محمد وهبة:
لم يكن النبي محمد وحده مَن تناقلت الأخبار صعوده إلى السماء، فقد سبقه الأنبياء إيليا وزرادشت وماني فضلاً عن موسى وإشعيا وحزقيال (في أسفار منحولة)، والبطريرك العبري أخنوخ والملك السومري إيتانا، بل وهناك أربعة من أحبار اليهود بحسب التلمود عرجوا قبله إلى السماء وزاروا الفردوس، وهم: شمعون بن عزّاي، وشمعون بن زوما، وإليشع بن أبوياه، وعقيفا بن يوسف، هذا بخلاف مَن ذكرتهم كتب التصوف اليهودي ومنهم الرابي يشماعيل، ونحونياه بن هقاناه.
وهنالك طائفة من كبار الأدباء المتفلسفين ممَّن استهوتهم هذه التجارب الصوفية، وألهمت قرائحهم بعروج مماثل إلى السماوات، فكتبوا في جنس "أدب العروج" بعض النفائس مثل: "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، و"الإسرا إلى المقام الأسرى" لابن عربي، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي أليغييري.
والفارق الوحيد أن أولئك الأنبياء وهؤلاء الأحبار والأدباء ليس لهم ميليشيات ترغم الناس على الإقرار بعروجهم، تحت أنصال السيوف، ولا محاكم تفتيش تتوعد من يسوِّل له عقله إنكار تلك الرحلات المكوكية إلى السماء. ولو كنّا في مجتمع مجوسي لكان التشكيك في عروج زرادشت إلى السماء، مثار غضب عارم بين الناس، لكن ما كان الأمر ليصل إلى هدر دم المتشكك، لأن الزرادشتية لا تجيز سفك الدماء لهذه الأسباب.
وحقيقة الأمر أن تفنيد المعراج ليس مرده مخالفته للعقل، فالدين كله قائم على الغيبيات العابرة للمعقول، وإنما وجه الارتياب فيه أنه يخالف حتى التأويل العقلاني من صميم الإسلام نفسه. فقد أنكر جمهور المعتزلة، وهم أسوة حسنة في تقديم العقل على النقل، الإسراء والمعراج بالجُملة، وقالوا إنهما مما وقع بالروح لا الجسد ["ظهر الإسلام" لأحمد أمين: 4/ 60] أي أن المسألة برمتها حلم نبوي مقدس، وهو عين ما ينطق به القرآن، كما سيأتي ذكره.
النصوص اليهودية
لم يكن عروج النبي محمد للسماء عروجاً حقيقياً بالجسد مثل النبي إيليا كما في الكتاب المقدس [ملوك الثاني 2: 11-12] وإنما هو بالأحرى عروج روحي صوفي. فبحسب الرواية الإسلامية، يصف القرآن المعراج المحمدي بأنه "رؤيا" [الإسراء: 60] أو "رؤيا قلبية" [النجم: 11-12] ويكاد يتطابق مع طقس الصعود للعرش المعروف بين متصوفة اليهود، وظلوا يمارسونه حتى زمن النبي محمد.
والحق أننا نجد تشابهاً ملفتاً بين المعراج المحمدي في كتب التراث الإسلامي وأصدائه في القرآن، وبين أنباء الصعود لعرش الرب في كتب التصوف اليهودي مثل: "الهياكل الصغير" و"الهياكل الكبير"، و"المركبة الكبير". ويعود تاريخ هذه الكتب بحسب الباحثين إلى فترة تدوين التلمود حتى بداية عصر الأحبار من طبقة الجاؤونيين، من 200م حتى 700م تقريباً [Gruenwald, 2014, p.3].
وثمة بعض التطابق بين معراج النبي محمد وما جاء في نصوص المدراش اليهودية مثل: "عظمة موسى" الذي يعود تاريخه بحسب الباحثين إلى منتصف القرن الخامس حتى السابع الميلاديين [Halperin, 1988, p. 290] و"نظام الخلق الكبير" (بين القرنين السادس والسابع الميلاديين تقريباً) و"رؤى حزقيال" (بين القرنين الأول والثاني الميلاديين). وبعض الأصداء من الأسفار اليهودية المنحولة، مثل: أخنوخ الأول، وأخنوخ الثاني (القرن الأول الميلادي) وأخنوخ الثالث أو "سفر الهياكل" (القرن الثالث الميلادي) [Odeberg, 1928, p. 63, 79].
التصوف اليهودي
بعد هدم الرومان الهيكل الثاني في القدس عام 70م، استفاق الشعب اليهودي الثائر ضد روما على فاجعة دينية زلزلت أركانه ومزقته شر ممزق. فهدم الهيكل فيه تعطيل للشريعة، لأن جُل فرائضها تقوم على شعائر الهيكل، فهو لُب العقيدة وعمود الدين. وهذه النائبة الوجودية التي حطت على رؤوس اليهود، ألهمت بعض أحبارهم بوجود هيكل سماوي، يناظر مثيله الأرضي الذي خُرِّب، لكن السماوي أعظم منه وأقدس.
ورغم إيمان اليهود بأن الهيكل السماوي سبق الأرضي، لكن الباحثين يذهبون إلى العكس، ويقولون إن اليهود آمنوا بوجود هيكل سماوي بعد كارثة تخريب هيكلهم الأرضي في القدس، فكان هذا الهيكل السماوي مصدر عزاء لهم، وجدد الرجاء في قلوبهم على اتصالهم بالسماء -كما كان الأمر إبان وجود الهيكل الأرضي- كما أنفذ لخيالهم فُسحة أمل للصعود إلى السماء، مثل إيليا وأخنوخ، وزيارة هذا الهيكل السماوي، وإقامة بعض الشعائر فيه، بل والمثول أمام عرش الحضرة الإلهية، وتلقي الوحي.
في هذه اللحظة التاريخية بزغ التصوف اليهودي الأول، عشية هدم الهيكل الثاني، حتى القرن السابع الميلادي، من خلال مَن سمّوا أنفسهم "الصاعدين إلى العرش" (كناية عن العروج للسماء) أو ما يعرف الآن باسم "تصوف المركبة". و"مركافاه" (المركبة) هي عرش الرب، وتناظر مركبة تابوت العهد في الهيكل، وتشير إلى المركبة التي حملت إيليا للسماء، وتلك المذكورة في رؤيا النبي حزقيال أيضاً. ويُعرَف هذا التصوف أيضاً باسم "تصوف الهياكل". والهيكل في العبرية يعني "قصر" أو "معبد"، لكن المقصود بالهياكل هنا "السماوات" بالتعبير الاصطلاحي بين متصوفة اليهود.
المعراج اليهودي
تُنسب نصوص الصعود للعرش لأربعة من أحبار المشناه من طبقة التنائيين، عاشوا بين القرن الأول حتى أوائل القرن الثالث الميلادي، وصعدوا إلى السماء وقابلوا الحضرة الإلهية، وهم: عقيفا بن يوسف، ويشماعيل، ونحونياه بن هقاناه، وإليشع بن أبوياه. وتحدد هذه النصوص أربعة حاخامات صعدوا إلى السماء، ودخلوا "فَرْدِس" (الفردوس) أيضاً [الهياكل الصغير: § 338-339؛ المركبة الكبير: § 671،673] وهؤلاء الأربعة هم: عقيفا (سالف الذكر)، وشمعون بن عزاي، وشمعون بن زوما، وإليشع بن أبوياه.
وبحسب هذا التصوف، يُمكن لليهودي الصالح ببعض التأهيل، أن يصعد في رؤياه للسماء ويزور الهيكل السماوي، ويقف أمام عرش الإله، ويعود مرة أخرى. ويحدد كتاب "الهياكل الكبير" شروط العروج في: تلاوة التناخ (الكتاب المقدس) ودراسة المشناه (الشريعة الشفهية)، وتعلُّم المدراش (كتب التفسير)، وتحصيل الأغادوت (الأساطير اليهودية)، والالتزام بالشريعة، وأن يكون الصاعد بريئاً من الشِرك، منزهاً عن الفجور، غير سافك للدماء، نقياً من الافتراء، لا يحنث باليمين، ولا يجدِّف على الرب، حينئذٍ يكون أهلاً للحصول على إذن بالصعود إلى العرش.
وظلت كتب الصعود للعرش رائجة بين متصوفة اليهود من 200م حتى 700م تقريباً، ثم انقطع هذا التراث خلال فترة الأحبار الجاؤونيين (قبل نهاية القرن الحادي عشر) ثم عادت في تصوف القبّالاه اليهودي في العصر الوسيط، وحافظت طائفة الحسيديين الأشكيناز اليهودية (في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين) على مخطوطات هذا التراث الصوفي بل ومارست طقوسه [Gruenwald, p.3].
الصعود القرآني
وفي فترة ازدهار التصوف اليهودي وطقوس الصعود للعرش بين اليهود، ظهر النبي محمد بين العرب مُقراً بأنبياء بني إسرائيل ومصدقاً لبعض ما جاء في التوراة والتلمود وما ورد في نصوص المدراش اليهودية. ونرجِّح أنه أقر طقس العروج للعرش الذي راج بين متصوفة اليهود آنذاك، وهو ما نجد له إشارة في القرآن ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: 33].
إن عطف الإنس على الجن في الآية يعني الإقرار بقدرة البشر على النفاذ إلى السماء آنذاك، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا بأنه إحالة إلى الممارسة الصوفية اليهودية، فهذا النفاذ للسماء مشروط بالحصول على إذن (أو سلطان بالمصطلح القرآني)، تماماً كما يقول متصوفة اليهود.
وتذكر كتب اليهود أن مَن يصعد إلى السماء وهو غير مأذون له بالصعود، ولا يستحق رؤية عرش الرب، ترسل الملائكة عليه شظايا من الحديد [الهياكل الكبير: §258]. ونجد في القرآن أن مَن يحاول الصعود للسماء بغير إذن تكون عاقبته ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ [الرحمن: 35] وضمير المثنى يؤكد أن الآية تشمل الإنس. ولقد وهم المفسرون المسلمون أن الشواظ هو لهب النار، ولكن الشواظ جمع تكسير للشظية، على وزن فُعال غير المطرد في القياس.
وقد يُرد على ذلك بأن الآية ذكرت أقطار الأرض أيضاً، فإن كانت إشارة للعروج اليهودي للعرش في السماء فما تفسير النفاذ من أقطار الأرض أيضاً؟ هذا تساؤل في محله. لكنه لا يقوض فرضيتنا بل يؤكدها، إذ يذكر مدراش "نظام الخلق الكبير" (بين القرنين الأول والخامس الميلاديين) أن الكون كأنه كرة منقسمة لنصفين متناظرين، إذ تتألف الأرض من سبع طبقات تعكس كالمرآة طبقات السماء السبع كما ذكر القرآن لاحقاً ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]. وبحسب هذا المدراش، الذي يذكر اسم كل أرض وسماء، فإن عرش الحضرة الإلهية مثلما يوجد في أعلى السماوات فإنه في أسفل الأرضين أيضاً [سِدِر ربّا دِبريشيت (مدراش "نظام الخلق الكبير": §745].
الصعود المحمدي
لا عجب أن نجد في القرآن المكي إشارات للتصوف اليهودي، فعلاقة النبي محمد باليهود كانت ما تزال طيبة حينئذٍ، وكان يصلي مثلهم شطر موضع الهيكل (بيت المقدس). والآيات المكية في تلك المرحلة حافلة بالثناء على بني إسرائيل، حتى أقرَّ القرآن بأنهم شعب الله المختار ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الجاثية: 16].
وفي تلك الفترة، كان النبي محمد حريصاً أشد الحرص على إيمان اليهود به، فقد نُسب إليه قوله: "لو آمن بي عشرة من اليهود، لآمن بي اليهود" [صحيح البخاري: 3941، صحيح مسلم: 2793]. ويبدو أن النبي محمد لم يقر طقس العروج للعرش فحسب، بل ومارسه أيضاً في بداية دعوته كما سنرى.
حسب حديث الإسراء والمعراج [صحيح البخاري: 7517] حكى النبي محمد قبل هجرته إلى يثرب، عن رحلة إعجازية سافر فيها بليلة واحدة من المسجد الحرام (الكعبة) في مكة إلى المسجد الأقصى (الهيكل) في الشام [راجع مقالتنا في هذا الصدد هنا]، وعن أنه بعد وصوله إلى بيت المقدس عرج إلى السماوات واجتاز أبوابها بصحبة الملاك جبريل ورأى البيت المعمور الذي تصلي فيه الملائكة، وصعد حتى بلغ الجنة واقترب من الله، الذي أوحى إليه.
الهيكل المعمور
قلنا إن هدم الهيكل كان أساس تصور الهيكل السماوي، ومن ثم العروج إليه. ويذكر التلمود أن الهيكل السماوي موجود في السماء الرابعة التي تسمى "زبول" [حجيجاه (باب "تقدمات الأعياد" التلمودي): 12/ب] ونلاحظ هنا أن فكرة وجود هيكل سماوي عظيم يناظر الهيكل المهدوم في القدس، موجودة في حديث الإسراء والمعراج، ما يعرف بالبيت المعمور الموجود في السماء الرابعة أو السابعة، لكنه فوق الكعبة.
والهيكل السماوي مسوَّغ في التراث الصوفي اليهودي، لأنه مترتب على هدم الهيكل، أمّا في التراث الإسلامي فليس للبيت المعمور ما يبرره، فالكعبة إبان ظهور الإسلام كانت قائمة لم تهدم. ولا يفوتنا التنبه للمعنى الدلالي لمصطلح "البيت المعمور" في السماء، وكأنه مقابل "بيت مخروب" في الأرض، ألا وهو بيت المقدس (بيت همقداش/ الهيكل) المخرَّب!
وقد ورد "البيت المعمور" في القرآن [الطور: 4] في سياق الإحالة على موضوعات يهودية؛ فسورة الطور تبدأ بالقسم بجبل سيناء (الطور) الذي كلم الله موسى عليه، ثم القسم بالتوراة (الكتاب المسطور في رق منشور) فالتوراة كانت وما زالت تُكتب في رقوق (جلود مُهَيَّأة للكتابة)، ثم القسم بالبيت المعمور، الموجود في السماء (السقف المرفوع). فإنْ لم يكن هذا التلازم بين الموضوعات اليهودية في الآيات اعتباطياً، فلا بد أن يكون البيت المعمور هنا إحالة للهيكل السماوي.
ويذكر التلمود نهراً في السماء يسمى "نهر النار" تُخلق منه صبيحة كل يوم الملائكة الذين يكهنون في الهيكل السماوي ثم يزولون [حجيجاه: 14/أ] وهو ما يكاد يتطابق مع أحاديث المعراج، حيث يوجد في السماء الرابعة (حيث الهيكل السماوي)، نهرٌ يُخلق منه كل يوم 70 ألف من الملائكة "يُؤمَرونَ أن يأتوا البيتَ المعمورَ فيصلُّونَ فيفعلون ثمَّ يخرُجونَ فلا يعودونَ إليْهِ أبداً" ["الدر المنثور في التفسير بالمأثور" لجلال الدين السيوطي: 13/ 693]. وهو دليل آخر على أن البيت المعمور هو نفسه الهيكل السماوي. ولعل نهر النار السماوي في التلمود هو نفسه "البحر المسجور" (المشتعل) الذي أقسم به القرآن بعد السماء [الطور: 6] (والقرآن أحياناً لا يفرّق بين النهر والبحر).
العروج للهيكل
هل يعني هذا أن النبي محمد أراد أن يقول لليهود إنه صعد إلى الهيكل السماوي؟ على الأرجح نعم، وإلا فإننا لا نجد أي تفسير لإسرائه إلى بيت المقدس أولاً، فليس السبب الصلاة في الهيكل أو بيت المقدس (بيت همقداش في العبرية)، لأنه لم يكن موجوداً آنذاك، بعدما هدمه الرومان قبل نحو خمسمئة عام. وقد نفى الصحابي حذيفة بن اليمان أن يكون النبي محمد قد أمَّ الأنبياء وصلى بهم في بيت المقدس، مستدلاً بعدم ورود ذلك في القرآن [صحيح الترمذي: 3147] وحتى روايات المعراج تخبر أن الأنبياء الذين قابلهم النبي في السماء لم يعلموا ببعثته.
وهكذا لو لم يعرج النبي محمد إلى الهيكل السماوي، مثل متصوفة اليهود، لماذا عرج إلى السماء من بيت المقدس تحديداً بدلاً من الكعبة؟ الجواب بسيط: لأن الهيكل السماوي (البيت المعمور بالتعبير القرآني) الذي يعرج إليه متصوفة اليهود يقع في السماء فوق موضع الهيكل الأرضي المخرَّب مباشرة! [Halperin, 1988, p. 196]
وفي هذه الحالة يكون سبب العروج المحمدي مفهوماً، فلم يكن الهدف منه الترويح عن نفس النبي في عام الحزن كما تقول الرواية الإسلامية، بل يكون السبب نفسه الذي دعا متصوفة اليهود للصعود للعرش، ومن ثم استمالة اليهود إليه. ويكون البيت المعمور هو نفسه الهيكل السماوي، ثم جرى تحويله لاحقاً إلى موضع فوق الكعبة، بعد تحويل القبلة من الهيكل للكعبة، إثر نزاع النبي محمد مع اليهود.
معراج موسى
تذكر أحاديث الإسراء والمعراج المنسوبة للنبي محمد أنه في رحلة صعوده للسماء رافقه الملاك جبريل، ودخل الجنة ورأى فيها "حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها مسك" [البخاري: 349] لكن الغريب أن ثمة أحاديث تتحدث عن رؤية النبي الجحيم وعذاب أهل النار [مسند أحمد: 13421؛ مسند أبي يعلى: 3992]. وهو ما لا يتفق مع العقيدة الإسلامية، فبحسبها العذاب في النار بعد الحساب يوم القيامة. إذاً، يبدو أن الفكرة صدى لمصدر آخر، فما عساه أن يكون؟
يتشابه المعراج المحمدي في مجمله مع أحد نصوص المدراش وهو "عظمة موسى" [جدولات موشيه: 4/ 22] الذي يحكي عن صعود موسى إلى "الرقيعيم" (أي السماوات) قبل تلقي التوراة، إذ مرّ بالسماء الرابعة ورأى الهيكل السماوي (فاليهود يؤمنون بأنه سابق على الهيكل الأرضي كما ذكرنا آنفاً) وعندما بلغ موسى السماء السابعة، قابله الرب الذي نزل عن عرشه. وأمر الملاك جبريل أن يرافقه في زيارته للجنة وجهنم، قبل أن يعود للأرض.
وقد ظهر نص معراج موسى الذي يعود إلى منتصف القرن الخامس حتى السابع الميلاديين، في عدد من مخطوطات المدراش، منها ما نشره الرابي أدولف يلنيك (1821 – 1893م)، وما نشره الرابي شلومو أهرون فرطهيِّمر (1866 – 1935) في أربعة مجلدات بين عامي 1893 و1897. وقد وُجدت لبعضها ترجمة عربية في مخطوط محفوظ في مكتبة برلين. وجمع الرابي ليفي غنزبيرغ (1873 – 1953م) كل تفاصيل معراج موسى من نصوص المدراش ضمن كتابه "الأساطير اليهودية". [Legends of the Jews:1/502-507]
الجنة وجهنم
آمن اليهود الصوفيون بوجود جنة سماوية وهي "فَرْدِس" (حديقة بالفارسية) أو فردوس -بخلاف جنة عدن الأرضية رغم أن القرآن لا يفرق بينهما لسبب يضيق المقام عن شرحه- وهذه الفردوس مذكورة في التلمود [حجيجاه: 14/ب] وارتبط صعود السماء بدخول هذه الفردوس حسب كتب التصوف اليهودية الأولى، التي حددت أربعة من الأحبار عرجوا إلى السماء ودخلوها ومنهم الحاخام إليشع بن أبوياه الذي قطف منها بعض براعم النباتات.
وبحسب مدراش "عظمة موسى"، أمر الرب الملاك جبريل باصطحاب موسى خلال معراجه إلى الجنة -تماماً مثل النبي محمد لاحقاً- وهناك رأى موسى أنهار الجنة السماوية الأربعة: نهر من عسل وآخر من لبن والثالث من الخمر والرابع من البلسم. وهو ما نجد صداه في آية ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [محمد: 15].
ووفقاً للمدراش نفسه، قابل موسى في السماء أخنوخ (إدريس) كما التقى بأبيه إبراهيم في السماء السابعة -كما في حديث الإسراء والمعراج- في الجنة جالساً على عرش، ورأى عروش إسحاق ويعقوب والأنبياء، وعروشاً لكل المتقين، بعضها من لؤلؤ وأخرى من ذهب وفضة إلخ، وتجري من تحت كل عرش الأنهار الأربعة المذكورة آنفاً، ما يفسر الأنهار الجارية "من تحت" أهل الجنة في القرآن ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾ [الكهف: 31].
ودون أن يتأذى، دخل موسى جيهِنّوم [بالعبرية: وادي هنّوم] (جهنم) ورأى عذاب أهل النار الذين كانوا يستغيثون بملك النار ليموتوا، ما نجد صداه في آية ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾ [الزخرف: 77] كما وجد جهنم تطلب مزيداً من الناس لتحرقهم كما في القرآن [ق: 30]. ولا يتسع المقام لحصر العذاب كله، وهو يشبه بعض ما جاء في أحاديث المعراج وآيات القرآن، ومنها أن موسى رأى النساء معلقات في جهنم من شعورهن ونهودهن، فلما سأل عن السبب قال له الملاك: "لأنهن لم يكنَّ يغطين رؤوسهن" مثلما نُسب للنبي محمد لاحقاً.
غشية العروج
كان الأحبار يدخلون في غشية عند صعودهم إلى السماء في رؤاهم، مثل الرابي نحونياه بن هقاناه، وبهذه الغشية نفسها عرج النبي محمد إلى السماء، وهو "بين النائم واليقظان" [صحيح البخاري: 3207] فقد كانت رحلة الإسراء المعراج "فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه" وبعد انتهائها "استيقظ وهو في المسجد الحرام" [صحيح البخاري: 7517].
وهو ما يؤكده القرآن عندما وصف الحادثة بأنها "رؤيا" [الإسراء: 60] ومرة أخرى بأنها "رؤيا قلبية" ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: 11]. وهكذا عرج النبي -مثل متصوفة اليهود- إلى السماء وهو في حالة غشية بين النوم واليقظة. واعتقد اليهود أن مَن يصعد إلى السماء السابعة حيث عرش الإله، يقترب من الحضرة الإلهية وفي القرآن ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 9]، ويمكن للصاعد حينئذٍ أن يتلقى وحياً بأسرار الخليقة، مثل الرابي عقيفا [الهياكل الصغير: § 346، 348]. ونجد في القرآن ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 11].
والعروج إلى السماء في الكتاب المقدس من خلال مركبة، وهي عربة سماوية من النار، تحملها مخلوقات هجينة كما في رؤيا حزقيال [حزقيال، 3: 12-13] أو خيول من النار كما حدث للنبي إيليا [ملوك الثاني، 2: 11-12]. وهذا التصور نجد له مقابلاً إسلامياً في حيوان البراق ("فَرَس" بالبهلوية الساسانية)، الذي حمل النبي للسماء. وقد يدل اسمه المشتق من "البرق" في العربية ما يفيد كونه من النار. ويوصَف البراق أحياناً بأنه أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل [صحيح مسلم: 162]، وهكذا قد يكون نظيراً لأحد الخيول النارية التي حملت إيليا في مركبة إلى السماء.
وقد نستنبط من هذا أن عروج النبي محمد للسماء كان في بادئ الأمر يُفهم منه أنه بالجسد مثل إيليا، وإلا لما كُذِّب، فلا يُعقل أن يُكذب أحدٌ على شيء رآه في حلم. وربما بعد ارتداد بعض الصحابة ["زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم الجوزية: 3/ 60]، تغيّر الخطاب، ليتبين أن الأمر برمته مجرد رؤيا (منامية) لا رؤية (بصرية) ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: 60] أي على غرار رؤيا حزقيال، ورؤى متصوفة اليهود، وهنا نجد للبراق صورة مخلوق هجين مثل مخلوقات رؤيا حزقيال الهجينة ["فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لابن حجر: 7/ 246].
وصف السماء
يذكر المدراشان "نظام الخلق الكبير" و"رؤى حزقيال" مع سفر "أخنوخ الثاني" أن الصاعد إلى السماء، يمر بسبع طبقات من السماوات (أو الهياكل بتعبير التصوف اليهودي)، لكلٍ منها اسم معيّن في التلمود [حجيجاه: 12/ب]. وربما من هنا منشأ السبع سماوات كما في القرآن ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾ [نوح: 15]؛ فالكتاب المقدس لم يذكر عدد السماوات. وفي حديث الإسراء والمعراج نجد أن النبي محمد صعد سبع سماوات حتى وصل إلى الله، مثل متصوفة اليهود.
وبحسب التصوف اليهودي كما في مدراش "رؤى حزقيال"، فإن المسافة بين الأرض والسماء تبلغ مسيرة خمسمئة عام، وكذلك المسافة بين كل سماء وأخرى، وكذلك حجم الماء الذي يعلوها، وهو ما يذكره التلمود على لسان الرابي يوحنان بن زكّاي [حجيجاه: 13/أ]. وهو عين ما حكاه ابن مسعود [عن النبي محمد] حيث "بين السماءِ الدنيا، والتي تليها خمسُمائةِ عامٍ، وبين كلِّ سماءٍ وسماءٍ خمسُمائةِ عامٍ، وبين السماءِ السابعةِ والكرسيِّ خمسُمائةِ عامٍ، وبين الكرسيِّ والماءِ خمسُمائةِ عامٍ، والعرشُ فوق الماءِ، واللهُ فوق العرشِ" ["شرح كتاب التوحيد" لعبد العزيز بن باز: 392].
والسماء في كتب التصوف اليهودي بناء، كما في القرآن [البقرة: 22]، مسوَّر بجدار من الرخام أو البلور، وتتكون من هياكل (أو بروج بالتعبير القرآني [البروج: 1]) وتتألف من عدد من الساحات والقاعات والغرف، تنتهي بغرفة العرش في السماء السابعة أو سماء السماوات (على غرار قدس الأقداس في الهيكل) [Hamblin, p. 445]. ونجد غرفات السماء التي تصورها اليهود في القرآن ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: 37] لأن السُكنى في الجنة ستكون في خيام على عادة العرب ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ [الرحمن: 72]. وما يؤكد أن غرف السماء مثل العروج اليهودي كانت معروفة في الإسلام المبكر، ما نُسب كذلك للشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة (الذي عاصر النبي محمد) في ما قاله عن الله: سَوَّى فأَغلَقَ دونَ غُرْفةِ عَرْشِهِ... سَبْعاً طباقاً وفوق فَرْع المَنْقَلِ [لسان العرب: 9/264]
وصف الملائكة
آمن متصوفة اليهود أن كل سماء تفصلها عن الأخرى بوابات تحرسها الملائكة [الهياكل الكبير: § 204-243، 248]، وفي حديث الإسراء والمعراج، كان الملاك جبريل، برفقة النبي محمد، يقرع باب كل سماء، وتفتح له الملائكة [صحيح البخاري: 7517] وأبواب السماء مذكورة كذلك في القرآن في غير موضع، مثل: [القمر: 11].
واعتقد متصوفة اليهود أن ثمة ملائكة لحراسة أبواب السماء والغرف السماوية، إذ قال الرابي نحونياه بن هقاناه: "في الهياكل السبعة. يجلس إله إسرائيل على العرش، بغرفة في جوف غرفة، وأمام كل هيكل ثمانية حراس [من الملائكة]". [الهياكل الكبير: § 206] ما نجد صداه في حديث الشفاعة المنسوب للنبي محمد، وفيه يقول: "... فأستأذِن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً" [صحيح البخاري: 7440، صحيح مسلم: 193] ويُفهم منه أن الله في دار (غرفة) يحرسها بعض الحُجّاب من الملائكة.
وبخلاف الملائكة الحارسة، اعتقد متصوفة اليهود أن السماء تقطنها حشودٌ هائلة من الملائكة هادرة بالتسبيح، وهذه الملائكة تقوم مقام اللاويين الكهنة، فكما كانت وظيفة هؤلاء تولي الكهانة في الهيكل، فإن الملائكة يكهنون في الهيكل السماوي، وهذه الصورة نجدها في حديث الإسراء والمعراج، حيث الملائكة يطوفون بالبيت المعمور، ويسبحون لله.
وفي مخطوط العروج اليهودي المنسوب للرابي إليشع بن أبوياه، وهو أحد كتب التصوف اليهودي، يقول: "حين ارتقيت السماء، رأيت إله إسرائيل، يهوه رب الجنود، جالساً تلقاء باب الفردوس، والملائكة حافين من حوله، مائة وعشرون ألف ألف ملك" [صعود إليشع بن أبوياه: § 597] ونجد في القرآن ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: 75] وهو ما نجده أيضاً في بعض الأسفار المنحولة حيث آلاف الملائكة تتحلق الرب الجالس على العرش [أخنوخ الأول 14: 22].
ويذكر التلمود أن الملائكة التي تكهن في الهيكل السماوي تتجدد كل يوم [حجيجاه: 14/أ] وفي حديث الإسراء والمعراج المنسوب إلى النبي محمد، يحكي فيه عن البيت المعمور الذي يصلي فيه سبعون ألفاً من الملائكة كل يوم ولا يعودون إليه [صحيح مسلم: 162].
حجاب الله
تشير كتب التصوف اليهودي إلى وجود حجاب من النار في غرفة العرش يحجب الرب عن مخلوقاته [الهياكل الصغير: § 372، أخنوخ الأول 14: 21-22] كيلا تصاب بأي ضرر. وهذا الحجاب على غرار الحجاب الذي كان موجوداً في قدس الأقداس في الهيكل الأرضي [خروج 26: 31] وقد شاهد ذلك الحجاب الرابي عقيفا عند صعوده إلى السماء.
وفي القرآن ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾ [الشورى: 51] وقد وصف النبي محمد هذا الحجاب، في ما نُسب له، فهو من النور في رواية أبي موسى الأشعري، أو من النار في رواية أبي بكر، علماً بأن "نور" تعني في الآرامية "نار"، وكتاب "الهياكل الصغير" مكتوبٌ بها. إذ يقول النبي: "لو كشفه [أي الحجاب] لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" [صحيح مسلم: 179] وربما أشار القرآن لهذا الحجاب في آية ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ [النجم: 16] في رؤيا النبي محمد.
وبحسب نصوص العروج اليهودية فإن بعض مَن صعدوا إلى السماء واجتازوا الحجاب بإذن من الرب، تمكنوا من رؤية الإله جالساً على العرش [أخنوخ الأول 14: 18-20]. لكن الأحبار حذروا من عاقبة النظر إلى الرب، لأن التحديق فيه خطير وقد يصرع صاحبه، كما حدث للحاخام بن عزّاي، الذي هلك عندما حدّق في الحضرة الإلهية [حجيجاه: 14/ب] ولعل آية ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ﴾ [النجم: 17] تشير إلى ذلك التحذير اليهودي من إمعان النظر في الرب.
لكن هل رأى النبي محمد ربه في معراجه مثل متصوفة اليهود؟
رؤية الله
آمن اليهود الصوفيون بإمكانية رؤية الرب، فلقد رآه الرابي يشماعيل جالساً على العرش [المركبة الكبير: §691، 655] ورآه الرابي إليشع بن أبوياه جالساً على العرش تلقاء الجنة [صعود إليشع بن أبوياه: §597]. وفي الإسلام نجد هذه الصورة في حديث "وهوَ في جنَّتِهِ على عرشِهِ" [كتاب العرش لشمس الدين الذهبي: 69] ويستكمل القرآن الصورة: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: 75] وبحسب الآيات الأولى من سورة النجم فقد رأى النبي محمد ربه عند الجنة أيضاً خلال معراجه [النجم: 13].
