كيف أثقل النبي المعصوم كاهل الإسلام؟ - مقالات
أحدث المقالات

كيف أثقل النبي المعصوم كاهل الإسلام؟

كيف أثقل النبي المعصوم كاهل الإسلام؟

موسى برهومة:

 

لا تخرج تصريحات المتحدثة باسم حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي الحاكم في الهند، نوبور شارما، بخصوص النبيّ محمد والسيدة عائشة، عن إطار المماحكات الحزبية والانتخابية التي تستبطن كراهية أو ضيقاً بالمسلمين في الهند، والذين يُقارب عددهم 195 مليون مسلم (حسب تعداد 2020).

وكانت تعليقاتها، التي أيّدها عضو بارز آخر في الحزب، قد جاءت في نقاش تلفزيوني حول مسجد جيانفابي، إذ يدّعي الهندوس، كما ذكرت "بي بي سي"، أنّ المسجد الواقع في مدينة فاراناسي قد بُني على أطلال ضريح هندوسي يعود إلى القرن السادس عشر كان قد دُمر عام 1669، ويطالب بعض الهندوس الآن بالسماح لهم بالصلاة داخل المسجد.

وظهر في مقطع فيديو سمحت المحكمة بتصويره داخل المسجد ما يقول بعض الهندوس إنه رمز الإله "شيفا"، لكنّ سلطات المسجد تقول إنها نافورة مياه.

وأوضحت شارما، على حسابها على موقع "تويتر"، إنها قالت تصريحاتها، التي مسّت النبيّ محمد، والتي اعتذرت عنها، رداً على "تعليقات مُهينة لواحد من الآلهة عند الهندوس".

كلام شارما لم يأتِ في سياق نقدي هدفه الدعوة إلى إصلاح التعاملات مع المرأة في الأديان، وإنما جاء جزءاً من الاستثمار المذهبي الذي تأجّج في الهند منذ استلام حزب بهاراتيا جاناتا الحكم، وهذا كما يقدّر مراقبون، سيجلب على الهند متاعب لا حصر لها.

ولو كانت تصريحات شارما عن "زواج النبيّ بعائشة وهو في الثالثة والخمسين، وهي في السادسة.." جاءت في سياق بحث علمي، أو دراسة مُحكّمة، أو مقال منزّه عن أعراض السياسة ونزعاتها ونزاعاتها، لأمكن التعاطي معه بشكل مغاير، باعتباره حقاً يبتغي صاحبه أو صاحبته السؤال، والتفكير في المصائر البشرية كما تجلّت في الأديان والنصوص المقدسة.

الموضوع، الذي خوّضت فيه نوبور شارما، شائك وملتبس، ومتنازَع عليه تاريخياً، لا سيما فيما خصّ سنّ السيدة عائشة حينما اقترن بها النبيّ؛ حيث تزوجها "وهي بنت ست، وبنى بها وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة" كما روى البخاري ومسلم عن عائشة نفسها، وهذا أمر شغل الباحثين والمؤرخين والفقهاء، فتنازعوا، وما انفكّوا، على تحديد السنّ برفعه، وبتبرير السياق التاريخي الذي حدثت فيه الواقعة، إن صحّت، جرياً، كما يقال على عادات العرب القدماء الذين كانوا يزوّجون بناتهم وهنّ صغيرات، وهذا أمر، أيضاً، لا تُجمع عليه الروايات، ويدحضه بعضها!

كان من المتوقع أن تأتي الهجمة على المسؤولة الهندية ساخطة وعاصفة، وتؤدي إلى إقالتها من منصبها، وربما تقود في الأيام المقبلات إلى ما هو أشدّ وأنكى، بسبب حساسية الموضوع، وتشكُّل روادع وسواتر قاسية وعالية في الوعي الإسلامي، تحُول دون نقد النبيّ أو تشخيصه، أو مجرد الإيحاء، رسماً وتعبيراً وخيالاً، بما يؤدي إلى تحطيم الهالة القدسية التي أنتجها ذلك الوعي وتغذّى على معانيها الرمزية، وما يزال.

الغاضبون الهادرون الرافعون الشعارات المألوفة ذاتها "إلا رسول الله" لا يساجلون أو يجادلون. إنهم وحسب يهدّدون ويتوعّدون، ما يعني أنّ عقل الأشياء في هذا الاحتدام أمرٌ صعب إن لم يكن مستحيل المنال.

ولو كانت الصورة بخلاف ما تأسس عليه الوعي الإسلامي، لكانت الغضبة أقلَّ وطأة، ولغدا المسلمون أقربَ إلى التسامح والتفهّم، وربما القبول بأي رأي أو مقاربة تتحدث عن النبيّ البشريّ، الإنسان، الآدميّ، غير المعصوم عن الخطأ، وغير المحاط بالهالة التي يوشك المقترِب منها أن يُهدَّد بالويل والثبور وعظائم الأمور.

هل النبيّ معصوم، بل هل أراد النبيّ أن يكون معصوماً، أم أنّ ذلك صنيعة المحدّثين والفقهاء الذين ما يزالون يتناسلون ويشكّلون "طبقة" عابرة للأزمان؟

ثم ما معنى العصمة، ما دام النص التأسيسي قد أورد قصصاً عن الأنبياء تثبت أخطاءً اقترفوها، وعاتبهم الله عليها، وزجر بعضهم أحياناً، كما فعل بالنبيّ نوح في آية هود: "ونادى نوح ربه فقال رب إنّ ابني من أهلي، وإنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، فلا تسألني ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين".

وثمة عرض، في سورة الأعراف، للنبي موسى، وهو في أشد حالات الغضب والنقمة: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسِفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي، أعَجِلْتم أمر ربكم، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين".

