محمد يسري
تعتبرُ واقعةَ كربلاء 10 محرم 61هـ، من ضمن اللحظاتِ التاريخية الفاصلة في الذاكرة الجَمعية للمسلمين عموماً، وللشيعة منهم على وجهِ الخُصوص.
كربلاء التي شهدت مذبحةً مروعةً راح ضحيتَها حفيدُ نبيِّ الإسلام مع مجموعةٍ من أهله ومناصرِيه، تحولتْ مع مرور الوقت إلى ملحمةٍ تجسد قيمَ ومعاني الشهادةِ والإيمان والبطولة، ما جعل ذكراها السنوية حدثاً فريداً، يستذكره المسلمون الشيعة من خلال مجموعةٍ من الشعائر، تُعرف بالشعائر الحسينية، وهي التي اعتادت على جذبِ الأضواء إليها، ما بين مؤيدٍ ومعارض، في كلِّ عام.
ما المقصود بالشعائر الحسينية؟
تتنوع مظاهر الاحتفال بذكرى عاشوراء، فنجد أن شعائرَ تلك المناسبة تتباين ما بين الشعائر ذاتِ الطبيعةِ المعنوية وأخرى تغلب عليها الصفة المادية الحسيّة.
من النوع الأول، إقامةُ مجالس العزاء، وإكثارُ البكاء على الحسينِ وأهلِ بيته، والتجمعُ في الحسينياتِ لسماع الأشعار المُبكية، تلك التي اعتاد الشيعة على نظْمها قديماً وحديثاً، وينشدُها مغنٍ، حسنُ الصوت، يُعرف باسم الرادود.
أيضاً، تشهد تلكَ المجالس عادةَ اللطم على الصدر، ويتم ذلك بشكلٍ جماعيّ منظم، على إيقاعٍ واحدٍ رتيب، وفي السياق نفسه جرت العادةُ على إقامة (التشابيه)، وهي مسرحياتٌ تمثّل ما وقعَ للحسين في كربلاء، ويشترك فيها العديد من الممثلين الذين تتوزع عليهم أدوار الحسين وأنصارِه من جهة، والجيشِ الأموي من جهةٍ أخرى، وتقام تلك المسرحياتُ في أماكنَ مكشوفةٍ للجمهور، وتصل إلى ذروتها يوم العاشر من محرم.
بعضُ الشعائرِ الحسينية، تجري بعد انتهاءِ شهر محرم، فعلى سبيل المثال، يحتفل الشيعة بأربعينية الحسين، حيث يتوجه مئاتُ الآلاف منهم من العراق وإيران، إلى كربلاء في 20 صفر، لإحياء تلك الذكرى، ويعمدُ الكثير من أولئك الزوار للمشي إلى مزارِهم المقدس سيراً على الأقدام، طلباً للثواب والأجر.
أما بالنسبة للشعائر الحسيَّة، التي يظهر فيها الجانب العنيف، والدموي بعضَ الأحيان، فيقف على رأسها، شعيرةُ التطبير، وهي عبارة عن إدماء مقدمةِ الرأس باستعمال سيفٍ أو سكين، كذلك مواكب الزنجيل، وهي مسيراتٌ حاشدةٌ يستخدم فيها الشيعة أداةً ذاتَ مقبضٍ خشبي موصولةً بمجموعةٍ من السلاسل الحديدية، يضربون بها ظهورهم.
وأحياناً أخرى، يتم إحياء شعيرة المشي على الجمر، حيث يلتزم المحتفلون بالسير على قطعٍ من الجمر الملتهب، إحياءً لذكرى إحراق مجموعة من خيامِ معسكر الحسين في كربلاء بعد استشهاده.
من الرسول للصفويين: التطور التاريخي للشعائر الحسينية
يعتقد الشيعة الإمامية الاثناعشرية، أن أول من أقام الشعائر الحسينية، كان الرسولُ نفسه، ومن بعده الأئمة الاثناعشر.
