حسناً أنها موجودة، وحسناً أنها محدودة الانتشار.

في خضمّ حروب لبنان، جاءت طروحات الأب جوزيف قزّي، وما تماهى معها أو بنى عليها، لتساهم في تنشيط حركة مراجعة فكرية وتاريخية ذات أبعاد سياسية ساعية إلى رسم معالم للبنان المتميّز عن محيطه، تتقاطع مع فكر سعيد عقل ومي المر ووليد فارس، وتظهر جلياً في مواقف مصطفى جحا، ولا سيما في كتابه "محنة العقل في الإسلام".

يذكر هنا، لا استطراداً بل لإيفاء الحق، أن مصطفى حجا مات شهيداً لحرية الفكر والتعبير. يمكن بالطبع ملاحظة الزخم الذاتي، بل الأهوائي، في هذا النتاج الفكري من القزّي إلى جحا وما بينهما، دون أن توهن هذه الملاحظة قيمة المغامرة الفكرية المتحصلة.

وفيما يتعدى الوقائع الآنية إلى التاريخ العميق، فإن كتب الأب حوزيف قزّي تندرج بمجملها في إطار الأدب المسيحي العربي، بشقّه السجالي، بالإضافة إلى اعتبارها مادة أولية مفيدة لمتابعة تطور المنهجيات الفكرية المعتمدة لدى الكهنوت المشرقي.

والمناظرات التي حفظها التاريخ، بحكم طبيعتها، ثرية في إفحام الخصم وفقيرة في الإقرار له بقوة الحجة، ليقترب أدب المناظرة، بما يلامس الإطلاق، من الرواية المنحازة ويبتعد عن التوثيق المحايد. لا خروج عن هذه القاعدة لدى أبو موسى الحريري.

والرواية في نص أبو موسى الحريري يعزّزها اللجوء المتكرر إلى صيغة المتكلم، حيث المتكلم، في أحيان عديدة، مسلم (أو درزي أو علوي) ساءه السكوت عمّا تبين له من حقيقة دينه. هل هي ميزة بيانية أم تدليس مغرِض؟ يختلف الجواب باختلاف القارئ.

وربما أن الحصيلة الفكرية للأب جوزيف قزي هي كذلك معارضة لتلك التي خلّفها الأب يوسف درّة الحداد. كلاهما سعى إلى التفاعل مع الموروث النصي الإسلامي.

الأب الحداد، في زمن التقريب والوحدة، شاء انتقاء ما يتوافق مع الإيمان المسيحي في هذا الموروث والبناء عليه كقاعدة مشتركة بين الديانتين. هو مسعى متفائل لم يعمّر طويلاً. أما الأب جوزيف قزّي، فبواقع زمانه وبحال مجتمعه، جاء سعيه أكثر تشاؤماً، منغلقاً إزاء الآخر المسلم، وهادفاً حتى عند استنطاقه، مخاطبة الذات المسيحية وتحصينها.

كُتُب أبو موسى الحريري هي هنا شهادة على واقع اجتماعي ثقافي لبناني من صلب زمن الحرب، في المواجهة المستمرة على مدى القرن من تاريخ لبنان الكبير، بين الخصوصيات الطائفية والطروحات الجامعة.

كثيرون من شبان لبنان وشاباته، في ذاك الجيل السابق للحرب، كانوا يضعون المصاحف والصلبان في قلادة واحدة حول أعناقهم. «لا يجوز» قال لهم بعض أوليائهم. غير أن زواج المصحف والصليب عند الأعناق لم يكن لغرض البدعة أو الهرطقة، ولا للتعدي على أي إيمان، بل كان لغرض الإشهار بأنه ثمة روح واحدة، لبنانية، لجيل واحد، لبناني، جاءت الحروب لتنفيه، بمعنى الإقصاء كما بمعنى الإفناء، أو ما يقترب منه يومها.

في موازاة هذا النَفَس اللبناني الجامع، كان ثمة خوف متبادل. لدى بعض المسيحيين بأن يضعف حضورهم وتضيع خصوصيتهم أمام إسلام متسامح في ظاهره، عاجز عن التسامح في باطنه. ولدى بعض المسلمين بأن يتراجع الاعتزاز بالدين أمام تغريب يستقدمه المسيحيون، عمداً أو عن غير عمد.

ربما أن القيمة الحقيقية التي يقدمها لبنان هي أنه لا يمكن محو أي من الواقعين: لبنان المجتمِع، ولبنان الخائف، بل لربما لا يجوز محو أي منهما، وأن السبيل قدماً هو في إيجاد صيغة للتعايش بينهما.