وفي حكاية النبيّ يونس، في سورة الصافات، يتجسد لوم إلهي ليونس؛ لأنه لم يصغِ إلى كلام جبريل وخرج مغاضباً للتعليمات الربانية: "وإن يونس لمن المرسلين إذ أبِق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحَضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون".

وما يؤكد أخطاء الأنبياء ما صدر عن أوّلهم وأبي البشرية جمعاء، آدم، بحسب السردية الدينية، وفق سورة طه: "وعَصى آدمُ ربَّه فغَوَى" عندما خالف أمر ربه، فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدّى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها.

وتروى عن النبيّ محمد أنه أخطأ في تدبير شؤون عيشه غيرَ مرة، لعل أبرزها ما حدث مع الأعمى عبد الله بن أم مكتوم، وهو ابن خال زوجة النبيّ خديجة، الذي أتى مجلس النبيّ وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأبياً وأمية ابني خلف، ويدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، فقام ابن أم مكتوم وقال، كما يروى عن حديث عائشة: يا رسول الله علّمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكرر النداء، ولا يدري أنّ رسول الله منشغل مقبل على غيره، لأنه يعتبر أنّ الأولوية لهؤلاء وليس لابن أم مكتوم الذي ضمِن النبيّ إسلامه.

وفي معرض أخطاء النبيّ، ما رواه أنس بن مالك، وذكره مسلم، أنّ النبيّ "مرَّ بقومٍ يُلقِّحون (النخل) فقال: لو لم تفعلوا لصلَح، قال فخرج شِيصاً (تمراً رديئاً). فمرَّ بهم فقال: ما لنخلِكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم). وفي رواية عن طلحة بن عبيد الله، ذكرها مسلم أيضاً، أنّ النبيّ قال: "إن كان ينفعهم ذلك فلْيصنَعوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّاً، فلا تؤاخذوني بالظنِّ، ولكن إذا حدَّثتُكم عن الله شيئاً فخُذوا به، فإني لن أكذبَ على الله عز وجل".

وكشأنهم في المنعطفات التفسيرية، انبرى الفقهاء، جلّهم، في التزيّد والإطناب في مقاربة عصمة الأنبياء، وبخاصة النبيّ محمد، فقرّ غالبيتهم على أنّ الأنبياء قد يقعون في الخطأ، لكنهم معصومون عن الاستمرار فيه، ثمة من قال في "العصمة القلبية" و"العصمة العقلية" أو "العصمة القرآنية" و"العصمة الكلامية".

وإن كان الأنبياء غيرَ معصومين عن ارتكاب الأخطاء في الشؤون العامة والأمور البشرية؛ كالعبوس في وجه سائل جاء يتزوّد من العلم، أو قوم يلقّحون النخل، لكنهم كما ذكر أحد الدعاة معصومون عن "الشِرك والكبائر" وعن "التبليغ"، بمعنى لا يقصّرون في أداء رسالاتهم، وكذلك هم معصومون عن "خوارم المروءة" أي عن أي شيء يمسّ الشرف والنزاهة كالسرقة، أو ما يُصنّف في إطار "العيب".

ما يضير النبيّ هو هذا التقديس المفرط الذي يقارب الألوهة، لأنّ من شأن الإصرار على هذه الألوهة أن يمنع الهواء من أن يتسرب إلى مسام هذه الشخصية التي يريد لها العقل الفقهي السلفي أن تكون مستغلِقة، لحمايتها من النقد، وتنزيهها عن أفعال البشر العاديين، وهذا بمثابة "فخ" نصبه الفقه ووقع فيه

وتروى في السياق المدلِّل على عدم عصمة الأنبياء، ما روي عن النبيّ محمد، وأكده الفقهاء: "اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سبَبتُه أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة"، بالإضافة إلى قوله في حديث رواه الترمذي وابن ماجه: "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون".

جملة القول، بناء على ما تقدّم، إنّ بشرية النبيّ لا تضيره في شيء، ولا تقلل من تأثيره العابر للقرون كقائد روحي استطاع أن يجمع قبائل متناثرة تحت راية دولة أضحت إمبرطورية شملت حدودها، خلال مائة عام، أكثر من نصف البقعة الجغرافية في العالم.

ما يضير النبيّ هو هذا التقديس المفرط الذي يقارب الألوهة، لأنّ من شأن الإصرار على هذه الألوهة أن يمنع الهواء من أن يتسرب إلى مسام هذه الشخصية التي يريد لها العقل الفقهي السلفي أن تكون مستغلِقة، لحمايتها من النقد، وتنزيهها عن أفعال البشر العاديين، وهذا بمثابة "فخ" نصبه الفقه ووقع فيه، لأنه لم يعد قادراً على "تبرير" أفعال النبيّ "المقدس"، "المعصوم"، "اللابشري"، وهي أفعال تتصل بحياة النبيّ الخاصة، على وجه التحديد.

ما عاد بمقدور العقل النقدي (الشكّاك أصلاً) أن يتقبل السردية التي يتم بها تبرير عدد المرات التي تزوج بها النبيّ، أو عدد الجواري أو مُلك اليمين اللواتي تعامل معهن، ولا كيف ارتضى أن يتزوج زوجة ابنه بالتبنّي، أو سوى ذلك من وقائع تستوي للفهم إنّ قيّض للنبي أن يكون بشرياً، ذا نزعة وشهوة، غيرَ معصوم بإطلاق، وغيرَ محاط بأغلال التقديس التي سجنته من حيث قدّرتْ أنها تحميه وتصونه.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث