المرأة والولاية العامة.. مأزق التجديد - مقالات
أحدث المقالات

المرأة والولاية العامة.. مأزق التجديد

المرأة والولاية العامة.. مأزق التجديد

محمد المحمود:

 

أكبر مأزق تواجهه محاولات التجديد في الخطاب الإسلامي أنها تنطلق من أرضية مشدودة إلى التقليد السلفي؛ في الوقت الذي تحاول فيه البحث عن منافذ جزئية/ هامشية، تضعها على خط التواصل مع آفاق المعاصرة. إنها محاولات يائسة؛ تريد أن تجد في الماء المُتجمّد جَذْوة نار تستدفئ بها من برودة الحصار الحضاري الذي بات يفرض عليها تحدياته الكبرى؛ فتقع في سلسلة طويلة من التناقضات والاضطرابات التي تفقدها القدرة على الإقناع، ولو في حدوده الدنيا؛ بينما هي ـ في مسار خطابها ـ ليست أكثر من "محاولة إقناع" دعوية، تؤكد صلاحية الشريعة/ الدين لكل زمان ومكان

لم يعد المتلقي اليوم كما كان من قبل؛ يقنع بالفتوى العابرة من هذا أو ذاك، لمجرد فرضية الثقة بـ"مرجع التقليد". انتشار التعليم، وارتفاع مستوياته، وزيادة وتنوع وسائل التواصل الإعلامي والثقافي، جعلت كل الأفكار ـ ومنها الفتاوى والآراء الشرعية/ الدينية ـ تتعرض لعواصف جدلية من المحاكمات والمماحكات التي تشترط ـ ضمنيا ـ مستوى من "المعقولية" التي تستلزم الاتساق/ التلاؤم مع شروط الفاعلية في الحياة المعاصرة من جهة، كما تشترط ـ في الوقت نفسه ـ الاتساق/ الانتظام الاستدلالي مع مقررات المرجعيات المعتبرة؛ من جهة أخرى.

وإذا كان هذا يعم جميع القضايا الدينية المطروحة، فإن من أعظم التحديات/ المآزق التي واجهها الخطاب الإسلامي ـ على اختلاف تنويعاته ـ في هذا العصر، التحديات والمآزق المتعلقة بقضية المرأة التي دخلت في صلب جدلية التحديث منذ بدأ العرب/ المسلمون التعرّف على الغرب/ الحضارة الغربية أوائل القرن التاسع عشر تقريبا.

إن قضية المرأة تُشكّل محورا مركزيا لقضايا كثيرة، تتجاوز خصوصية المسألة النسوية إلى ما وراء ذلك ـ وما قبله ـ من علائق في المعرفي والواقعي، وذلك لأسباب/ دواعي كثيرة، أهمها ما يلي

1ـ أنها إشكالية نافذة إلى أعمق أعماق المجتمع، لا في بعض جزئياته/ شرائحه، وإنما فيها جميعا. إنها تختلف ـ مثلا ـ عن إشكالية الفقر، أو إشكالية الهجرة، أو إشكالية اللاجئين، أو إشكالية الحروب...إلخ، فهذه الإشكاليات تتعلق أصالة، بالواقعين في حبائلها بشكل مباشر أو غير مباشر. بينما تقع شرائح اجتماعية كثيرة، وربما دول، خارج نطاق التحديات المتعلقة بهذه الإشكاليات. فثمة مجتمعات ليس فيها فقر حاد، أو لا يشكل الفقر تحديا جديا، وثمة مجتمعات ليس فيها مهاجرون، وأخرى لا تعاني من حروب...إلخ، ولكن، لا يوجد مجتمع إلا وإشكالية المرأة تخترقه على نحو أفقي، إذ المرأة حاضرة في كل تفاصيل الاجتماعي، من أصغر وَحَداته: الأسرة، إلى سائر وحداته الأخرى، التي تنتهي بالمنظمات الدولية العابرة للحدود

هذا يعني، أن أي تأزم أو اضطراب يمس وضع المرأة في مجتمع ما، فإنه يمس وضعها ـ في كل تفاصيل الاجتماعي ـ داخل ذلك المجتمع. وفي المقابل، تمس الحلول والتطورات الايجابية كل ذلك بالضرورة؛ مخترقة ـ بمستويات مختلفة ـ كل الحواجز الحقيقية والوهمية. ثم هي (أي التأزمات أو الحلول) بعد ذلك، لا تُغيّر من واقع المرأة فحسب، بل تُغيّر ـ بالتبع وبالأصالة ـ واقعَ الرجل أيضا، من حيث هو أحد مكونات المجتمع التي ترتبط بالمرأة في كل مستويات حضورها الواقعي؛ فضلا عن حورها الرمزي الطاغي.

