اللاهوتي «هانس كينغ» وأخلاقيات الأديان - مقالات
أحدث المقالات

اللاهوتي «هانس كينغ» وأخلاقيات الأديان

اللاهوتي «هانس كينغ» وأخلاقيات الأديان

د. رضوان السيد :

 

عندما بدأتُ بحضور محاضرات الأستاذ هانس كينغ H. Küng في اللاهوت الكاثوليكي عام 1974 بجامعة توبنغن، كان اهتمامه ما يزال متركزًا على المسائل التي طُرحت في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، وكان يقسّمها إلى قسمين كبيرين: الإصلاح والتجديد داخل الكنيسة، وعلاقات الكنيسة بالآخر الديني والآخر الإنساني. ومنذ المحاضرة الأولى لاحظتُ الافتراق بينه وبين زميله جوزف راتسينغر (الذي صار بابا الفاتيكان عام 2005). كان أستاذنا «جوزف فان أس» قد نصحني أن أحضر أولاً في ذاك التخصص الفرعي (كان تخصصي الرئيسي: فلسفة العصور الوسطى) عند جوزف راتسينغر المحافظ، ثم أنتقل للاستماع إلى هانس كينغ. وبخلاف راتسينغر، كان كينغ يرى أنه لا بد من إجراء إصلاح راديكالي داخل الكنيسة. ويبقى ذلك غير ممكن إن لم تُراجَعْ عقيدة العصمة البابوية، ووظيفة المجامع، والعلائق مع المجتمع وبخاصةٍ الشباب والنساء ومشكلات الحياة العصرية.

بدأت شهرة هانس كينغ الأوروبية ثم العالمية في الثمانينيات، وامتدت وتعاظمت في التسعينيات من القرن الماضي. ويرجع ذلك لثلاثة أمور: أطروحاته مع الفلاسفة الألمان والفرنسيين في فلسفة الدين، ومعنى عودة الدين. ثم مصيره إلى طرح مشروع أخلاقي عالمي حول دور الديانات في السلام العالمي. وأخيرًا إقباله على نشر مؤلفات هدفها اكتشاف مواقع المنظومة الأخلاقية في الديانات الكبرى: الكاثوليكية والبروتستانتية، واليهودية، والبوذية، والهندوسية، والإسلام.

يقول هانس كينغ: لا استمرارية إنسانية بدون أخلاق كونية. ولا سلام عالمي من دون سلامٍ ديني. ولا سلام ديني من دون الحوار بين الأديان. لكن كيف صارت القيم الكبرى، مثل السلام والعدالة والتسامح، قيماً وأكسيومات عالمية؟ صارت كذلك نتيجة التجارب المأساوية لبني البشر عبر التاريخ من جهة، ونتيجة استخلاص كبار الفلاسفة والمفكرين وكبار الساسة الدروس منها، كما نتيجة بروز وتجذر تلك الثُنائية بين القيمة والحق. فعندما ذهبت النُخَب إلى أنّ المساواة بين البشر هي من بين تلك القيم الخالدة، اتجه كفاحٌ ملحميٌّ ما يزال مستمراً، إلى انتزاع الحق في المشاركة في تلك القيم الفاضلة بالتساوي. ودائماً كانت هناك ثنائية أُخرى هي ثنائية الدين والدولة. الأديان تسعى للسيطرة على الأرواح والنفوس، والدول تسعى للسيطرة على الأجساد والعقول. وقد استطاعت الأديان، واستطاع الفلاسفة والمفكرون أن يجعلوا من القيم أو الفضائل أهدافاً ساميةً للدولة من خلال ظهور ساسةٍ كبارٍ ورجالات دولة: أوَ ليس بين محاورات أفلاطون واحدة عنوانها السياسي أو رجل الدولة؟

طرح هانس كينغ مشروعه الأخلاقي العالمي للسلام بين الأديان في المؤتمر العالمي للأديان بشيكاغو عام 1991. وأساسُهُ وجود هذه القيم الكبرى في كل الديانات، كما راح يُثبت ذلك في مؤلفاته المتوالية عن تلك الديانات. قلتُ له عام 1999 على غداءٍ بتوبنغن، دعانا إليه الأستاذ جوف فان أس: إنّ مقدمة فكرتك عن تلاقي القيم الكبرى في الديانات موجودة نصًا في بعض كتب علم أصول الفقه، وتحديدًا عند فقيه اسمه الشاطبي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي؛ إذ بعد أن يذكر الضروريات الخمس أو الحقوق الخمس لبني البشر (حق النفس-الحياة، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحق المِلْكية)، يُردف: وقيل إنها مُراعاة في كل ملة! فقاطعني «فان أس» وقال: ذكرتُ ذلك للأستاذ كينغ في محاضراتنا حول الديانات الخمس وإمكانيات الحوار بينها (المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية والهندوسية) عام 1985، وقد صدرت في كتاب رجع إليه الأستاذ كينغ في كتابه عن الإسلام في العام الماضي (1998).

توفي الأستاذ هانس كينغ قبل أيام عن عمرٍ طويل، وهو من أصل سويسري، لكنه قضى معظم سني عمره التدريسي والتأليفي في جامعة توبنغن الألمانية، ومنها انتشر اسمه في العالم.

 

الشرق الأوسط

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*