مصر مستمرة فى ملاحقة القرآنيين - مقالات
أحدث المقالات

مصر مستمرة فى ملاحقة القرآنيين

مصر مستمرة فى ملاحقة القرآنيين

أحمد الجدي:

 

"أتحدى كل السادة علماء الأزهر الشريف أن يردوا على كتابي بكتاب، ويبرزوا للناس أين ازدريت أنا الإسلام واحتقرته بكتابي. وكيف لم تحتقره داعش ولم تزدريه، فاستحقوا أن يشهد لهم الإمام الأكبر بأنهم مسلمون، وتركني أواجه أحكام التكفير ولم يشهد لي بالإسلام".

كانت هذه واحدة من سلسلة تغريدات كتبها المحامي والمستشار القانوني أحمد عبد ماهر بعد إعلان  إلقاء قرار القبض عليه لتنفيذ الحكم الصادر من هيئة محكمة جنح النزهة، أمن الدولة طوارئ، في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، بالسجن 5 سنوات بتهمة ازدراء الأديان.

صدر الحكم بعد بلاغ تقدم به المحامي الشهير بقضايا "الحسبة" سمير صبري، ليكتب فصلاً جديداً في علاقة الدولة المصرية بحرية العقيدة، وخاصة في مواجهة "القرآنيين".

صراع "فكري" طويل

أكثر من 13 سنة قضاها أحمد عبده ماهر في معارك قضائية مع الأزهر الشريف بسبب أفكاره، تخللها قيامه بمقاضاة الأزهر لإلزام مسؤوليه بتنقية كتاب "صحيح البخاري"، وكتب أخرى في جمع وتفسير السنّة (الأحاديث والمواقف المنسوبة إلى نبي الإسلام ويعدها المسلمون من مصادر العقيدة)، باعتبارها "كتب تحتوي شوائب ومغالطات تخالف روح وجوهر الإسلام وتحرض على العنف والتطرف"، بحسب تصريحاته إلى موقع "الحرة"، ونتاج الدعوى التي تقدم بها ماهر إلى المحاكم المصرية في 2018، اتهمه أزهريون بالطعن "في ثوابت الدين والعقيدة".

ويأتي الحكم على ماهر بعد تصريحات لرئيس الجمهورية طالب فيها المصريين التفكير في عقيدتهم، وعدم التسليم للموروث، ما يتسق مع مطالبات سابقة للرئيس أيضاً بإعادة النظر في "الخطاب الديني"، ما دفع المهتمون بملف حرية الاعتقاد وتجديد الخطاب الديني، إلى التعليق أن الحكم يمثل رداً على دعوة رئيس الجمهورية.

من هم القرآنيون

يطلق القرآنيون على أنفسهم اسم "أهل القرآن" كما يتمسكون بتسمية "مسلمين حنفاء"، للتأكيد على كونهم غير خارجين على الدين ولا منكرين للألوهية أو النبوة، إلا أنهم يعتبرون القرآن وحده مصدراً للفقه والتشريع الديني، ولا يعترفون بمرجعية للسنة بعضها أو كلها (المنسوب إلى نبي الإسلام من أقوال وأفعال) والإجماع والقياس.

وبحسب موقعهم الرسمي، يؤمن القرآنيون في مصر بأن "القرآن هو المصدر الوحيد للإسلام وشريعته. وأنه لم يفرط في شيء يحتاج إليه المسلمون. ويضيف الموقع أن "أهل القرآن... يستهدفون بجهادهم الفكري السلمي إصلاح المسلمين بالرجوع إلى جوهر الإسلام الحقيقي وهو القرآن الكريم".

يعتبر "مفكرون إسلاميون" أن نشأة "القرآنيين" حديثة، وأن تاريخها يعود إلى "ظهور" ذلك الفكر في مصر في سبعينيات القرن الماضي على يد أحمد صبحي منصور وهو مدرس سابق بالأزهر الشريف فصل من عمله في الثمانينيات بسبب أفكاره.

لكن رفض السنة المجموعة، والاعتداد بالقرآن وحده مصدراً للفقه والتشريع الإسلاميين، أمر يعود تاريخه إلى فترات تسبق القرن العشرين بكثير.