2ـ أن المرأة ـ في تحقّقاتها الواقعية وفي تمثّلاتها الرمزية، تُعدُّ مَحَكاً لكثير من الإشكاليات المجتمعية الأخرى التي قد تبدو غير ذات علاقة ـ مباشرة ـ بالمرأة. فالمرأة، ومنذ أقدم العصور وإلى اليوم، تمحورت حولها معظم شبكات العلائق المجتمعية التي خلقت منظومة الأعراف والتقاليد التي تحكم الواقع الحياتي في مجتمع ما. ومن هنا، فإن أي تغيير في مسار الفعل النسوي في الواقع، يعني ـ بالضرورة ـ متغيّرات في منظومة الأعراف والتقاليد؛ والعكس صحيح

ولهذا نرى أن الحضور الإنساني الفاعل/ الحر في مجتمع ما، هو "عنوان" تطوره/ تقدمّه، وأن المجتمعات تتطور/ تتقدم؛ فيما مؤشرات تنامي حضور المرأة ـ كفاعل أصيل في الشأن العام ـ تتصاعد. فحتى في المجتمعات الغربية الحرة، كانت حقوق المرأة تجد طريقها إلى التمثّل القانوني والمجتمعي في مسار تقدّم وتطور حقوقي ومجتمعي أعم/ عام.

3ـ القائمون على تكييف "وضع المرأة" في المستويين: الواقعي والرمزي، ومنذ أقدم العصور، هم ـ في الغالب الأعم ـ رجال. مَن حكموا واقعَ المرأة تاريخيا، مَن وضعوا الأعراف والتقاليد، مَن كتبوا الشرائع والقوانين، هم رجال. ومِن الطبيعي في مثل هذه الحال، أن يكون "الواقع المحكوم" و"التقاليد والأعراف" المُوَجّهة، و"الشرائع والقوانين" النافذة...إلخ تندفع في اتجاه واحد، هو: تعزيز سلطة الرجل، وتأكيد هيمنته المطلقة، لا في الفضاء العام فحسب، بل في كل مجال، حتى في أخص خصوصيات النساء

هذا يعني أن المساس بواقع المرأة، من حيث ترتيب صور العلاقة بينها وبين الرجل، أو حتى فيما يخص تحرّرها الخاص، يمس ـ وعلى نحو حاد ومباشر ـ سلطات الرجل (التي يتمثّلها كاستحقاق تاريخي، بل كاستحقاق طبيعي بيولوجي)، وموقعه كفاعل حيوي، مُؤمن بأولويته/ بتفوقه، لا في مدى السلطات/ العلاقات العامة في المشترك الاجتماعي، بل حتى في العلاقات التفاعلية الخاصة بين النساء والرجال كأنداد، تلك العلاقات التي ينحو التوجّه الذكوري ـ الصريح والمضمر ـ لتحويلها من "علاقة أنداد" إلى "علاقة أسياد"، ثم إلى "علاقة استعباد/ اضطهاد". 

وهنا لا بد من أن نأخذ في الاعتبار أن ما يقع في مسار المشترك الاجتماعي العام (الوظائف العامة الكبرى)، ينعكس ـ بالضرورة ـ على الاجتماعي الخاص (داخل الأسرة/ العائلة/ القبيلة)، والعكس صحيح ـ إلى حد كبير ـ؛ في معظم الأحيان.

