هشام ملحم:
دانت معظم الدول الغربية والديموقراطية جرائم القتل الجماعي وغيرها من الفظائع التي تعرض لها المدنيون في أوكرانيا على أيدي القوات الروسية الغازية، وهي الجرائم التي قال الرئيس جوزف بايدن إنها ترقى برأيه الشخصي إلى مستوى الإبادة الجماعية. مقابل هذه الإدانات الغربية والديموقراطية، تعاملت معظم الدول ذات الأغلبية المسلمة بصمت مع الغزو الروسي، ولذلك لم يكن من المستغرب أن ترفض هذه الدول إدانة أعمال القتل الروسي المتعمد للمدنيين الأوكرانيين.
هذا الصمت المريب للدول المسلمة تجاه الانتهاكات الصارخة للقوات الروسية في أوكرانيا، مماثل لصمتها المخجل تجاه القمع الجماعي الذي تمارسه السلطات الصينية للمواطنين الصينيين المسلمين المعروفين باسم الإيغور في منطقة شينجيانغ ذات الحكم الذاتي، والذي وصفته الحكومة الأميركية بأنه يرقى إلى الإبادة الجماعية.
هذا الصمت الإسلامي تجاه الفظائع وأعمال العنف التي يرتكبها أكبر نظامين متسلطين ومعاديين للديموقراطية في العالم: روسيا والصين، يبدو مدويا بخبثه وبشاعته وجبنه، مقارنة بالإدانات الطنانة والمسرحية التي تصدر وبسرعة عن قادة أو كبار المسؤولين في الدول ذات الأكثرية المسلمة ضد أي عمل يفسره هؤلاء القادة على أنه انتهاك أو تمييز ضد الدين الإسلامي أو أفراد أو مواطنين مسلمين يعيشون في المجتمعات الديموقراطية الغربية على أنه تعبير آخر عن "العداء" الغربي أو المسيحي التاريخي ضد الإسلام، أو التمييز الطائفي ضد الجاليات المسلمة في الدول الغربية. هؤلاء القادة، ومعهم العديد من العاملين في وسائل إعلامهم الرسمية، يقولون إن هذه الممارسات تعكس ما يسمى بالمعايير المزدوجة لهذه الثقافات الغربية التي تدعي الانفتاح والتسامح والتمسك بالتعددية الثقافية والسياسية.
طبعا هناك صور نمطية عن الإسلام والمسلمين في الغرب، وهناك حوادث تمييز وحتى أعمال عنف ضد المسلمين في الدول الغربية، وهي أعمال يجب شجبها وإدانتها بقوة، وهذا ما تفعله الحكومات الغربية ومنظمات حقوق الانسان، إضافة إلى منظمات الحقوق المدنية التي تدافع عن حقوق المسلمين. ولو بقيت إدانات القياديين والإعلاميين في الدول ذات الأكثريات المسلمة محصورة بهذه الانتهاكات لكان الأمر مفهوما ومبررا. ولكن معظم الاحتجاجات الرسمية الصادرة عن المسؤولين في هذه الدول التي تدعي أنها تدافع عن الدين الإسلامي والمسلمين تتعلق بانتهاكات خيالية ومفبركة وتعكس رفض هذه الدول لأبسط قيم ومبادئ الحرية والديموقراطية وتحديدا حرية التعبير عن الرأي.
في سنة 1989 أصدر آية الله روح الله الخميني الذي نصّب نفسه مدافعا عن حقوق المسلمين في العالم، فتواه السيئة الصيت بتحليل دم الروائي البريطاني سلمان رشدي بعد أن قيل له بان روايته "الآيات الشيطانية" مهينة للدين الإسلامي.
عندما نشرت الصحيفة الدانماركية Jyllands-Posten في سنة 2005 صور كاريكاتورية للنبي محمد لكي تؤكد حقها بالتعبير عن رأيها بما في ذلك حقها بالتهكم من شخصيات تاريخية أو دينية ولحقتها صحف أوروبية أخرى، جاءت ردود الفعل من الحكومات والمجتمعات المسلمة بسرعة وبعنف، وشجعت هذه الحكومات التظاهرات والاحتجاجات التي تحولت في بعض الدول إلى أعمال شغب وأدت إلى مقتل متظاهرين في أفغانستان والصومال ونيجيريا ومحاولات لإحراق سفارات الدول التي نشرت الرسوم. بعض الحكام المتسلطين العرب مثل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك والسوري بشار الأسد وغيرهم من القادة المسلمين، استغلوا هذه الأزمة المصطنعة لشن حملة ضد الدانمارك لتلميع صورتهم كقادة مسلمين وللتغطية على مشاكلهم وفسادهم الداخلي.
