بابكر فيصل:
يظل مبحث العلاقة بين الدين والسياسة من أهم المباحث المطروحة في الساحة السياسية العربية والإسلامية، حيث ظل الدين يلعب الدور الأكبر في توجيه حياة شعوب المنطقة، وفي تشكيل علاقتها بالأنظمة الحاكمة.
وفي الغالب الأعم ارتبطت السلطات السياسية في العالم العربي مع المؤسسات الدينية بعلاقة سمتها الأساسية هي تبادل المنافع، فالسلطة تغدق على المؤسسات الدينية المنح والمناصب والرواتب والعطايا، وأعضاء المؤسسات يمنحون الشرعية للسلطات السياسية.
ومن أمثلة تلك العلاقة بين الطرفين ما ظهر إبان حكم الملك فؤاد الأول في مصر، حيث سعى الأخير للاستفادة من تلك العلاقة واستخدامها كترياق مضاد للحركة الوطنية التي أمسك بزمام قيادتها حزب الوفد في أعقاب ثورة 1919، وكان الملك يفتقد للرصيد الشعبي في مواجهة الوفد وأراد صنع تيار يضمن له النفوذ الجماهيري.
كانت الفكرة التي التقى حولها الطرفان هي "الخلافة الإسلامية"، حيث راود الملك حلم قيادة العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة عام 1924، وكان الأزهر هو الأداة التي استخدمها بالترويج للفكرة في البداية ثم جاءت من بعده جماعة الإخوان المسلمين.
وقف الأزهر على رأس حملة الدعوة لاستعادة الخلافة، وتم تكوين "الهيئة العلمية الدينية الإسلامية الكبرى" لدراسة الأمر، حيث أوصت بعقد مؤتمر إسلامي في مارس 1925 بالقاهرة يترأسه شيخ الأزهر بمشاركة ممثلين لجميع الدول الإسلامية ليبحث في قضية من يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية.
لم تنجح الخطوة في تحقيق الهدف الذي قامت من أجله، حيث دبت الخلافات بين المجتمعين وقرروا أن المؤتمر بتشكيله الذي انعقد به غير قادر على إجراء البيعة، ولكن لجان المؤتمر قامت بعملها في تعريف الخلافة وشروط توليها وسلطات الخليفة.
تم تعريف الخلافة بأنها (رياسة عامة في الدنيا والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، في حماية الدين وتنفيذ أحكامه، وفي تدبير شؤون الخلق الدنيوية على مقتضى النظر الشرعي.. وأن الإمام يتولى الحكم بالبيعة من أهل الحل والعقد أو باستخلاف إمام قبله، أو بطريق التغلب وحده).
التعريف أعلاه جاء في العقد الثالث من القرن العشرين، وهو تعريف مستمد من مفاهيم القرون الوسطى ولم يطرأ عليه أي جديد، فهو يتبنى ذات الوسائل القديمة في اختيار الخليفة ويجمع تحت سلطته شؤون الدين والدنيا، دون أدنى محاولة لتطوير رؤية عصرية تواكب التطورات التي لحقت بنظم الحكم في العالم.
أما سلطة الإمام (الخليفة) الدنيوية فقد تم تحديدها من قبل لجان المؤتمر كالآتي: (لما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية، وجب أن تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه، كولاية الوزراء وكولاية أمراء الأقاليم وولاية القضاة وولاية نقباء الجيش وحماة الثغور).
وفقا للكلام أعلاه فإن الخليفة يجمع بين يديه كافة السلطات فهو الذي يعين الحكومة التنفيذية وحكام الأقاليم ورئيس القضاء وقائد الجيش، وهو أمر يناقض الدساتير الحديثة ومنها الدستور المصري لسنة 1923 الذي رغم إعطائه سلطات كبيرة للملك إلا أنه قرر بوضوح أن جميع السلطات مصدرها الأمة وأن الحكومة يشكلها البرلمان.
