السيد شحته:
الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين"، "يهود مصر"، "اليهود في مصر"، "المولودة"، هذه عيّنة من عناوين عدة كتب ظهرت خلال الأعوام العشرة الأخيرة وحققت نجاحاً نقدياً وعلى مستوى المبيعات في مصر، بعضها كتبه يهود مصريون رحلوا عن البلاد، أو باحثون ومؤرخون وكتّاب مصريون معاصرون استيقظ لديهم الشغف بإعادة اكتشاف تاريخ يقبع خلف "الشيطنة" التي قُدّم بها اليهود المصريون في الأدب والسينما والدراما والدراسات الأكاديمية عقب صحوة يوليو/ تموز 1952.
قبل ستة أشهر، أقيمت الدورة الـ52 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب بعد عامين من التوقف بسبب جائحة كوفيد-19، وشهدت الدورة التي انطلقت متأخرة عن موعدها الأصلي صدور 12 كتاباً ورواية تهتم بتاريخ اليهود المصريين منذ واقعة الخروج التوراتية الأولى وصولاً إلى الخروج الذي كان معظمه إجبارياً خلال خمسينيات القرن الماضي وستينياته.
إعادة اكتشاف
من تلك الكتب، كتاب "ميتسراييم... حكايات وعائلات يهود مصر الملكية" الموصوف بـ"مؤسس المدرسة الإنسانية في البحث في تاريخ مصر"، والذي يستعرض فيه الباحث مدحت عبد الرازق ما يراه "مغالطات أحاطت بالصورة النمطية لليهودي بوصفه مُرابياً يسعى لامتصاص دماء الناس".
بحث عبد الرازق في موضوع مفضل لدى المؤرخين المصريين الذين تطرقوا إلى تاريخ اليهود في بدء القرن العشرين ومنتصفه، عندما بزغ رجال أعمال من اليهود المصريين واندمجوا في منظومة "الاقتصاد الوطني" التي أسسها طلعت حرب. ركّز الباحث على رؤية "الإنساني" وراء الثروات التي جناها هؤلاء.
"تاجر البندقية" ليس حقيقياً
كذلك يستعرض عبد الرازق الصورة النمطية للتاجر اليهودي كما شاعت في الذاكرة الجمعية المعاصرة للمصريين، من دون إشارة إلى كون هذه الصورة نفسها كانت شائعة عن التجار اليهود في الآداب الأوروبية في عصر النهضة وما تلاه، وخاصة في الأدب الوسيط وتحديداً كتابات الإنجليزي الأشهر وليم شكسبير. واستمرت تلك الصورة شائعة حتى كتابات العصر الفيكتوري (القرن التاسع عشر). إذ شاع عن التاجر اليهودي صفات الجشع والنزوع للانتقام واستغلال الضعفاء كما ظهر في مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير، أو في رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز.
يقول عبدالرازق: "اتصف التاجر اليهودي بصفة الأمانة، فهو لا يبيع بضاعة غير صالحة، ولا يغش في تجارته أو يحنث بوعده أو ينصب فخاخ النصب، أو يحاور ويناور ليثبت صحة كلامه ويحسن بضاعته".
ويبرِز الدور الذي لعبه يهود مصر في النهوض باقتصادها خلال الحقبة الملكية، يقول: "أسهمت الطائفة اليهودية في حركة النمو الاقتصادي التي شهدتها البلاد في العهد الملكي، بدءاً من استصلاح الأراضي وعمليات غزو الصحراء التي بدأها محمد علي بشق ترعة المحمودية، واستكملها اسماعيل بشق ترعتي الإسماعيلية والإبراهيمية".
الحنين إلى الوطن الأم
يضم معرض القاهرة للكتاب هذا العام كذلك طبعات جديدة من كتب سبق نشرها، إلى جانب الكتب الحديثة المعنية بالبحث في تاريخ اليهود المصريين، منها كتاب "يهود مصر في القرن العشرين" لمحمد أبو الغار الذي يعود شغفه بتاريخ اليهود المصريين وحركتهم الجغرافية إلى العقد الأول من القرن الحالي، حين أصدر كتابه "يهود مصر من الازدهار إلى الشتات" عام 2004.
وكتاب "اليهود في الإمبراطورية العثمانية" الصادر حديثاً عن المركز القومي للترجمة، إضافة إلى عدد كبير من الروايات، منها "ثلاثية اليهود" لكمال رحيِّم و"أوراق شمعون المصري" لأسامة الشاذلي.
لا يخفى أن الشغف بإعادة اكتشاف تاريخ يهود مصر يثير تساؤلات عدة عن سر تلك الظاهرة التي تسجل حضورا متزايداً، منذ كتاب المؤرخ جوئيل بينين "شتات اليهود المصريين" الصادر عام 2007. والذي أثار ضجة كبيرة حين صدوره إذ تلقاه القراء بفضول، محققاً مبيعات لافتة. وقد وجد فيه بعض الكتّاب المحافظين "تطبيعاً" مرفوضاً. لكن الكتاب فتح الباب لتيار من المراجعة لم يتوقف عند الدراسات التاريخية والأدبية، بل امتد إلى السينما التي أنتجت فيلماً وثائقياً مهماً للمخرج أمير رمسيس "عن يهود مصر".
حنين "الشركسكين"
على الجانب الآخر، أسهمت شبكات التواصل الاجتماعي في إظهار حنين اليهود المصريين إلى تاريخهم وأماكنهم المتروكة في مصر، وظهرت عدة كتب في السوق المصرية تُرجمت عن أصولها الفرنسية والإنجليزية والهولندية لكتابات يهود مصريين أو أبنائهم وأحفادهم عن ذكرياتهم في مصر وحنينهم إليها، وسجل بعضهم رحلات العودة لزيارة البيوت القديمة بعد تخفيف الحظر على عودتهم عقب اتفاقية السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل في نهاية السبعينيات.
من تلك الكتب، كتاب "الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين" الذي سجلت فيه لوسيت لنيادو السيرة الذاتية لعائلتها اليهودية التي اضطرت إلى مغادرة مصر عام 1963، مبرزةً فيه حنين أبيها ليون صاحب البدلة البيضاء إلى مصر.
الفرار إلى جنوب إفريقيا
يقول المؤرخ عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، لرصيف22 إن إعادة اكتشاف تاريخ يهود مصر بدأت عقب اختيار السادات منهج التصالح مع إسرائيل، و"حاول البعض خلال تلك الفترة أن يستغلوا الأمر في الهجوم على ثورة 1952 وإظهارها وكأنها قد تورطت في طرد اليهود من مصر. والحقيقة أن هذا لم يحدث، فلم يتعرض اليهود للطرد أو التهجير. أضف أن خروجهم من مصر أسبق بكثير من ثورة يوليو (تموز) إذ بدأت موجات نزوحهم عام 1943 مع هجوم هتلر في الحرب العالمية الثانية على مصر، حيث وصلت قواته إلى العلمين (شمال غربي البلاد). لذا خشوا أن يتكرر الهولوكست معهم. وسارع عدد منهم إلى بيع ممتلكاتهم ومغادرة مصر حرصاً على حياتهم".
لكن خلاصة الدسوقي تتناقض مع الوثائق التي تثبت أختام المنع من العودة إلى البلاد وسحب الجنسية المصرية من آلاف اليهود الذين غادروا البلاد إلى دول أخرى غير إسرائيل، إذ اختار الكثير منهم البقاء بعيداً عن إسرائيل رفضاً لها، لأسباب دينية أو سياسية، وخرجوا إلى دول أخرى، منها الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وبريطانيا وأستراليا وغيرها. كما يرصد المؤرخ جوئيل بينين في كتابه "شتات اليهود المصريين". وسبقه إلى هذا الاستنتاج الدكتور محمد أبو الغار في كتابه "يهود مصر من الازدهار إلى الشتات".
ويضيف الدسوقي: "حتى اليهود الذين ظلوا في مصر ولم يغادروها إلا في الخمسينيات لم يفعلوا ذلك تحت تهديد أو إكراه، إذ ظلوا طوال الوقت يعاملون كمواطنين مصريين مثلهم مثل المسلمين والمسيحيين. وهم قاموا بهذه الخطوة في سياق تاريخي يتعمد البعض إغفاله. فاليهود كانوا في أغلبهم من الأثرياء والرأسماليين، وعندما اتخذت حكومة الثورة قراراً بتأميم رأس المال، وجدوا في ذلك نوعاً من الإضرار بهم، ففضلوا بيع ممتلكاتهم والمغادرة إلى أمريكا".
وينفي أن يكون هناك تشويه لصورة اليهود في مصر، أو عداوة موجهة إليهم بسبب دينهم في أي فترة من الفترات إذ "يشهد التاريخ أنهم تولوا مناصب رفيعة في مصر وامتلكوا متاجر وثروات طائلة"، وهي حقيقة مستقرة، وهنالك شواهد عليها، إلا أنها انتهت عقب ثورة يوليو/ تموز 1952.
الدور الوطني لليهود
أما المؤرخ مدحت عبد الرازق مؤلف كتاب "ميتسراييم" الذي هو الأحدث في قائمة الكتب الصادرة عن يهود مصر، فيقول لرصيف22: "أتفق جداً مع القول بأن هناك رغبة متزايدة في إعادة اكتشاف تاريخ يهود مصر، ولكني أعتبره شغفاً موصولاً بشغف أكبر، هو الشوق لاكتشاف التاريخ بصفة عامة. فهناك شوق لاكتشاف تاريخ اليهود، وشوق آخر لاكتشاف التاريخ الإسلامي، وشوق ثالث لاكتشاف تاريخ أسرة محمد على، وشوق رابع لاكتشاف تاريخ مصر القديمة. وهي كتب مبيعاتها هائلة والإقبال عليها جارف".
ويتابع: "هذه الأشواق تحمل في جزء منها نوستالجيا أو حنيناً لماضٍ كنا فيه أقوياء. وفي جزء آخر تحمل دفقاً لتيار ثقافي بين الشباب أفرزته ثورة 25 يناير (2011) برغم كل ما سادها من تشوش. لكن تبقى حقيقة هامة هي أن الثورة أفرزت تياراً لديه شغف بالمعرفة يصل إلى حد النهم. أضف أن قراءة التاريخ تمثل مقاومة نفسية تبحث عن هويتها من غير إرشاد موجه أو إعلام".
ويضيف: "من التصورات الطفولية أن ندمغ أتباع دين معين بصفة معينة، كأن نقول إن اليهود بخلاء، والمسلمين عنيفون، والمسيحيين مراؤون. وأول درس تعلمناه في كلية الآداب، قسم التاريخ: إياك والتعميم. وقد ظللنا سنوات طويلة نهيل على اليهود التراب ونصفهم بكل خسيس وخبيث، وجئت أنا لأقول إنهم أمناء. ومن دلائل ذلك أنهم استمروا ناجحين في مصر وفي أوروبا وفي أمريكا وفي إسرائيل وفي أي دولة طردوا إليها. فكيف لتاجر غير أمين أو سياسي غير موهوب أو صديق خائن أن يحقق النجاح المتواصل في مجتمعات متباينة من حيث التركيبة الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية؟".
ويكمل: "في كتابي الجديد أظهرت دورهم الوطني، فمنهم أصدقاء للزعيم مصطفى كامل وللزعيم سعد زغلول وللزعيم طلعت حرب. كما كانت لهم علاقة وثيقة بالقصر الملكي ودور مميز في ثورة 1919 وفي بناء مؤسسات بنك مصر، وفي مقاومة الاحتلال البريطاني، بالإضافة إلى أدوارهم على المستوى الفني والأدبي والمسرحي والرياضي. من هذا المنطلق لا يحق لأحد أن ينعت كل أعمالهم بالشر ويتنكر لأدوارهم ويفتعل تخيلات تآمرية ؟"
ويزيد: "إن العلاقة بين التاريخ وحركة 23 يوليو هي معكوسة. فإدارات الدول المتقدمة تسترشد بالتاريخ وبالتجربة وبالتنوير. وهذا هو أول سطر في مشروع إعادة قراءة التاريخ الذي أسسته حين استعرت حكمة ونستون تشرشل الخالدة ‘لا شيء يعلمنا السياسة مثل قراءة التاريخ’. أما حركة يوليو، فقد أنشأت وضعاً معكوساً حين جعلت التاريخ رهيناً لدى السياسة، أو لدى النظام الحاكم. ومن هنا جرى تجاهل أو تشويه كل ما لا يريده نظام يوليو، مثل تاريخ اليهود وتاريخ الأسرة العلوية وتاريخ الممالك العربية".
ويختم عبد الرازق: "مشروع إعادة قراءة التاريخ هو مشروع شامل هدفه تقديم جرعات عن شخصيات وأحداث وتجارب شكلت ملامح الحاضر الذي نعيشه، وبدراستها نستطيع رسم ملامح لمستقبل واعد".
تاريخ من العزلة
ويقول لرصيف22 الصحافي والباحث في الشؤون الإسرائيلية إيهاب عبد الجواد: "لاحظنا أخيراً أن سيرة الجماعات اليهودية في مصر استهوت بعض المؤرخين والكتّاب، لكني أخشى أن تتقاطع الكتب التي تصدر في هذا الصدد مع الرغبة المحمومة للإدارة الأمريكية التي بدأت في عهد ترامب بهدف إعادة إحياء ما يسمى بالروابط اليهودية في المنطقة".
ويرى أن عدداً كبيراً من يهود مصر سعوا إلى الحفاظ على مصريتهم، "ومنهم اقتصاديون مخلصون لبلدهم مثل يوسف قطاوي الذي شغل منصب وزير المالية في العهد الملكي". ويلفت إلى أن معظمهم ركّزوا نشاطهم الاقتصادي على التجارة والسمسرة والأعمال المصرفية، وكانوا حريصين على التقرب من البلاط الملكي ومؤسسات الحكم والسلطة في البلاد.
رصيف 22