4ـ لا بد من أن نتذكّر دائما أن المجتمعات العربية/ الإسلامية مجتمعات تقليدية، بل هي لا تزال مجتمعات بدائية في صميم وجودها؛ كما هي تقليدية/ بدائية في صميم تصوراتها العامة. فرغم كل صور التطوّر التي طالت "القشرة المادية"، لا تزال هذه المجتمعات تعيش وعيها؛ كما ورثته من أسلافها قبل قرون، وبعضها غائر في أعماق تاريخ سحيق. ومن حيث هي كذلك، فهي لا تزال تتمحور حول عادات وتقاليد وأعراف بالية، يجمعها ـ كمنظومة قِيَم ـ أنها مُعادِية ومُعَاندة ـ في مستوى توجّهها العام ـ لتيار الحياة الصاعد تحرّرا، الصاعد تأنسنا: الصاعد تقدّما

إن فهم هذا الواقع/ الحال التي عليها المجتمعات العربية/ الإسلامية، يعني فهم حقيقة أن واقع المرأة، كما هو واقع التصورات النمطية عن المرأة، جزء أصيل (أصيل له طابع عمومي شامل) من هذا الواقع. ويستحيل إحداث أي تغيير إيجابي حقيقي في مسارات التقدم: التحرر الإنساني الذي من شأنه أن ينقل هذه المجتمعات من وضعها البدائي  البائس إلى وضع أفضل أو أقل بؤسا؛ ما لم يحدث تغيير إيجابي حقيقي في مسار تغيير وضع المرأة، ومن قبلُ، في مسار التصوّرات النمطية عن المرأة؛ بوصف التحرر من "العُقَد التقليدية" المرتبطة بالمرأة يعني تحرّرا النظام المركزي لـ"العُقَد التاريخية" التي لا تزال تشد هذه المجتمعات إلى القاع

هذه ـ وفق تصوري ـ هي أهم الأسباب أو المحاور التي تُسْهم في تحويل مسألة المرأة من مسألة محدودة بحدود نسويتها، وبحدود ظرفها التاريخي، إلى مسألة حضارية، مسألة تدخل في صميم عملية التحضّر/ التقدّم الإنساني. وأية مقاربة لأية إشكالية نسوية معزولة عن هذه الأسباب/ المحاور يعني فقرا في تصوّر أصول الإشكالية وتحولاتها ومآلاتها، وموقعها في التاريخ العام والخاص.

إن المعضلة الحقيقية أن هذه الأسباب، ورغم وضوحها وتكرّر الإشارة إليها والتأكيد عليها ـ بأساليب شتى ـ عند كثيرين؛ إلا أن خطاب التجديد الإسلامي بمجمله (التجديد الصادق، أو الانتهازي/ الظرفي) لا يزال جاهلا بها أو متجاهلا لها. والسبب ـ جهلا أو تجاهلا ـ يعود إلى محاولة الجمع بين المتناقضات بطمسها أو تعويمها؛ ابتغاءً للسلامة في المعاش من جهة، واعتقادا بالصوابية المطلقة لجهود الأسلاف من جهة أخرى.

ربما تكون "ولاية المرأة"، هي من أشد التحدّيات التي تُوَاجه هذا الخطاب الحائر، الذي لا يدري ماذا يريد، ولا كيف يصل إلى ما يريد؛ فيما لو عرف ما يريد. والمقصود بـ"ولاية المرأة" هنا، هو توليها للمناصب الكبرى، من "الخلافة/ رئاسة الدولة"، إلى الولايات الأصغر، من مناصب وزارية/ تنفيذية أو قضائية، وصولا إلى تفريعات هذه الولاية في المناصب الأقل عمومية. والمعروف أن الخطاب الإسلامي في عمومه لديه نفور شديد من دخول المرأة إلى الفضاء العام، ولديه نفور أشد من تولي المرأة لمناصب عمومية (أي مناصب تُدِير فيها المرأةُ الرجالَ والنساءَ على حد سواء)، وينعقد إجماعه ـ وخاصة في خطه السلفي التقليدي ـ على "تحريم" تولي المرأة للمناصب العامة الكبرى، كالوزارات والقضاء، ويكاد ينعقد إجماع الجميع (من سلفيين تقليديين وسلفيين مُتأسلمين مستنيرين !) على تحريم أن تتولى المرأة "الولاية الكبرى"، أي المنصب الذي لا ترجع ـ أمْرًا ونَهْياً ـ فيه لأحد: الخلافة/ رئاسة الدولة في الإسلام.