وفيما يلي شروط اختيار الخليفة، فقد قالت اللجنة أن الشروط التي يتوجب توفرها في الخليفة هي (البلوغ والعقل والحرية والذكورة وسلامة السمع والبصر والنطق مع القدرة على إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وحماية بيعة المسلمين) وذكرت أن شرط القرشية فيه قولان: أحدهما أنها لا تشترط، وحتى ولو اشترط فأنه يتعذر توافره الآن مع استيفاء الشروط الأخرى.
ومن المؤكد أن اللجنة أبدت الاستعداد لتجاوز شرط قرشية الإمام (أي أن يكون منتميا لقبيلة قريش) لأن الرجل الذي تتحالف معه المؤسسة الدينية وتعمل على تنصيبه خليفة للمسلمين، وهو الملك فؤاد، ليس من أصول عربية فهو ينتمي إلى سلالة محمد علي باشا التي ترجع أصولها إلى دولة ألبانيا.
وفي إطار مواجهة خطاب المؤسسة الدينية الرسمية المساند للملك في سعيه لتوطيد سلطته مقابل التيار الليبرالي الوطني الذي كان يقوده الوفد، أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي نفى فيه أن تكون الخلافة حكما من أحكام الدين الإسلامي، موضحا أن القرآن والسنة لم يتعرضا مطلقا لموضوع الخلافة.
قال عبد الرازق: (ليس بنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين.. فالحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة هي جميعا خطط دنيوية، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة).
كما أكد أن نظام الخلافة يقوم على القهر والظلم (وإذا كان في الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغي، فذلك هو مقام الخلافة، وقد رأيت أنه أشهى ما تتعلق به النفوس، وأهم ما تغار عليه، وإذا اجتمع الحب البالغ والغيرة الشديدة وأمدتها القوة البالغة، فلا شيء إلا العسف ولا حكم إلا السيف).
ونتيجة للتحدي الكبير الذي جسدته الآراء الجريئة التي وردت في الكتاب وخطورة الأفكار التي طرحها على التحالف بين الملك والمؤسسة الدينية من خلال رفضه للخلافة ودعوته لمدنية الدولة، قامت هيئة كبار العلماء في الأزهر بمحاكمة الشيخ علي عبد الرازق وأخرجته من زمرة العلماء وفصلته من العمل كقاضي شرعي.
وبعد رحيل فؤاد الأول وجلوس ابنه فاروق على العرش، استمر تبادل المنافع بين السلطة والمؤسسة الدينية، ودخلت على المشهد جماعة الإخوان المسلمين التي التقت مصالحها مع الملك في محاربة التيار الوطني الذي يقوده الوفد، وفي مناسبة عيد الجلوس على العرش عام 1942، لم تتورع جريدة النذير، لسان حال الإخوان، عن تشبيه الملك بالفاروق عمر بن الخطاب ولقبته بأمير المؤمنين.
كما سار المرشد المؤسس حسن البنا على خطى الأزهر في المطالبة بعودة الخلافة، وقال مقولته الشهيرة: (كان المسلمون في الخلافة يرجعون إلى الخليفة فأين هو الآن؟ لا بد أن نعمل جميعا على إيجاده)، وعندما خرجت جماهير الوفد في مظاهرات ضد القصر تهتف "الشعب مع النحاس"، خرج الإخوان يناصرون فاروق ويهتفون "الله مع الملك"!
اليوم، وبعد مرور قرابة القرن من بروز قضية الخلافة الإسلامية، يبدو أن تحالف السلطة مع المؤسسة الدينية لم يستطع - لأسباب عديدة - تحقيق نجاح يذكر في إنزال تلك القضية لواقع التطبيق، حيث سارت معظم الدول العربية والإسلامية في طريق إيجاد شرعيات مختلفة ليس من بينها الخلافة، ولكن تبادل المنافع بين الطرفين ما يزال مستمرا في مجالات وقضايا أخرى.