سمير درويش:
مَن يتابع سلوك المصريين في نصف القرن الأخير، سيقف أمام مجموعة من التحوّلات المهمة في بناء الشخصية المصرية جعلتها أكثر ميلاً إلى "العنف"، أهمها البعد عن التسامح، وإصدار أحكام متسرعة ضد الآخرين بدون التأكد من إدانتهم، وتصديق الإشاعات وترديدها...
هناك حوادث تكاد تكون يومية تثبت هذا الاتجاه، أدّت في كثير من الحالات إلى الانتحار، مثل انتحار فتاة مؤخراً نتيجة ابتزازها بنشر صور مفبركة لها، وقصة سيدة السلام التي اتهمها جيرانها باستقبال رجال غرباء واقتحموا شقتها، واتهام أشخاص بالكفر مثلما حدث مع الإعلامي إبراهيم عيسى على خلفية انتقاده لصيدلي يقرأ القرآن في محل عمله، واتهام المعارضين بالحصول على أموال من جهات أجنبية، وإدانة الفتيات اللواتي يتعرضن للاغتصاب والتحرش، باعتبار أن ملابسهن هي السبب في إثارة الشباب، إلخ... هي صور من الاغتيال المعنوي الذي يمارسه المجتمع.
مجتمع الصحوة الإسلامية
ترافَقَ هذا التحول السلوكي مع مجموعة مستجدات حدثت بشكل متتالٍ، أهمها ما أطلق عليه شيوح السلفية مصطلح "الصحوة الإسلامية"، إذ تعاظم دور الدين والفتاوى الرسمية وغير الرسمية في تصريف الأمور اليومية العادية للناس، وأصبح بعض خطباء المساجد و"شيوخ الفضائيات" نجوماً فوق العادة ينافسون المطربين والممثلين والسياسيين ولاعبي كرة القدم، ثم الزيادة السكانية الكبيرة التي أدّت إلى تقليل فرص الحصول على عمل بدخل مناسب، مع تدهور التعليم، وانتشار البث التلفزيوني منذ السبعينيات الماضية بشكل محدود مبدئيّاً ثم الانتشار الكثيف للفضائيات منذ منتصف التسعينيات، وصولاً إلى الإنترنت الذي يجعل الخبر -صحيحاً كان أم كاذباً- ينتشر بين الناس في لحظات.
هذه الحزمة من المستجدات المتتالية تم توجيهها لخدمة "الدين" كما يفهمه نجوم "الصحوة"، وكما زيّنوه للناس، لذلك تزايدت أعداد المدارس والمعاهد الدينية، الرسمية والخاصة زيادة مطردة في كل مراحل التعليم قبل الجامعي.
فقد ارتفع عدد الفصول في هذه المدارس من 21،329 فصلاً عام 1990 إلى 64،424 عام 2010، بمعدل زيادة 300% في 20 عاماً، مع ملاحظة أن عدد السكان ارتفع من 51،911،000 إلى 76،952،000 بمعدّل زيادة 50% فقط. كما ارتفع عدد الطلاب في الفترة نفسها من 870،180 إلى 1،916،634 بمعدّل زيادة 220%، وارتفع عدد المدرسين في هذه المعاهد من 52،142 إلى 144،920، بمعدل زيادة 278%، حسب أرقام وردت في كتاب "صوت الإمام/ الخطاب الديني من السياق إلى التلقي"، للدكتور أحمد زايد (دار العين، 2017).
بالتوازي، زادت أعداد المساجد والزوايا بشكل كبير، فبلغ العدد المسجل رسميّاً 107،697 عام 2012، وبلغت نسبة نشر الكتب الدينية 21% من الكتب المطبوعة عام 2011، حسب إحصاء وزارة الأوقاف، كما بلغ عدد القنوات الفضائية الدينية 95 قناة بنسبة 87% من مجموع القنوات حسب اتحاد إذاعات الدول العربية، سواء التي تمولها الدول أو التي تمولها الجماعات والأفراد.
وأصبح لـ"نجوم الدين" مثل عبد الله رشدي وخالد الجندي وأسامة الأزهري، متابعون بالآلاف والملايين على مواقع التواصل الاجتماعي، فأدى كل ذلك إلى "تديين" المجتمع، بدءاً من إذاعة الأغاني الدينية في الأفراح الشعبية، مروراً ببث القرآن في المحلات التجارية ووسائل المواصلات، إلى تدخل دار الإفتاء في أمور صغيرة، تنشرها المواقع الإلكترونية يوميّاً، مثل تحريم حفلات الخطوبة، وحكم زرع شعر حواجب الفتيات، وحكم المتاجرة بالعملة الإلكترونية "بيتكوين"، وحكم التأخر في التطهر من النجاسة في الشتاء، وحكم شراء الشقق السكنية قبل بنائها، وحكم الصلاة على النبي بنيّة الشفاعة للأخ والشفاء من المرض.
الشعراوي وانتشار السلفية المتشددة
ظهور الشيخ محمد متولي الشعراوي (1911-1998) في منتصف سبعينيات القرن العشرين، كل يوم جمعة، في برنامج "نور على نور"، جذب انتباه قطاعات كبيرة من طبقات الشعب المصري المختلفة، وحوَّله إلى نجم تلفزيوني، فأحاطته هالة من التقديس غير مسبوقة، بحيث يغفر له العامة سقطاته ويدافعون عنها.
هذا ما جعله يستقلّ وحده بفترة كثيفة المشاهدة، واستولى على عيون وآذان وعقول الناس بأدائه الشعبي، وبملابسه التي ابتكرها، متنازلاً عن الزي الأزهري التقليدي، ليشكل حالة إيمانية شعبية مجتمعية سلفية متشددة، فأصبح يطلق فتاويه ضد عمل المرأة باعتباره انتقاصاً من رجولة الرجل، ومع تأييد ضربها، وتحريم فوائد البنوك والدعوة إلى -والمشاركة في- إقامة بنوك إسلامية، وتحريم نقل الأعضاء باعتباره تأخيراً لملاقاة الله، إلخ من فتاويه المعروفة التي كتب عنها كثيرون.
في فترة حكم الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، كان الشعراوي مديراً لمكتب شيخ الأزهر حسن مأمون، عام 1964، وابتُعث للعمل خارج مصر ثلاث مرات، اثنتان منها إلى السعودية للتدريس، والثالثة إلى الجزائر حيث ترأس بعثة الأزهر هناك عام 1966، أي أنه كان رقماً في المؤسسة الدينية. لكنه لم يكن نجماً مع ذلك، لأن فلسفة نظام عبد الناصر كانت تقوم على تحجيم الإسلاميين ومحاصرتهم من ناحية، وإقامة أبنية دينية نظامية بديلة، مثل إصدار القانون رقم 103 لسنة 1961، المعروف بقانون تطوير الأزهر، وبموجبه جرى حلّ هيئة كبار العلماء ليحل محلها مجمع البحوث الإسلامية، وكان الأزهريون يشتكون من ذلك ويعتبرونه تقليصاً لدورهم (الديني)، لذلك أعادوها في أول فرصة واتتهم بعد "خلع" نظام الإخوان المسلمين عام 2013.
التوجه السياسي للرئيس الأسبق أنور السادات ساهم -ضمن العوامل التي ذكرتها- في تمدد موجة التشدد السلفي، فقد أعطى لتيار الإسلام السياسي مجالاً أوسع للحركة في الجامعات والنوادي والنقابات بقصد محاصرة اليسار -الناصري والشيوعي- الذي كانت له الأغلبية، وكان يعارض حكم السادات ويرى أنه يهدم منجزات عبد الناصر.
سيّد قطب... أيقونة جماعات العنف
برحيل عبد الناصر خفَّت القبضة الأمنية على جماعة الإخوان المسلمين، بل ووجدت في عهد السادات مساحات واسعة للتحرك باتفاق واضح بين الطرفين. في تلك الفترة كان سيّد قطب (1906- 1966) قد تحوّل إلى أيقونة، بعد إعدامه ضمن المتهمين في قضية تنظيم 1965، ولذلك انتشرت أفكاره الوارده في كتابه "معالم في الطريق" الذي أصبح ميثاقاً ومنهاج عمل للسلفية الجهادية، ولجماعات العنف الإسلامية، يدرِّسونها في حلقاتهم ويلقّنونها لشبابهم جيلاً بعد جيل.
وتتلخص رؤية سيّد قطب في أن البشرية تقف على حافة الهاوية بسبب فقدانها للقيم، وأن قيادة الغرب للبشرية أوشكت على الزوال لأنه فقد رصيده من القيم الإيجابية الروحية، وأن الإسلام وحده هو الذي يملكها، وبالتالي هو المؤهل وحده لقيادة العالم.
ولكي يقوم الإسلام بدوره في القيادة لا بد أن يتشكل في أمة تحوِّل الاعتقادات المجردة إلى واقع ملموس وتجربة حية. وليس كافياً في نظره أن يؤمِن أفراد هذه الأمة بالإسلام، بل يجب أن تتطبق تعاليمه وفق "الشريعة الإسلامية"، على قاعدة أن "الحكم إلا لله"، وأن أي نظام يخالف ذلك ويدَّعي أنه يحكم باسم الشعب ولمصلحته، إنما يغتصب حقّاً من حقوق الله، وهو ما يسميه "الجاهلية". فالجاهلية هي عبادة غير الله كما وردت في الإسلام الخاتم، مهما كانت صور هذه العبادة، وعليه يكون الشيوعيون جاهليين لأنهم يعبدون المادة، والوثنيون جاهليون لأنهم يعبدون آلهة متعددة، والمسيحيون جاهليون لأنهم يؤمنون بالبنوة والتثليث، وحتى المسلمين الذين يرتضون حكماً غير حكم الله جاهليون.
لكن أخطر ما جاء في كتاب سيّد قطب هو رفضه لفكرة أن الحرب في الإسلام للدفاع فقط، ويقول إن مَن يقولون بهذا الرأي ويتصورون أنهم يخدمون الإسلام إنما يعملون ضد منهجه، ومنهج الإسلام هو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً بالحرب والقتال، حتى تدفع الجزية أو تعلن استسلامها، وإخراج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ويرى أن الإسلام بذلك لا يقهر الناس على الدخول في الإسلام، وإنما يزيل العوائق بينهم وبينه لكي يختاروا ما يريدون بحرية.
ويرى -في سبيل الوصول إلى الغاية- ضرورة مخاطبة الناس بمنتهى الصراحة: "هذه الجاهلية التي أنتم فيها نَجَس، والله يريد أن يطهِّركم. هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن يطيِّبكم، والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقِيَمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها، ونحن قد رأينا هذه الحياة مُمَثَّلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه".
الشعراوي على طريق سيّد قطب
"رحم الله صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيّد قطب، فقد استطاع أن يستخلص من هاته (...) مبادئ إيمانية عقدية، لو أن المسلمين في جميع بقاع الأرض جعلوها نصب أعينهم، لما كان لأي دولة من دول الكفر غلبة عليهم".
المقطع السابق هو رأي الشيخ الشعراوي في سيّد قطب، ذكره في برنامجه الأسبوعي، وهو موجود على موقع يوتيوب حتى يومنا، وفيه من الإشارات التي تؤكد إيمانه بأفكار قطب التي وردت في "معالم في الطريق"، بالرغم من أنه يتحدث عن تفسيره "في ظلال القرآن"، فهو يتحدث عن "المسلمين" في جميع بقاع الأرض بمفهوم "الأمة"، كما يتحدث عن الآخرين باعتبارهم "دول الكفر"، وبهذا فهو يقسِّم العالم إلى "فسطاطين" أو إلى نوعين من الناس: مسلمين وكفار، والكفار هنا هم غير المسلمين مهما كانت عقيدتهم حتى لو كانت الإسلام بغير فهمهم له.
وهذه هي القاعدة التي أخرجت جميع جماعات العنف الإسلامي منذ عام 1975، من تنظيم الفنّية العسكرية بقيادة صالح سرية صاحب "رسالة الإيمان"، الذي قال فيه إن "الجهاد هو الطريق لإقامة الدول الإسلامية، وإنه لا يجوز موالاة الكفار والأنظمة الكافرة ومَن فعل ذلك فهو كافر، ومَن اشترك في حزب عقائدي غير إسلامي فهو كافر"، مروراً بجماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري أحمد مصطفى الذي كان متزوجاً من شقيقة الإخواني محمد صبحي مصطفى، والذي قام هو وجماعته بخطف الشيخ محمد حسين الذهبي، وزير الأوقاف، وقتله برصاصة في عينه اليسرى، وكانوا يكفِّرون المجتمع ويدعون إلى الهجرة لتكوين دولة قوية لمواجهته، مثل "دولة" يثرب التي أقامها النبي في بداية الدعوة، وليس انتهاء بالجماعات المعروفة الآن مثل القاعدة وداعش، والتي تستقي أفكارها الرئيسية من كتاب سيّد قطب حول تكفير المجتمع ومحاربة الحكام وإسقاطهم بالقوة.
الخلاصة
انتشار وسائل التواصل -من الفضائيات إلى الإنترنت- ساعد على انتشار هذه الأفكار وإخراجها من الكتب المهملة على رفوف المكتبات، وطرحها بشكل يومي مُلحّ، مصحوبة بأفكار مثل قيامة الرجل وتفضيله عن المرأة التي عليها أن تحتجب وتجلس في بيتها، وتحريم العمل في السياحة، وأن الله سخّر لنا الكافرين كي يعملوا ونستفيد نحن من ورائهم دون جهد.
مجمل هذه الأفكار في ظني هي التي أدّت إلى ميل المجتمع إلى العنف ضد الضعفاء، النساء والأطفال والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين، فلم يعد يتورع عن إلحاق الأذى بأي أحد سعياً إلى إرضاء الله كما يتصور رضاءه، على قاعدة أن الله فضله بالإسلام، وأن الآخرين كفار وجاهليين، وأن التعامل الصحيح تجاههم هو قتالهم وإجبارهم على دخول الإسلام، أو دفع الجزية عن يد وهو صاغرون.