لكن، لماذا انعقد هذا الإجماع (طبعا، الاجماع وَهْمي، والمقصود هنا: الغالبية العظمى من مُتَفقّهي الإسلام) على تحريم "الولاية العامة" للمرأة ؟. طبعا، الأسباب والبواعث الضمنية/ الخفية، كثيرة، وليس هذا مجال تفصيلها، ولكن، منطقهم العلني/ الاستدلالي يدور حول حديث منسوب للنبي الأعظم ـ ص ـ وردَ في "البخاري"، كما ورد في غيره، ونصّه: " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ". 

هنا مأزق الخطاب الإسلامي، الذي يطرح نفسه كخطاب تجديدي/ انفتاحي؛ بينما هو خطاب تقليدي/ انغلاقي بامتياز. أما الخطاب التقليدي الجامد الصريح في سلفيته؛ فلا مشكلة لديه هنا، إذ يقول بكل صراحة: الحديث/ النص ثابت، والدلالة واضحة، ومستقرة؛ وفق آليات الاستدلال التقليدية (أصول الفقه)، ما يعني أن تولي المرأة المناصب الكبرى حرام. وهذا الخطاب لا يهمه هنا أن يوصم بالجمود أو تحقير المرأة...إلخ، إذ ينطلق من وُثوقيّة أصولية متعالية على الواقع، فيقول: هذا هو مراد الله، وعلى جميع المؤمنين الرضا بمراد الله؛ ومَن لا يرضى فهو كافر !  

بينما الخطاب الإسلامي الذي يحاول طرح صورة عن الشريعة أكثر تسامحا/ انفتاحا، وأكثر إنسانية، يقع في مأزق مزدوج: من جهة، هو يُثْبِت النص؛ لأنه يُقدّس البخاري، وكل ما ورد في البخاري فهو صحيح (رغم أن راوي هذا الحديث في البخاري هو: أبو بكرة، وهو ـ في قضية معروفة ـ لا تقبل له شهادة أبدا). ومن جهة أخرى، فآليات الاستنباط (= أصول الفقه) التاريخية/ التقليدية، هي ـ في نظره ـ المعتبرة في إنتاج الدلالة. ومع هذا، يحاول تخصيص الحديث بمناسبته (ابنة كسرى)؛ رغم  أن نص الحديث تضمن "نكرة" في سياق النفي (قال: قوم، ولم يقل: القوم، وقال: امرأة، ولم يقل: المرأة)، ما يعني: أي قوم، وأية امرأة. هذا فضلا عن الأصل الفقهي التقليدي: عموم اللفظ وخصوص السبب.

إذن، مِن داخل دائرة الوعي التقليدي، لا مخرج من كون تولي المرأة الولاية العامة/ الكبرى حراما. أي، إذا كنتَ تقول: كل ما ورد في البخاري صحيح، وتقول: أصول الفقه كما وضعها الأسلاف هي الصحيحة/ المناسبة لإنتاج الدلالة/ الأحكام؛ فلا مناص أن تقول بالتحريم. والقول بالإباحة في مثل هذه الحال تناقض؛ يعجز عن إقناع أبسط المعنيين بالخطاب الشرعي/ الإسلامي.

لهذا، فالحل المُجدي/ التجديد المقنع المثمر، هو الذي يُعِيد مُسَاءلة أصول الروايات من جهة، ويُعِيدُ إنتاج آليات الاستدلال من جهة أخرى. فثمة تطورات معرفية مذهلة في مقاربة النصوص وفي إشكاليات التأويل؛ لا بد من أخذها بالاعتبار، والاستفادة منها من حيث هي آخر تطورات المعرفة في هذا الشأن، وبالتالي، هي الأكثر ملاءمة لعصرنا، وبواسطتها، يكون التجديد مُرتبطا بأفق هذا العصر، وليس مأسورا إلى أفق عصر آخر لم تكن آليات الاستنباط/ المقاربات التأويلية تسمح له بأكثر مما فعل وقدّم في هذا المجال

وخلاصة القول في مسألة تجديد الخطاب الإسلامي، أن ثمة مهمة صعبة/ جذرّية أمامنا؛ لإعادة تشكيل "العقل الفقهي" في الإسلام، وبدونها، سنبقى ندور في حلقات مفرغة؛ لا ننتهي إلا إلى حيث بدأنا، في مسار استنزاف متواصل، ينتهي بالإحباط المتكرر، سواء في سياقنا الدنيوي/ الحياتي؛ أو في سياقنا الديني/ الروحي.  

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث