محمد يسري:
تضجّ وسائل الإعلام بقصة الأمير أندرو، حيث أُعلن يوم الخميس 13 كانون الثاني/يناير بأنه جُرّد من ألقابه وواجباته ومسؤولياته الملكية! في قصته ما يثير أسئلة كثيرة، ورغم أن ظروف ما حدث لا تشببها أي ظروف عرفها التاريخ من قبل، إلا أن قصّة الأمير المنكوب قديمة قدم التاريخ الملكي.
في هذا المقال ننظر في قصص الأمراء المنكوبين في تاريخ العرب، أولئك الذين عاشوا في الفترة المبكرة من حياتهم في ظل القوّة والشوكة التي تمتعت بها أسرهم، ولم يمر وقت طويل حتى انقلب بهم الحال رأساً على عقب، لنجدهم وقد عاشوا أياماً صعبة بعدما تبدلت بهم الأحوال، فانتقلوا من طور الترف والرفاهية إلى حالة المشقّة والحرمان.
رغم أن منصب الأمير لم يظهر بشكل رسمي إلا في العصر العباسي، إلا أنه من الممكن أن نجد مجموعة من الأمثلة على أبناء الخلفاء المنكوبين في العصرين الراشدي والأموي، من ذلك عُبيد الله بن عمر بن الخطاب، الذي عاش لفترة من حياته هارباً من الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، خوفاً من أن يبرّ الأخير بقسمه، فيقتله قصاصاً لما قام به عُبيد الله من قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة المجوسي. وعبد الرحمن بن أبي بكر، الذي تعرض لبعض المضايقات من الأمويين لموقفه الرافض لسياساتهم؛ وخالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، الذي كان ولياً للعهد في بداية حكم مروان بن الحكم، قبل أن يعزله مروان ليولي ابنه عبد الملك بن مروان بدلاً منه، وليقضي خالد ما تبقى من حياته منكباً على علوم الكيمياء.
الأمير الزاهد أحمد السبتي: ضحية قصة الحب المنسية
كانت قصة الأمير أحمد السبتي ابن الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد واحدة من أجمل القصص التي تحدثت عن الأمراء الذين ابتعدوا عن الحكم والسلطة في التاريخ الإسلامي.
بحسب ما ورد في الكثير من المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال، كل من "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" و"صفة الصفوة"، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (تـ. 579هـ)، فإن هارون الرشيد، قبل توليه الخلافة، قد عرف في شبابه فتاة جميلة من العامة، فتزوج بها سراً، وأرسلها إلى البصرة بعد أن أعطاها خاتماً من الياقوت الأحمر، وبعدها رجع إلى زوجته الأولى زبيدة، وتناسى قصة زواجه من الفتاة العامية.
بحسب القصة، فإن الفتاة قد حملت بابن وسمته أحمد، وتربى هذا الفتى في حجر أمه الصالحة، فلما كبر قصّت عليه حكايتها مع الرشيد، وبدلاً من أن يذهب الفتى لأبيه طمعاً في السلطة والجاه والمال، اختار أن يعيش حياة العزلة والتقشف.
وصف الحافظ ابن كثير الدمشقي (تـ. 774هـ) حالة الزهد والكفاف التي عاش فيها أحمد السبتي طوال حياته، فقال: "كان زاهداً عابداً قد تنسّك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلاً فيه، وليس يملك إلا مرواً وزنبيلاً، أي (مجرفة وقفَّة ) وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقرّب بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط، ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة".
بعد فترة مرض السبتي، ولما تيقن من قرب وفاته، أعطى الخاتم المصنوع من الياقوت الأحمر إلى أحد الأشخاص، وحمّله برسالة وعظ ونصح إلى الخليفة، فلما مات السبتي وذهب هذا الشخص إلى الرشيد الذي كان منكباً على حياة الترف والدعة، اندهش الخليفة من الرسالة، وعرف صدق صاحبها من الخاتم الذي معه، وأصابته حالة من الندم، يصفها ابن كثير بقوله إنه "لما سمع هذا الكلام، قام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول: والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكى"، وهكذا بقيت قصة أحمد السبتي نموذجاً للأمير الذي ابتعد عن السلطة بسبب الحب والزهد.
الأمير الفاطمي نزار: ضحية العداء مع الوزير القوي
توفى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في القاهرة في 487هـ، وكان من المُفترض أن يتولى ابنه الأكبر نزار الحكم من بعده، وذلك بحسب الأعراف المعمول بها في الدولة الفاطمية، والأصول المعروفة عند الشيعة الإسماعيلية، ولكن هذا الأمر لم يتحقق بسبب الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي، الذي عمل وسعه ليحول بين نزار ومنصب الخلافة، وذلك بسبب العداء القديم المنعقد بين الرجلين.
بحسب ما ورد في الكثير من المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال "الكامل في التاريخ" لابن الأثير الجزري (تـ. 630هـ)، أن نزاراً كان يتعالى على الوزير ولا يحبه ويحرص على التعريض بأصوله الأعجمية، الأمر الذي أضمره الأفضل في نفسه، وحدا به لينتقم من نزار بعد وفاة أبيه المستنصر، وعادة ما تكون قصص التنافس هذه واجهة لخلاف أعمق حول السلطة والنفوذ وتوزعها.
بمجرد أن عرف الوزير بوفاة الخليفة المستنصر بالله، فإنه ذهب لقصر الخلافة واجتمع بأبناء المستنصر الأربعة، وهم نزار وعبد الله وإسماعيل وأحمد، على الترتيب، وأمر الثلاثة الأكبر سناً بمبايعة أخيهم الأصغر أحمد، فرفضوا ذلك واحتجوا بكونهم أكبر منه سناً، وأنهم أحق منه بالإمامة والحكم. فى تلك الأثناء استطاع نزار أن يهرب إلى الإسكندرية، وهناك وجد التأييد والنصرة من جانب بعض القادة والأعيان ورجال الدين، فتمّت مبايعته بالخلافة، ولُقب بـالمصطفى لدين الله، وانضم له الكثير من العربان والمغاربة والسودان، حتى وصل عدد جيوشه إلى ثلاثين ألف مقاتل، وذلك بحسب ما يذكر أبو العباس أحمد القلقشندي (تـ. 821هـ) في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا".
رغم أن قوات نزار قد تمكنت من تحقيق بعض الانتصارات على جيوش الأفضل شاهنشاه في البداية، إلا أنه سرعان ما هُزم ووقع فى الأسر، ثم قتل بعد ذلك في سجنه، وبقيت قصته نموذجاً للأمير المنكوب الذي وقع ضحية العداء مع الطبقة الأرستقراطية الحاكمة.
الأمير المعز بن باديس: أجبرته قبائل الهلالية على اعتزال الحكم والسياسة
كان الأمير المعز بن باديس يحكم تونس في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، وكان قد اتخذ قراراً بالانفصال عن الدولة الفاطمية التي تحكم من مصر، فأعلن عن تبعيته للخلافة العباسية في بغداد، وأعاد المذهب المالكي السني كمذهب رسمي معتمد في تونس، بدلاً عن المذهب الشيعي الذي نشره الفاطميون منذ تأسيس دولتهم.
غضب الخليفة الفاطمي المستنصر بالله من قرار المعز بن باديس، فأصدر قراراً بتجريده من كافة الألقاب التشريفية التي كان قد منحها له من قبل، وإمعاناً في عقابه، أصدر أمراً في 442هـ، بتحريك القبائل العربية الهلالية الساكنة شرقي النيل غرباً، وأذن لهم في استيطان تونس، بل ومنح كل رجل منهم، ديناراً كاملاً لتحفيزهم على التحرك والتوجه لقتال ابن باديس.
بحسب ما تذكر الدكتورة ريم هادي في بحثها "دور الوزير اليازوري وسياسته الداخلية والخارجية لمصر"، فإن ما يقرب من النصف مليون نسمة من القبائل العربية، قد تحركوا باتجاه المغرب، فاستولوا على برقة، ولما خرج لهم المعز بن باديس، قاتلوه وهزموه، ثم دخلوا إلى إفريقية فحاصروا مدنها، فخرج لهم المعز بن باديس في جيش بلغ ثلاثين ألف مقاتل، ولكنهم هزموه مرة أخرى. لم يجد ابن باديس أمامه سوى التحصّن داخل أسوار عاصمته، ثم جمع جيشاً آخر عدّته ثمانين ألف مقاتل، وخرج لقتال قبائل العرب، ولكنه هُزم للمرة الثالثة، وقُتل الكثير من أفراد الجيش الصنهاجي.
في449هـ، أدرك المعز بن باديس أنه لن يتمكن من التصدي لتلك الهجمة القبلية الشرسة، فرضخ للأمر الواقع، وترك القيروان وانتقل إلى مدينة المهدية، وتنازل عن الحكم لابنه تميم، وعاش في معزل عن الحياة السياسية إلى أن توفى حزيناً مكلوماً في 453هـ.
المنصور نور الدين علي بن أيبك: الملك المسلم الذي تحول للمسيحية
في 648هـ، أنتصر الأيوبيون في معركة المنصورة على قوات الملك الفرنسي لويس التاسع، ولكن بعد فترة قصيرة من هذا الانتصار، تم القضاء على الدولة الأيوبية بعدما قام عدد من أمراء المماليك بقتل السلطان الأيوبي توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب.
اعتلت شجرة الدر، أرملة الصالح نجم الدين، كرسي الحكم لفترة، ولكنها اضطرت للتخلي عنه بعدما عرفت أن الملوك الأيوبيين الذين يحكمون الدول المجاورة لن يقبلوا فكرة وصول امرأة للكرسي الذي جلس عليه من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولذلك قامت شجرة الدر بالزواج من أحد كبار المماليك، وهو عز الدين أيبك، ورفعته إلى منصب السلطان ليتم تأسيس الدولة المملوكية، بينما تقاسمت معه السلطة الحقيقة من وراء الستار.
عيّن عز الدين أيبك ابنه علي ليصبح خليفته على العرش، ولما مات في 655هـ، تولى علي السلطنة ولُقب بنور الدين، وكان وقتها لم يبلغ الثالثة عشر من عمره بعد، ولذلك تولى الأمير سيف الدين قطز مسؤولية نيابة السلطنة، وظل في هذا المنصب لمدة سنتين ونصف السنة، حتى اضطر في النهاية لعزل نور الدين بعدما لاحت نذر الحرب مع المغول في الآفاق. وجد نور الدين علي نفسه وقد انقلب به الحال رأساً على عقب، إذ أُبعد عن العرش، وتم الزجّ به مع أخيه في سجن دمياط، وبعد فترة تم نفيهما معاً إلى الأراضي البيزنطية، حيث عاش علي هناك كواحد من عامة الناس. ولما كبر في السن تزوج واعتنق المسيحية، ويذكر المؤرخ شمس الدين الذهبي (تـ. 748هـ) في كتابه سيّر أعلام النبلاء/ أن علياً قد غير اسمه إلى ميخائيل، وأنه تزوج من امرأة بيزنطية، وأنه قد توفى في 700هـ، وخلف من ورائه الكثير من الأبناء المسيحيين.
جم سلطان: الأمير المهزوم الذي اشتهر في أوروبا
توفي السلطان العثماني الأشهر محمد الفاتحفي في 886هـ، لتقع الكثير من الحروب بين ولديه المتنازعين على العرش، وهما الأمير بايزيد والأمير جم سلطان، وانتهت تلك الحروب بوصول الأول إلى الحكم.
وجد جم سلطان نفسه بعد هزيمته قد صار مضطراً للهروب من الأراضي العثمانية، ففر إلى مصر ليبقى لفترة في حماية السلطان المملوكي سيف الدين قايتباي، وبعدها رحل إلى جزيرة رودس في البحر المتوسط، وحاول أن يعقد الخطط مع فرسان القديس يوحنا بغية غزو الدولة العثمانية، واستعادة مكانته المفقودة.
كان السلطان بايزيد الثاني يعرف الخطر الكبير الذي يمثله بقاء أخيه الهارب في رودس، ولذلك فإنه قام بعقد اتفاق مع فرسان القديس يوحنا، وبموجبه امتنع العثمانيون عن غزو الجزيرة الصغيرة، مقابل تعهدهم بعدم خروج جم منها.
الأمير الهارب الذي وجد نفسه وقد جُرد من كل ألقابه وأمواله، صار مجرد رقم في لعبة السياسة الدولية في تلك الفترة، إذ تم تسليمه إلى البابوية الكاثوليكية في الفاتيكان، ووضع تحت عين البابا إينوسنت الثامن، فلما توفي وحل محله البابا إسكندر السادس، تم وضع السم لجم، لتنتهي حياته ويُدفن في نابولي، وليُسدل الستار على حياة هذا الأمير المنكوب.
على الرغم من نهايته الحزينة، فإن الأمير جم سلطان قد حظي باهتمام كبير في الدوائر الأوروبية، إذ اشتهرت قصته بين الإيطاليين والفرنسيين، ودخلت في بعض قصص الحب الرومانسية، التي تحدثت عن غرامه بإحدى الفتيات المسيحيات الجميلات، وفي السياق نفسه روي عنه الكثير من الأشعار المؤثرة.