فبحسب ما ورد في معظم كتب الحديث الشيعية، وبعض مثيلتها السنية، ومنها على سبيل المثال المعجم الكبير للطبراني، فإن الرسول قد عرف من جبريل خبرَ مقتلِ حفيده في كربلاء، وأنه - أي الرسول- قد بكى بكاءً شديداً، وبكى الناس من حوله.
أما التأكيد على شعيرة زيارة قبر الحسين، فقد وردت بشكلٍ مفصلٍ في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه، حيث ورد في حديث الإمام محمد الباقر لأتباعه "من زار قبورَ شهداء آل محمد، يريد الله بذلك وصلةَ نبيه، خرج من الذنوبِ كما ولدته أمه". كما نُسب للإمام جعفر الصادق "من أراد أن يكون في جوارِ نبيه وجوار علي، وفاطمة، فلا يدع زيارةَ الحسين بن علي".
وقد وردت الدعوة للبكاء وإظهار الجزعِ على مصاب الحسين، في كلام الصادق، فقال "كل الجزع والبكاء مكروهٌ، ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين"، وقال في موضع آخر "على مثله -أي الحسين- تُلطَم الخدودُ وتُشقُّ الجيوب".
ومن المرجح أن أقوالَ ودعواتِ الأئمة، كانت تلقى قبولاً وصدى إيجابياً عند أتباعهم من الشيعة، الأمرُ الذي دفع عدداً من الخلفاء العباسيين لهدم قبرِ الحسين، خوفاً من تحوله لمركزٍ للمعارضة السياسية، وكانت أهم تلك المحاولات ما قام به الخليفةُ المتوكل على الله في عام 236هـ، عندما أمر بهدم القبر وتسويتِه بالأرض وزراعةِ ما حوله، بحسب ما يذكرُ الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك.
في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، حدث تطورٌ مهمٌّ ونوعي فيما يخصُّ مظاهرَ الاحتفال بالشعائر الحسينية، بعدما استطاع البويهيون الشيعة الوصول للسلطة، وتقاسمَ الحكمِ مع الخليفة العباسي في بغداد، ذلك أن نوعاً من التوازن المذهبي قد تحقق ما بين الشيعة والسنة، وأضحى المحتفلون بذكرى الحسين لا يخشون من تضييقِ السلطة عليهم.
فعلى سبيل المثال يذكر ابن الأثير في تاريخه، أنه في عاشوراء عام 352هـ، قد "خرجت النساء، منشراتِ الشعور، مسوداتِ الوجوه، يلطمنَ في الشوارع، وغلقت الأسواق"، وقريباً من ذلك، قال ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، في أحداث عام 360هـ "إنه في يوم عاشوراء، فعلتِ الشيعة ما جرت به عاداتهم من النوح واللطم وتعطيل الأسواق".
أما الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، فقد نسب إحياءَ تلك الشعائر إلى الوزير البويهي فخر الملك، فقال عنه "وأعاد اللطمَ يومَ عاشوراء، وثارت الفتن لذلك...".
على أن تلك الشعائر الطقوسية، ما لبثت أن عادت تحت طائلةِ العقوبة والمنع بعد أن حلَّ السلاجقةُ الأتراك السنة محلَّ البويهيين، حيث منع السلاجقة جميعَ مظاهر الشعائر الحسينية، وعملوا على اضطهاد الشيعة بكل وسيلة ممكنة. وبقي الأمرُ على ذلك الحال، حتى مطلعِ القرن السادس عشر الميلادي، عندما تمكن الصفويون من تأسيس دولةٍ لهم في العراق وبلاد فارس.
الصفويون الشيعة، عملوا على تحويل إيران كلّها للتشيُّع، فاستقدموا الفقهاءَ الشيعة العرب وشجعوا على ممارسةِ الشعائرِ الحسينية بغرض تثبيتِ التشيع في قلوب رعاياهم، وفي سبيل ذلك، استحدثوا منصباً جديداً، هو وزير الشعائر الحسينية.