الصمت العربي-الإسلامي المتواطئ عمليا مع الغزو الروسي لأوكرانيا، يصبح سافرا أكثر عند وضعه في سياق السجل الدموي الطويل للرئيس فلاديمير بوتين في تعامله مع خصومه وأعدائه المسلمين داخل وخارج روسيا منذ وصوله إلى السلطة قبل 22 سنة. أثبت بوتين خلال سنته الأولى في السلطة أنه مستعد لاستخدام القوة العسكرية إلى أقصى حد ممكن خلال ما سمي بحرب الشيشان الثانية حين قمع المتمردين الشيشان بالحديد والنار بعد الاستيلاء على العاصمة الشيشانية غروزني في فبراير 2000. صور غروزني التي رآها العالم آنذاك كانت مماثلة للمدن الأوروبية التي دمرت خلال الحرب العالمية الثانية. هذا كان أول مؤشر مبكر من بوتين بأنه لن يتصرف مثل سلفيه بوريس يلتسن وميخائيل غورباتشوف، بل سيتصرف مثل الطاغية ستالين مع من يعتبرهم أعدائه. في هذا السياق يجب أن نشير إلى أن رد الفعل الغربي الفاتر تجاه البطش الدموي ضد الشيشان والذي طرحه بوتين على أنه حرب ضد التطرف الإسلامي، خدم الرئيس الروسي الجديد، لأنه كان أول رد فعل غربي ضعيف على الانتهاكات اللاحقة والأكبر التي ارتكبها بوتين في السنوات التالية، مثل غزوه لجورجيا في 2008، حين رد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن بشكل محدود وضعيف. الدول المسلمة القريبة جغرافيا من روسيا مثل إيران والسعودية وغيرها لم تحتج، وقطعا لم تدين العنف الرهيب الذي أوصله بوتين إلى كل عائلة شيشانية. التبريرات كانت كثيرة من بينها أن الإسلام الشيشاني "صوفي" أو "نقشبندي"، وهذا ما لا تستسيغه إيران الشيعية أو السعودية الوهابية.
في سنة 2014 قام بوتين بغزوه الأول لأوكرانيا حين احتل وضم لاحقا شبه جزيرة القرم، وخلق حركة انفصالية في شرق البلاد، استخدمها في فبراير الماضي لشن غزوه الثاني والأخطر لأوكرانيا. بعض المحللين العسكريين رأوا أن تراجع الرئيس باراك أوباما عن تنفيذ تهديده بتوجيه ضربة عسكرية عقابية للنظام السوري إذا عبر الخط الأحمر الذي وضعه أوباما ضد استخدام الأسلحة الكيماوية في 2013، ساهم في اقناع بوتين بأن الرئيس الأميركي لن يرد بقوة ضد غزو أوكرانيا. وهذا ما حدث بالفعل. العقوبات التي فرضها أوباما لم تكن قوية أو فعالة، كما أنه رفض حتى تسليح أوكرانيا بأنظمة عسكرية دفاعية مثل صواريخ جافلين المضادة للدروع، وتصرف وكأنه يقبل بطروحات موسكو بأن أوكرانيا تقع في الحديقة الخلفية لروسيا.
في السنة التالية لغزوه لأوكرانيا، تدخل بوتين عسكريا في سوريا لإبقاء بشار الأسد الحاكم المستبد الذي استخدم أسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين السوريين في السلطة. رد فعل الرئيس أوباما كان ضعيفا وحتى ساذجا، حين رأى أوباما وبعض المسؤولين في البيت الابيض أن روسيا سوف تغرق في مستنقع سوري مماثل لمستنقع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومرة أخرى، نجح بوتين في تجريب أسلحته الجديدة ضد الثوار والمدنيين السوريين، وقامت طائراته الحربية بغاراتها العشوائية ضد أهداف مدنية من بينها المدارس والمستشفيات والمخابز وغيرها من الأهداف المدنية وخاصة ضد مدينة حلب ومحيطها، كما تفعل الآن القوات الروسية الغازية في أوكرانيا. لاحقا تدخل بوتين عسكريا في ليبيا، ولكن هذه المرة عبر قوات مرتزقة روسية معروفة باسم "فاغنر".
وإذا كان لدى أي حاكم لدولة ذات أكثرية مسلمة أي انتقادات أو حتى تحفظات ضد جرائم بوتين في سوريا أو ليبيا، فان هذه التحفظات بقيت سرية. وكما توقفت مشاعر "التضامن الإسلامي" خارج الشيشان في سنة الفين، بقيت أيضا خارج سوريا منذ 2015، لأن المنتهك الأكبر هو روسيا وحاكمها الذي يحترمه – أو يخشاه – حكام العالمين العربي والاسلامي.
الأنظمة الحاكمة في معظم الدول ذات الأكثرية المسلمة تحتفظ لنفسها بحق التعبير عن غضبها الجامح ضد الانتهاكات المزيفة التي يتعرض لها المسلمين في الغرب مثل الرسوم الكاريكاتورية والأعمال الأدبية "المهينة" للسلام، ولكنها تلتزم بالصمت الذهبي في مواجهة الفظائع التي ترتكبها الحكومة الشيوعية في الصين ضد مواطنيها المسلمين الذين لا يقاومونها بالقوة. ومع أن السلطات الصينية وضعت حوالي مليون من المسلمين الإيغور في معسكرات خاصة "لإعادة تثقيفهم" أو إعادة تربيتهم. وتسعى السلطات الصينية إلى تقليص عدد المسلمين من خلال تعقيم النساء المسلمات بالقوة. وجاء في تقرير لإذاعة BBC أن الصين تقوم بفصل الأطفال عن آبائهم وأمهاتهم لكي يبقوا بعيدا عن أي تربية أو تعاليم "إسلامية". في سنة 2019 قامت دول مسلمة هامة من بينها باكستان والسعودية ومصر وغيرها بالتضامن مع الصين لمنع الأمم المتحدة من اتخاذ قرار يدعو الصين للسماح " لمراقبين عالميين مستقلين" بزيارة منطقة شينجيانغ لمعاينة الوضع على الارض. بعض هذه الدول تبرر مواقفها باسم الحفاظ على علاقاتها التجارية والاقتصادية مع الصين، أو باسم عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، أو لأنها تحصل على مساعدات صينية وفق "مبادرة الحزام والطريق" الصينية لمساعدة الدول النامية. لا يمكن حدوث مثل هذه الانتهاكات الجماعية في الدول الديموقراطية والغربية ضد المسلمين أو أي جماعة أو فئة أخرى، ولكن لو جرت انتهاكات حقيقية أو بسيطة للغاية ضد مواطنين أو مهاجرين مسلمين في هذه الدول لكان العالم الإسلامي قد انفجر بالاحتجاجات ولطم الصدور والشكوى من "المظلومية" الغربية ضد الإسلام والمسلمين.
الصمت الإسلامي الذهبي الرسمي تجاه الطغيان الروسي والصيني، حتى عندما يكون موجها ضد مسلمين آخرين يفترض أن يطالهم "التضامن الإسلامي" المفترض، له أسباب كثيرة من أبرزها أن الأكثرية الساحقة من الدول المسلمة في العالم تحكمها أنظمة أوتوقراطية ومعادية للديموقراطية ولذلك لا تفكر في الوقوف ضد الممارسات القمعية الروسية والصينية، لأن هذه الدول المسلمة تمارس أعمال القمع داخل مجتمعاتها ضد أي افراد أو جماعات تطالب بحقوقها المدنية أو السياسية. طبعا، هذه الدول المسلمة، تدرك أيضا من تجاربها مع الدول الديموقراطية والغربية انها قادرة على انتقاد حكومات هذه الدول أو اتهام مجتمعاتها بأنها لا تبالي بتقاليد أو "مقدسات" العالم الإسلامي، وتعرف أيضا انها لن تدفع أي ثمن لهذه الاحتجاجات المزيفة والخبيثة، لأنها لا تعرف الخجل ولا تبالي بالإحراج الأخلاقي.