لم يبدأ جمع وتدوين الأقوال والأفعال المنسوبة إلى النبي (ص) بشكل منظم إلا في عد الملك عمر بن عبدالعزيز في القرن الثاني الهجري، بعد انتشار "التقوّل على رسول الله" أي بعد أن انتشر أن يؤلف الناس أقوالاً وينسبوها إلى النبي، وبدأت الدولة بأوامر من حاكمها في تمويل عمليات جمع وتدوين الأحاديث، خوفاً من دس أقوال على النبي لم يقلها، وأبرز الجهود الناجمة عن ذلك "موطأ" الإمام مالك والذي رفعت كثير من أحاديثه لاحقاً مع تطور علوم التحقيق والإسناد في القرن التالي.

يعني أن هذا أن جمع السنة بشكل منظم تأخر إلى ما يزيد على 150 عاماً من وفاة النبي وصحابته الأقرباء؛ ما أدى إلى التشكيك فيها أو في جوانب منها في تاريخ مبكر. فقد أنكر المعتزلة في القرن الثاني الهجري أحاديث الآحاد (أي التي لم ينقلها سوى راو واحد) إذ رأوا أنه لا يؤمن كذب هذا الراوي، وأعملوا العقل في قبول أو رفض الأحاديث فرفضوا منها ما لا يتفق مع المنطق أو مع نصوص القرآن، وهو ما رآه علماء السنة خروجاً من المعتزلة على صحيح الدين.

وفي كتابه "إنكار السنة: تاريخه وفرقة وتوابعه" والذي خصصه للرد على منكري حجية السنة، يرصد الباحث الإسلامي سيد عبدالماجد الغوري وقائعاً تدل على أن الأفراد من المسلمين الذين كانوا يرون بحجية القرآن وحده مصدراً للتشريع الإسلامي ظهروا منذ القرن الأول الهجري، أي أنهم وجدوا قبل قيام فرقة المعتزلة، ومنهجها الذي اعتمد على إعمال العقل ومقاربة الدين من خلال الفلسفة. وكذلك سبقهم "الشيعة" الذين يعتدون فقط بالأحاديث التي نقلها آل البيت النبوي ويرفضون المروي المنقول عن الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما.

ويستند علماء الدين الأوائل والمتأخرين في الاعتداد بالسنة مصدراً للتشريع إلى أقوال منسوبة إلى النبي، ما يعني أنهم يحتجون بالسنة لإثبات حجية السنة، وهو ما ينكره عليهم رافضي الاعتداد بها، إذ يرون في ذلك تناقضاً منطقياً.

لم يكن المعتزلة آخر من رفض بعض أو كل المنسوب للنبي كمصدر للفقه الإسلامي، وعنوا بالاعتداد بالقرآن وحده لأن الله تعهده بالحفظ والصيانة من التبديل "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر -9)؛ بل تبعهم في ذلك فرق مسلمة كثيرة على امتداد القرون التالية، منها "عصرانية" الهند، وجماعة أهل الذكر في باكستان التي تكمن مفارقة نشأتها في أن مؤسسها هو أحد الدارسين المتخصصين لعلوم الحديث.

بحثاً عن "السماحة"

في حوار سابق له مع رصيف22، شرح المستشار القانوني أحمد عبده ماهر الأسس الفكرية التي يقوم عليها فكر القرآنيين، وحدد "مآخذه" على السنة النبوية المنقولة في كتاب صحيح البخاري، الموصوف بأنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم.

قال ماهر إنه كتب 80 مقالاً عن صحيح البخاري الذي يعتبره "أسوأ كتاب على وجه الأرض" وتعرض بالنقد إلى عدد من الأحاديث والمواقف الواردة فيه والمنسوبة إلى النبي.

كما هاجم ماهر في مقالاته وحواراته المنشورة فقه الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ووصف بعض ما وصل عنهم بـ"مدسوسات"، واعتبر بعضها تجني على روح الدين، وأن كتاباتهم تقف وراء اعتبار الإسلام ديناً "دموياً انتشر على أسنة السيوف والرماح".

تكفير وملاحقة أمنية

خلال ثمانينيات القرن الماضي، كتب زعيم الطائفة الحالي أحمد صبحي منصور وكان يعمل وقتها مدرساً بجامعة الأزهر – ما يعني أنه درس علوم الحديث والسنة على أيدي متخصصين- خمسة كتب انتقد فيها صراحة صحيح البخاري.