كما اقتبسوا بعضَ مظاهرِ الاحتفالاتِ الطقوسية التي يمارسها المسيحيون الأرثوذكس في أوروبا الشرقية، منها تلك التي تُعيد تمثيلَ حادثة صلبِ المسيح، ونُقلَت تلك الطقوسُ إلى إيران وأذربيجان والعراق بعد أن أخذت صبغةً شيعية، حسبما ذكر المفكرُ الإيراني علي شريعتي في كتابه التشيُّع العلوي والتشيُّع الصفوي.
رأي علماء الشيعة في الشعائر الحسينية
حظيتِ الشعائرُ الحسينية باهتمامٍ كبيرٍ عند العلماء والفقهاء الشيعة منذ القرن الرابع الهجري حتى الآن. فيما يخصُّ شعائرَ زيارةِ قبر الحسين، ورثائِه واللطم والبكاء عليه، فلا يوجد خلافٌ بين علماء الشيعة، على استحبابها وجوازها، ذلك لما ورد وتواترَ عن أئمة أهل البيت.
الخلافُ الحقيقي بين العلماء يتركزُ في مسألة الشعائر التي ينتجُ عنها أذىً جسدي، مثل التطبير أو إسالة الدماء أو المشي على الجمر والتعرض للنيران.
الفريق الأول من العلماء، أباحَ تلك الممارسات وشجع عليها، منهم محمد الحسين آل كاشف الغطاء، في قوله "... أما الحكمُ الشرعي من تلك المظاهرات والمواكب، فلا إشكالَ في أن اللطمَ على الصدور وضربَ السلاسل على الظهور وخروجَ الجماعات في الشوارع والطرقات بالمشاعل والأعلام، مباحةٌ مشروعةٌ، بل راجيةٌ مستحبة، وهي وسيلةٌ من الوسائل الحسينية، وبابٌ من أبواب سفينة النجاة..."، كما يذكر محمد الحسين في كتابه رسائل الشعائر الحسينية.
فريقٌ آخر من العلماء الشيعة، ذهبوا إلى جواز تلك الممارساتِ في حالة عدم حدوث ضررٍ عظيم منها، منها فتوى آية الله النائيني، التي وردت في كتابِ الشعائرِ الحسينية بين الأصالة والتجديد، للمؤلف محمد السند، حيث وردَ نصُّ الفتوى:
"لا إشكالَ في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والاسوداد، بل يقوى جوازُ الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور، وإن تأدى كلٌّ من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات، فالأقوى جوازُ ما كان ضرره مأموناً".
وفي العصر الحديث، تعتبرُ المرجعيةُ الشيرازية، هي الأكثرُ تأييداً وترحيباً بالشعائر الحسينية، بكل تفاصيلها ودقائِقها، وبكلّ الأفعال التي تندرج تحتها وتنضوي على العنف أو إراقة الدماء.
على الجهة المقابلة، العديد من العلماء والمراجع والفقهاء الشيعة البارزين، قد عارضوا جميعَ الشعائرِ العنيفة أو المؤذية، معتبرين أنها تسيءُ للمذهب الشيعي، وتثير انتقاد أصحابِ المذاهب الأخرى، لا سيما المذهب السني، الذي اعتاد المنتمون إليه أن يتخذوا من شعائر التطبير ومواكب الزنجيل مدخلاً لانتقاد العقائد الشيعية برمتها.
من أهم العلماء الذين حرموا تلك الأفعال كلٌّ من: آيةُ الله روح الله الخميني، قائدُ الثورة الإيرانية، وخليفتُه علي خامنئي، والمرجعُ اللبناني محمد حسين فضل الله، والمفكرُ محمد باقر الصدر، والشيخُ أحمد الوائلي عميدُ المنبر الحسيني وآيةُ الله كمال الحيدري، إضافةً لعددٍ من الشخصيات الشيعية الأكاديمية المعروفة من أمثال الدكتور علي الوردي والمفكر علي شريعتي.