فقد يكون الأقرب إلى الصواب اعتبار أن خطوط التماس في هذا اللبنان المنهك بأمسه وحاضره ومستقبله ليست بين مسلميه ومسيحييه، بل بين المطمئنين من هؤلاء وأولئك أن إيمانهم لا يتراجع باجتماعهم، ومن يخاف من هؤلاء وأولئك ضياع هويته الدينية أو دينه ذاته نتيجة عدوان الآخرين. ينضم إلى من يريد الاجتماع اللبناني من لا يرى الدين أو الطائفة أساساً أولاً يبنى عليه الاجتماع. و ليس لهذا الفريق الأخير أي أغلبية عددية، ولكنه كان ولا يزال حالة ملازمة على مدى القرن اللبناني.

دون شك، الأب جوزيف قزّي كان من الفريق الخائف. "سلسلة الحقيقة الصعبة" والتي جمعت كتبه سعت إلى تأصيل هذا الخوف في التاريخ وفي عقيدة الآخرين. ومع احتدام حرب الجبل، وما صاحبها من مجازر في أواسط الثمانينيات، خلعت هذه السلسلة قميص البحث والفكر وارتدت ثياب التعبئة الفئوية الصريحة، فكان كتاب "السلوك الدرزي" المرتبك إلى حد الإهانة، وكانت إعادة نشر أخبار مذابح القرن التاسع عشر. وهي، في انحدارها، هنا أيضاً شاهد على أزمة زمنها.

بعض الكتاب المسلمين قد عمل على تفنيد طروحات أبو موسى الحريري، غير أن ردودهم جاءت سجالية طاعنة، رافضة من حيث المبدأ لما يشكلّه نتاج أبو موسى الحريري في نظرهم من تعدٍ على الدين ومسلماته.

يمكن التعليق على هذه الردود من وجهين، الأول هو أنها تختلف في خطابها ومنهجيتها عن تلك التي اعتمدها صاحب "الحقيقة الصعبة". فهو كان روائياً أخرج قصة إجمالية بديلة، فيما هذه الردود تريد لنفسها العلمية، غير أن علميتها إيمانية الأصل، أي غير متوافق عليها، منشغلة بالجزئيات.

ومع تحدي كل جزئية تعلن سقوط الرواية البديلة، فيما هذه الرواية قائمة على تضافر الظن، لا على اليقين بكل تفصيل. وأبو موسى الحريري زعم الكلام من داخل إيمان الآخرين لفضّه، فيما هي تشهر الإيمان تقريراً، أي تلزم خصمها بما ليس هو عليه، ولا تقرّ له باستعماله الرمزي للإيمان. لا حوار هنا بينها وبينه، بل مواقف تسجّل لأصحابها وحسب.

لا تقترب كتب أبو موسى الحريري عن نشأة الإسلام من المناقشة المتشعبة في الغرب حول "يسوع التاريخي"، لا من حيث الإحاطة بالمعطيات النصية ولا من حيث اختبار المنهجيات، ولكنها، سواء كانت هذه رغبة الأب جوزيف قزي الصادقة أم لم تكن، تشكل على قصورها وتقصيرها فتحاً إضافياً لباب النظر والاعتبار حول "محمد التاريخي".

ثمة محاولات أخرى في هذا الصدد، منها الصادق ومنها الأقل صدقاً، منها ما يتوقف عند النص، ومنها ما يستشف إمكانية الزيادة عليه.

ليت رصيد الأب جوزيف قزي يكون في هذا الاتجاه، إذ ثمة فائدة عامة في الشروع المتّزن المحترم القائم على إحسان الظن وصفاء النية بقراءات يشارك فيها المفكرون من مختلف الاتجاهات والقناعات حول كافة أوجه الرصيد الإنساني المشترك، ولا سيما منها تلك التي أسست للمنظومات الإيمانية.

الأب جوزيف قزّي كان صادقاً بالتأكيد في خوفه وفي الدفاع عن إيمانه. من شأن المطمئن ممن خالفه الإيمان أن يقدّر له ذلك، وأن يبني على مغامراته، مهما كانت أهوائية، للسير بمغامرات أخرى، صادقة غير مدلّسة، نحو الاستفادة من الموروث الفكري الكبير، الإسلامي والمسيحي وما يتعداهما. طابت ذكرى الأب جوزيف قزّي، سواء باسمه أو باسم أبو موسى الحريري، إذ رحل.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث