محمد المحمود:
يُرَاقِب العالمُ مشاهدَ الغزو الروسي الغاشم لأوكرانيا بكثير من الحزن والألم، وبكثير من القلق والترقّب أيضا. الحزن والألم مبعثهما: مشاهدُ القتل والدمار، وتقطيع أوصال دولة كبيرة كانت آمنة مستقرة، فضلا عن قوافلِ الهاربين بأرواحهم إلى دول الجوار على هيئة لاجئين لا يعرفون هل سيعودون إلى وطنهم ذات يوم أم لا. والقلق والترقب مبعثهما: انفتاح العدوان على كل الاحتمالات (إذ لم يُحَدِّد المُعتدي أهدَافَه، ولم يَرسم حدودَ مطامعه)، وغموض صور الردع لدى الطرف الآخر/ الغربي، ومآلات كلِّ ذلك على كلِّ تفاصيلِ النظام السياسي الدولي، حاضره ومستقبله، وعلى الاقتصاد العالمي الذي سَتُؤثّر مُتَحوّلاتُه الكبرى على الجميع؛ حتى في أدق تفاصيل المعاش اليومي.
يتجاوز كثيرون مشاعرَ الحزن والألم، فضلا عن القلق والترقب، إلى مشاعرِ الغضب مما جرى ويجري من عدوان. العدوان يبعث برسائل الخوف إلى كل أحد، في كل مكان. ما حدث يُشْبه إلى حد كبير ما حدث عام 1990 عندما اجتاح صدام حسين الكويتَ، وعرّض النظام الدولي للانهيار. آنذاك شعر الجميع بالخطر، إذ كانت الرسالة العالمية التي بعث بها العدوان تقول بأن منطق القوة الغاشمة هو ما يحكم، وليس منطق القانون، ولا أنظمة التوافق الدولي. وهذا هو بالذات ما شعر به العالم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصة الدول الأوروبية القريبة جغرافيا من الحدث، وأوروبا الشرقية على نحو أخص؛ لِما لديهم من سابق تجربة مريرة مع الاتحاد السوفياتي في التاريخ القريب: القرن العشرين. تسلل إليهم الخوف، وغاب الأمان، وحُقّ لهم؛ إذ ما روسيا اليوم إلا الوريث الطبيعي (ثقافيا وسياسيا وجغرافيا وعسكريا) لذلك المعسكر الشرقي البائد الذي طالما سلبهم أدنى مقومات الأمان.
إذن، معالم الصورة واضحة؛ بصرف النظر عن المُبَرّرات التي ـ كما قلتُ في مقال سابق ـ يستطيع أي عدوان غاشم التذرّع بها في إعلامه ودِعايته وادّعاءاته. وحيث الغرب (هذا الغرب القيّم على هذه الحضارة العالمية)، فهم الأمرَ على هذا النحو، وأدرك حجمَ الخطر، واسْتَنفرَ كلَّ طاقاته؛ لِتَدارك الأمر قبل فوات الأوان؛ مستحضرا ـ بألم ورُعْب ـ كارثةَ التساهل اللاّمسؤول مع هتلر في بدايات سلوكيات العدوانية، فإن ذوي التوجهات الضدّية صرفوا أنظارهم عن كل إحداثيات هذه الكارثة، واستهانوا بكل أخطارها، سواء الأخطار قريبة الأمد أو بعيدة الأمد، وأخذوا في التنفيس عن مكنون نفسي مأزوم تجاه الغرب، وما كان هذا المكنون النفسي إلا تلك الضدية المَرَضِيّة التي تحدثتُ عنها مرارا في أكثر من مقال، والتي تحوّلت في كثير من دول العالم الثالث، وخاصة في العالم العربي، إلى عُقدة نفسية جمعية تجاه الغرب، فالغرب/ الآخر أصبح ـ في نظرهم، وبالتّناص مع العبارة السارترية الشهيرة ـ هو الجحيم، والجحيم هو الغرب !
مِنْ بَين كُلِّ معالم المأساة الأوكرانية، ومِنْ بَين كُلِّ المشاهد، ومِنْ بَين كُلِّ المَخاوف وكُلّ الاعتبارات، المعقولة/ الواقعية وغير المعقولة/ غير الواقعية، وفي تصرّف طفولي عبثي، وَقَع بعضُ مُمثلي الضدّية العربية عند بعض العبارات العابرة أو التصريحات الهامشية التي صدرت عن هذا الإعلامي أو ذاك، بدعوى أنها تحمل العنصرية تجاه غير الأوربيين/ غير الغربيين. وبالتالي، حكموا ـ في انْتشاءٍ تَرَبُّصي حَقود ذي طابع سادي ـ بأن الغرب/ كل الغرب عنصري، وأنه ـ بالضرورة ـ كَارِهٌ مُعَادٍ لغير الأوربيين، وأن هذا الغرب يحمل في جِيناته الثقافية كرها أزليا وازدراء أصيلا لدول العالم الثالث، للشرق أوسطيين، وللعرب على وجه التحديد.
لقد أمسك هؤلاء الضّديون المأزومون بتلك العبارات والتصريحات وفَلتات اللسان العابرة، أمسكوا بها على نحو هستيري، وتركوا كل حضارة الغرب، وكل تاريخ الغرب: بعصر نهضته، وبحركته الإنسانية، وبإصلاحه الديني، وبعصر أنواره، وبحداثته، وما بعد حداثته... إلخ، بل وتركوا كلَّ واقع الغرب الإنساني الذي استضاف عشرات الملايين من العرب، ومن الشرق أوسطيين، ومن العالم ثالثيين على وجه العموم، وأدمجهم ـ بصورة لا مثيل لها في التاريخ ـ ضِمنَ تركيبته الوطنية والثقافية والاجتماعية، حتى وصل كثير منهم إلى مناصب ومراكز لا يحلمون بها ـ مجرد حلم ! ـ في أي من دول العالم الثالث، بل ولا يَتخيّلون ـ مجرد خَيال شاطح ـ أن يظفروا ولو بـ 1% من هذه الحقوق في روسيا أو في الصين.
حضارة الغرب، إبداع الغرب، إنسانية العالم الغربي...إلخ هذه التجليات الاستثنائية، ليست مجرد ادعاء، ليست تصريح فردي هامشي، ليست مجرد إعلان عابر، ليست مجرد خاطرة إعلامي في لحظة قَلق وارتباك، حتى تُنْقض بتصريح فردي هامشي، أو بإعلان عابر، أو بخاطرة إعلامي مغمور. التراث لا يُنْقَض ولا يُنْتَقص منه إلا بتراث في حجمه، بفاعلية توازيه، والقوانين والأنظمة لا تُنْتَقض إلا بقوانين وأنظمة قادرة على إلغائها أو ـ على الأقل ـ اختراقها، والثقافة الجمعية الراسخة المتنامية على امتداد سبعة قرون، وعلى اتساع قارّتين أو ثلاث، لا تُفَنَّد مقولاتها إلا بثقافة جمعية أقوى وأكثر فاعلية، أو ـ على الأقل ـ قادرة على منافستها في توجيه الرأي العام.
والغريب أن هؤلاء الضديين الذين يمسكون بالعبارات العنصرية الهامشية، الاستثنائية والعابرة (وهم عنصريون حتى النخاع !)، لا يُمْسِكون بها لمجرد استنكارها والدعوة إلى تجريمها كحالات خاطئة، بل يُمْسِكون بها كـ"أدلة دامغة" على أن الغرب كله عنصري وغير إنساني، وبالتالي، غير حضاري. ويقولون بالمعنى الضمني ـ المُتَلَبِّس بحالة سيكولوجية مَرَضِيّة ـ: إننا ـ أي الضدّيين الكارهين للغرب ـ الأكثر وعيا، والأعمق حضارة، والأنقى إنسانية. لا يقولون هذا ـ ضمنيا ـ لا على سبيل المزاح الحُر، أو المداعبة المُتَذاكية بصورة المفارقة، بل يقولونه على سبيل التأكيد الجازم، فيصدر عنهم الاتهام على هذه الحال؛ حتى وإن كانوا في قرارة أنفسهم يُدرِكون أنهم لا يَصِفون واقعا، ولا يُقَرِّرُون حقيقة، بقدر ما يُعَبِّرون عن غضب مُحْبَط مكتوم.
لقد كان من السهل تَفهّم هذا العبث لو أنه كان يقف عند حدود التعبير المرضي عن كراهية الغرب. كان يُمْكن تَفَهّم حتى الكراهية اللاّمبررة، لو أنها كانت مجرد تنفيس، لو أنها كانت مجرد هجاء شاعري للغرب، لهذا الغرب الذي يُشْعرهم على الدوام ـ منذ قرنين، منذ حملة نابليون ـ بكل عيوبهم التي يُحَاولون الهرب منها. إنهم للأسف، لا يُعَبِّرون عن هذه الكراهية مجردة، في اتجاه واحد، بل كثيرا ما يُعبّرون عنها في سياق التقابل مع نموذج آخر، مع نموذج بائس، وكأن هذا النموذج البائس هو البديل الأمثل عن النموذج الغربي.
على امتداد القرن العشرين، كان الضدّيّون يُقَدّمون المعسكر الشيوعي/ الاشتراكي كبديل للغرب، كانوا يشتمون ويعيبون الغربَ لحساب المعسكر الشرقي. وهم اليوم على الطريق نفسه، يعيبون الغرب ويشتمونه لحساب روسيا، وربما لحساب الصين.
إن هذه الضدّية كانت حالة عداء تقف على إرث مكافحة الاستعمار وإيديولوجيا حركات النضال والتحرر الوطني. وهو إرث تجاوز حده الزمني الافتراضي، وبقي فاعلا ـ على نحو صريح ومضمر ـ في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار، أكثر مما كان فاعلا في مرحلة الاستعمار نفسه. ثم بقي لاحقا؛ وحتى اليوم، مرجعية وجدانية وثقافية ـ واعية وغير واعية ـ للضدّيين جميعا، حتى إن بعضهم يشتمون الغرب ويعيبونه على نحو تلقائي/ عفوي، ولو سألتهم: لماذا ؟ لكان جوابهم: لأنه الغرب ! هكذا، مصادرة على المطلوب.
إن هذا الموقف الضدي المرضي من الغرب، يحدث بالتقابل مع الاستبشار بنهوض الشرق. ثمة نظرة عربية/ عَالم ثالثية تتسامح مع روسيا، تتسامح معها حدّ التأييد أحيانا، خاصة إذا كانت روسيا في مواجهة مع الغرب؛ مع أن التجربة الشرقية/ الروسية، وعلى امتداد تاريخها، ليست إلا تجربة كارثية بكل المقاييس: المادية والإنسانية. فَمَنْ حَكمتهم روسيا ذات يوم ـ بشكل مباشر أو غير مباشر، لأمد طويل أو لوقت عابر ـ تجد فيهم آثارَ هذا الحُكم/ النفوذ الروسي، تجد آثار الرؤية الروسية/ الثقافة الروسية، تجد ـ باختصار ـ معالمَ دَمار شامل، معالم تَشوّه يطال الأنفس والعقول والعمران، معالم خواء مرعب. بالتجربة العينية، حيث الروس، لا وجود لحضارة بحق، بل لا وجود لمهارة واحدة، ولا لإبداع واحد معتبر، ولا لشيء ذي قيمة. لا شيء قدّمه الروسُ للبشرية سوى الأدب الروائي الروسي الذي تَكمُن فرادته في كونه يصف بؤس وتعقيد وتأزم النفس الروسية، أو هو يصف المتخيل الإنساني ـ بعيون روسية ـ من خلال وصف الواقع الإنساني الروسي.
قد يُرَاوغ بعضُ الضدّيين أو بعض البسطاء الحالمين بزعمهم أنهم لا يُراهنون على روسيا أو الصين كبديل كامل للغرب، وإنما فقط، يُنْشِدون عالَما مُتوازِنا تتعدّد فيه الأقطاب، فتتسع بذلك الخيارات الإنسانية. يقولون هذا وكأن الأقطاب البديلة للقطب الغربي أقطابٌ حضارية وإنسانية. إنهم يجهلون أو يتجاهلون أن البشرية الآن ـ وفي المدى المنظور لثلاثة أو أربعة أجيال ـ ليس أمامها إلا حضارة إنسانية واحدة، فالبشرية اليوم أمام عالم غربي لا يُقابله شيء ذو قيمة حضارية وإنسانية، بل إن المقابل القوي ماديا هو مقابل فارغ: بلا حضارة وبلا إنسانية، وتعولم نماذجه ـ فيما لو حدث ذلك ـ يعني ارتداد البشرية سبعة قرون إلى الوراء.
أخيرا، ثمة ملاحظة يجدر التنبّه لها، وهي أن الناجحين حضاريا على المستويين: المادي والإنساني، مِنْ غير الغرب، قد تحرّروا من النفس الضدّي المعادي للغرب؛ رغم وجود الصدام العسكري مع الغرب في تاريخهم القريب. في اليابان، في كوريا الجنوبية...إلخ، لن تجد هذه الكراهية العمياء الغرب. ويُقابِل هذه الملاحظة ملاحظةٌ أخرى تعضد المعنى المرجعي لها، وهي أن كارهي الغرب، لا يكرهون روسيا/ الصين، أي لا يكرهون الفاشلين حضاريا؛ مع وجود بعض صور العدوان على العرب/ المسلمين من روسيا والصين. ومختصر هذا، أن "الناجحين لا يكرهون الغرب"، وأن "الكارهين للغرب لا يكرهون الفاشلين". وبهذا يتضح أن "الحق الحاسِد" الذي يبدو أنه يستهدف مبدعي الحضارة النوعية الفائقة دون غيرهم، دافع لا يُستهان به في هذا السياق.