وكان ابن عباس يصر على رؤية النبي ربه ويحتج بسورة النجم، ويرى أن رؤية الله ممتنعة إذا كان في هيئته النورانية، أما إذا تجسَّد فيُمكن رؤيته ["أسماء الله وصفاته" للبيهقي: 942، 943] ورغم أن القرآن ينزه الله عن الرؤية [الأنعام: 103] لكن هذا في الحياة الدنيا فقط، لأن المؤمنين سيرونه يوم القيامة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23] على غرار ما يذكره التلمود عن المتقين الذين سينعمون بلذة النظر إلى الحضرة الإلهية في اليوم الآخر [برخوت (باب "البركات" التلمودي): 17/أ].
في رواية مالك بن أنس لحديث الإسراء والمعراج -عن طريق شريك بن عبد الله- قال إن جبريل ارتفع بالنبي محمد "حتَّى جَاءَ بِهِ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الجَبَّارُ تَبَارَك وتَعَالَى فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا شَاءَ فِيمَا أَوْحَى" ["أسماء الله وصفاته" للبيهقي: 939] وهو يتطابق مع مدراش "عظمة موسى" حيث عندما صعد موسى إلى السماء نزل له الرب من عرشه ووقف أمامه.
ورغم اختلاف الصحابة في رؤية النبي محمد ربه، فإن بعض الروايات تؤكد أنه رآه عندما دنا منه وأوحى إليه ما أوحى ["تاريخ الإسلام" لشمس الدين الذهبي: 2 /257، 267] وفي رواية أخرى، لا تصح عند أهل السنة، أنه رآه "على كرسيٍّ من ذَهَبٍ يحملُهُ أربعةٌ منَ الملائِكَةِ في صورةِ رجلٍ وملَكٌ في صورةِ أسدٍ وملَكٌ في صورةِ ثورٍ وملَكٌ في صورةِ نَسرٍ في روضةٍ خضراءَ" ["العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" لابن الجوزي: 1/ 37]. وهذه المخلوقات الملائكية الأربعة مذكورة في كتب التصوف اليهودي وهي تحمل عرش الرب في غرفة العرش [الهياكل الكبير: § 103]. والقرآن يشير إلى حملة العرش لكنه يجعلهم ثمانية [الحاقة: 17].
الشاب الأمرد
يقول أغلب المسلمين، وعلى رأسهم السيدة عائشة وعبد الله بن مسعود، إن مَن رآه النبي محمد في المعراج هو الملاك جبريل، ربما استفظاعاً لفكرة أن يرى النبيُ الله، لكن سياق الآيات يشير إلى أنه -مثل متصوفة اليهود- رأى الذات الإلهية، وقرائن ذلك ثلاث: أولها الآية ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10] فلو كان المقصود جبريل لما وُصف النبي بأنه عبده. وأما في آية ﴿ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ﴾ [النجم: 6] التي يعزونها للملاك القوي جبريل، فإن ذكر الاستواء في القرآن لم يقترن مع جبريل قط، بل مع الله الذي استوى إلى السماء أو استوى على العرش، في تسعة مواضع أخرى.
وأما لفظة "ذو مِرَّة" (القوي) التي يظن المفسرون أنها تشير إلى جبريل الموصوف في القرآن بأنه ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: 20] -مثلما تذكر بعض الأسفار اليهودية المنحولة عن جبريل القريب من العرش [أخنوخ الثاني: 1 / أ]- فإنها تنطبق على الله كذلك، ولعلها ترجمة عربية لأحد أسماء الرب في العبرية وهو "إيل شداي"، وربما من ترجماته أيضاً "شديد المِحال" [الرعد: 13] و"ذي الطول" [غافر: 3] وجميعها تعني القوي الجبار.
وقد يُرد على ذلك بالآية التي تشير إلى رؤية ثانية ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى، عندها جنة المأوى﴾ [النجم: 13-15] فإذا كان المقصود هنا الله، فمتى رآه النبي محمد أول مرة؟ الإجابة: في المنام. فقد نُسِب للنبي محمد أنه قال: "رَأَيْتُ رَبِّي [وفي رواية: في المنام] فِي صُورَةِ شَابٍ أَمْرَدَ لَهُ وَفْرَةٌ جَعْد قَطَطٌ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ" ["بيان تلبيس الجهمية" لابن تيمية: 7/ 290] وهو حديث صحيح عند أهل السنة رغم ما فيه من تجسيم لله، لأنه حُكي على سبيل رؤيا المنام، ولا حرج عندهم في ذلك.
لكن أين ظهر تشبيه الله بالشاب الأمرد أول مرة؟ الإجابة: في نصوص المدراش أيضاً. حيث يذكر مدراش سفر الخروج أن الرب كان ينزل في صورة شاب وسيم ويرعى أطفال بني إسرائيل وهم في مصر، وفي هذه الصورة تعرف عليه بنو إسرائيل عند البحر عندما هربوا من فرعون [مدراش شيموت ربا (سفر الخروج) 23: 8-9].
سدرة المنتهى
أما "سدرة المنتهى" فقد توهّم المفسرون أنها شجرة سدر، كما يُوحِي اسمها، لورود السدر في القرآن [سبأ: 16، الواقعة: 28]، فظنوا أن "السدرة" هي واحدة السدر، وتمادوا في وصف حجمها وشكل ثمرها، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، لا يحملهم على ذلك سوى ظاهر كلمة "سدر" في العربية. لكن بعضهم لم يلتفت لظاهر الكلمة، مثل الصحابي عبد الله بن مسعود، الذي قال إنها فراش من ذهب [صحيح مسلم: 173].
وانتقال الحديث فجأة إلى وجود شجرة، بل وشجرة سدر (نبق) تحديداً، يبدو غير متسق في سياق الآيات، وفي هذه الحالات ينبغي إعادة النظر في القراءة القرآنية، لأن اضطراب المعنى يُردُّ في غالب الأحيان إلى خطأ في القراءة. والتفسير الذي نراه يحل هذا اللغز، هو أن الكلمة ليست عربية وإنما عبرية، فإن كلمة "سدره" تعني "طبقة" من ضمن معانيها في العبرية، وقد وردت هذه الكلمة في الكتاب المقدس العبري، في وصف سقف هيكل سليمان المصنوع من طبقة من ألواح الأرز [ملوك أول 6: 9].
وهكذا فسدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى هي الطبقة النهائية أو سقف السماوات، حيث يوجد الله عند الفردوس كما تخيل متصوفة اليهود. واللافت أن هذا التناظر بين السماوات السبعة وبين الهيكل الأرضي ذي الأجزاء السبعة كما في المشناه، هو من صميم التصوف اليهودي. ولا نستبعد أيضاً أن تكون سدرة المنتهى هي "سدره دِلعيل" (طبقة الأعالي) بآرامية الترجوم التي تعني "الطبقة العليا (من الملائكة)" أي الملائكة المحيطة بالعرش. ولا عجب من ورود ألفاظ عبرية أو آرامية في القرآن (راجع مقالتنا في هذا الصدد هنا).
التأثير اليهودي
ويبقى تساؤلان: إذا كانت هذه النصوص اليهودية أسبق من الإسلام فكيف عساها انتقلت إليه؟ ولماذا انطمس الصعود للهيكل السماوي من الصيغة العباسية التي وصلتنا من الإسلام؟
لقد كان لليهود ممالك داخل الجزيرة العربية إبان ظهور الإسلام، وضمَّت يثرب بعض بيوت المدراش (أو المدْراس) المذكورة في الأحاديث النبوية، مثل ما نُسِب لأبي هريرة: "بيْنَما نَحْنُ في المَسْجِدِ، خَرَجَ النبيُّ (ص) فَقَالَ: انْطَلِقُوا إلى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا حتَّى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ فَقَالَ: أسْلِمُوا تَسْلَمُوا" [البخاري: 3167؛ مسلم: 1765] فضلاً عن وجود اليهود بالشام واليمن، وهما وجهتان لتجارة قريش.
وكانت الغاية من الصعود للهيكل السماوي هي نفسها من استقبال قبلة الهيكل الأرضي في الصلاة أول الأمر: استمالة اليهود إلى الإسلام. فلما يئس النبي محمد من إيمان اليهود به وضاق صدره بما يقولونه عن تبعيته لهم، تحولت القبلة من بيت المقدس (الهيكل الأرضي) للكعبة، وتحوّل البيت المعمور (الهيكل السماوي) كذلك من بيت فوق موضع الهيكل لبيتٍ فوق الكعبة. وطُمِس المعراج اليهودي المتواتر آنذاك، وصار معراج النبي محمد كأنه حدث فريد في التاريخ.
المصادر والمراجع الأجنبية:
1- David J. Halperin, The Faces of the Chariot: Early Jewish Responses to Ezekiel’s vision, (Tübingen: J. C. B. Mohr, 1988).
2- David J. Halperin, “Hekhalot and Miʻrāj: observations on the heavenly journey in Judaism and Islam,” in Death, Ecstasy, and Other Worldly Journeys, (ed. John J. Collins and Michael Fishbane; State University of New York Press, 1995) 269-288.
3- Hugo Odeberg, 3 Enoch or the Hebrew Book of Enoch, (Cambridge: Cambridge University Press, 1928).
4- Ithamar Gruenwald, Apocalyptic and Merkavah Mysticism, (Leiden: Brill, 2014).
5- James R. Davila, Hekhalot Literature in Translation: Major Texts of Merkavah mysticism, (Leiden: Brill, 2013).
6- JPS Tanakh, (Philadelphia: The Jewish Publication Society, 1999).
7- Louis Ginzberg, Legends of the Jews, vol. 1 (Philadelphia: The Jewish Publication Society, 2003).
8- Marcus Jastrow, A Dictionary of the Targumim, the Talmud Babli and Yerushalmi, and the Midrashic Literature, (London: Luzac & co., New York: Putman’s Sons, 1903).
9- Midrash Rabbah, trans. Harry Freedman and Maurice Simon, (London: Soncino Press, 1939).
10- William J. Hamblin, "Temple Motifs in Jewish Mysticism," In Temples of the Ancient World: Ritual and Symbolism, ed. Donald W. Parry (Salt Lake City: Deseret Book and FARMS, 1994) 440-477.
11- Peter Schäfer, “In Heaven as It Is in Hell: The Cosmology of Seder Rabbah de-Bereshit,” in Heavenly Realms and Earthly Realities in Late Antique Religions, ed. Ra‘anan S. Boustan and Annette Yoshiko Reed (Cambridge: Cambridge University Press, 2004) 233-274.
رصيف 22