بعضَ الأحيان كانت آراءُ العلماءِ الرافضةُ لتلك الشعائر الدامية، سبباً في وقوعِ جرائمَ في حقّهم، فعلى سبيل المثال يذكرُ الكاتبُ علي دخيل في كتابه نجفيات، أنه لما أفتى المرجعُ أبو الحسن الأصفهاني، بحرمة التطبير، فإن البعض من مخالفيه قد ترصدوا لابنه أثناءَ إقامته الصلاة، ثم طعنوه فأردوه قتيلاً، معتقدينَ أن فتوى أبيه تتضمن إساءةً للحسين وتدعو لتثبيط هممِ الشيعة عن استذكارِ فاجعةِ كربلاء.
"الاستذكار الطقسي للواقعة الملحمية"
لا شكَّ أن ممارسةَ الشعائر الحسينية بشكلٍ سنويّ منتظم، تأتي في سياق التأكيدِ على المظلوميةِ التي تعرضَ لها حفيدُ الرسول وأنصارُه في كربلاء.
فيما يخصُّ شعيرةَ التشبيه، فإن أحد الباحثين المعاصرين قد فسر مدلولاتِها بأنها تأتي في سياقِ ظاهرة "الاستذكار الطقسي للواقعة الملحمية"، حيث يكون الممثل الذي يجسد شخصيةَ الحسين، أحدَ السادةِ المنحدرين من آل البيت، بينما الممثلون الذين يجسدون أدوار الأمويين، من الأشخاص المعروفين بسيرتهم غير المحمودة في أوساطهم الاجتماعية، ويكون الهدف الرئيس وراءَ مشاركتهم في تلك الشعائر هو الحصولُ على الثواب والمغفرة لذنوبهم.
طريقةُ تمثيل تلك المسرحيات وسطَ الحضور الكثيفِ من الجماهير، تسهمُ بدورٍ فعالٍ في ترسيخ الملحمةِ الحسينية في العقلِ الشيعي الجمعي، والتأكيد عليها كحدثٍ مهم، هو الأكثر بروزاً وترسخاً في الذاكرة الشيعية.
فيما يخصُّ شعائرَ الإدماء وإيذاء الجسد، فإن العديد من الباحثين يفسرون الحالة التي تعتري المشاركين في تلك الطقوس، على أنها نابعةٌ في المقام الأول من اعتقادهم بتقصير أجدادهم الأوائل في نصرةِ الحسين حين لجأ لشيعته في الكوفة.
فهي إذاً أحد أشكال التكفير عن الذنوبِ والخطايا القديمة، وفيها نزعةٌ تطهيريةٌ خلاصية تقترب كثيراً من نزعاتٍ مشابهةٍ وقعت في الأديان والثقافاتِ القديمة التي ظهرت في بلاد الرافدين تحديداً.
ولعلَّ من أقدم الشواهدِ التي تدلُّ على ارتباط الشعائر الحسينية بالنزعة الخلاصية، أن واحدةً من أقدم الجماعاتِ الشيعية المعروفة تاريخياً، وهي جماعة التوابين، قد أقدمت دونَ تحضيرٍ مناسب أو إعدادٍ جيد، على الدخول في معركةٍ خاسرة في "عين الوردة" عام 65هـ، ضدَّ القوات الأموية، فقُتل معظم رجالها في ساحة القتال، وتحملوا الآلام الجسديةَ، عن طيب خاطرٍ بدلاً من الفرار والنجاة، واستكمالِ حياتهم وهم يحملون إثمَ التخلي عن إمامهم.
من المهم هنا، الإشارةُ إلى أن تكراريةَ ممارسةِ الشعائرِ الحسينية بشكلٍ سنوي، قد حملت تأكيداً على هويةِ التشيُّع، وحفظ شخصيةِ الشيعةِ المميزة، وفصلها عن المحيط الاجتماعي، الذي تصبغه الأغلبية السنية بصبغتها.
من هنا نستطيع أن نتفهمَ الأهميةَ الكبرى التي لعبتها تلك الشعائرُ في بعض اللحظات التاريخيةِ الحرجة التي مرَّ بها التشيّع الإمامي، منها على سبيل المثال فتراتُ الاضطهاد التي تعرضَ لها الشيعةُ العراقيون في عهد النظامِ البعثيّ، أو في فترةِ قتالِ عناصر حزب الله اللبناني للعدو الإسرائيلي في جنوب لبنان.
رصيف 22