يقول الباحث في شؤون الإسلام السياسي ياسر فراويلة، إن كتابات منصور "استفزت" العديد من أساتذة جامعة الأزهر، الذين تقدموا بشكاوي عديدة ضده، أسفرت في النهاية عن القبض عليه عام 1987 في القضية المعروفة إعلاميا وقتها باسم "منكري السنة".

اعتقل منصور لمدة شهرين، وبحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية؛ استمرت السلطات في ملاحقته وأسرته حتى بعد أن اتخذ قرار الهجرة وغادر مصر عام 2000 إلى الولايات المتحدة، حيث استخدم حق اللجوء السياسي هناك، وذلك بعد إغلاق مركز بن خلدون الذي أسسه الباحث سعد الدين إبراهيم، والذي كان يقدم فيه محاضراته.

كانت قضيته هي البداية في ملاحقة الدولة للقرآنيين، وشهدت مرحلة التسعينيات حملات إعلامية واسعة ضدهم، ظهرت على صفحات الصحف والمجلات القومية المصرية وأبرزها روز اليوسف خلال فترة رئاسة تحرير الكاتب عادل حمودة لها، إذ عنت المجلة بنشر الموضوعات المثيرة المتصلة بالدين والجنس وكانت وراء تفجير قضايا على نفس الشاكلة منها قضية "عبدة الشيطان" الشهيرة، ما جعلها من أوسع المطبوعات المصرية انتشاراً.

بمجرد هجرة "زعيم القرآنيين" كما تسميه البيانات الرسمية، نشط جهاز أمن الدولة في عامي 2000 و2001 في ملاحقة "منكري السنة" بحسب الباحث ياسر فراويلة: "وقتها تم القبض على أفراد من أسرة صبحي منصور وأقاربه، وبلغوا 8 أشخاص بينهم سيدة، ممن يعتنقون أفكاره ويسعون للترويج لها، وكان وقتها منصور في أمريكا ينشر أفكاره من خلال مراكز إسلامية عديدة يؤسسها لنشر هذا الفكر بين مسلمي الغرب. وقد حصل وقتها على حق اللجوء السياسي في أمريكا. وتم إغلاق القضية عام 2002 بعد الحكم بسجن المتهمين 3 سنوات مع الشغل والنفاذ".

في 2007 ألقت السلطات الأمنية المصرية القبض على مجموعة جديدة من القرآنيين ووجهت إليهم تهم ازدراء الدين الإسلامي وإنكار السنة النبوية، منهم المدون رضا عبدالرحمن. وفي عام 2020 ألقي القبض على 3  أشخاص في الشرقية بتهمة إحياء طائفة القرآنيين والإساءة للدين الإسلامي وإنكار السنة النبوية وكان منهم عبدالرحمن أيضاً، الذي لا يزال قيد الاحتجاز من دون محاكمة حتى توقيت نشر هذا التقرير .

السوشال ميديا سبباً

يعتقد فروايلة أن تصريحات أحمد عبده ماهر "المثيرة للجدل" حول الصحابة وحساب توقيت شهر رمضان والتي كتبها وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي كانت وراء  تقدم المحامي - المعروف بالقضايا الشبيهة- سمير صبري ببلاغ إلى النائب العام في منتصف 2020، يتهم فيه ماهر بازدراء الدين الاسلامي، وأنه "يضرب ثوابت الدين ويسيء للفتوحات الإسلامية ويتطاول على الصحابة والأئمة، ويشكك في شهر رمضان"، وقد كان هذا البلاغ هو محور القضية التي تم الحكم فيها بالحبس لمدة 5 سنوات على أحمد عبده ماهر.

 الداعية الإسلامي محمد محروس الخراشي الخطيب بوزارة الأوقاف يرفض أن يطلق على الطائفة التي ينتمي ماهر "القرآنيين"، قائلاً: "لا يجب أن يتم لصق القرآن الكريم بهم في وصفهم. بل أدق وصف من الممكن أن يتم وصفهم به هو أنهم منكري السنة النبوية". ويتهم الخراشي القرآنيين بـ"هدم الدين نفسه" معتبراً أن الله أمر المسلمين في القرآن باتباع سنة النبي من خلال قول الله : "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم). وبحسب الخراشي: "هذا دليل واضح وصريح من القرآن على أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحي يجب الالتزام به ،على عكس ما يردده منكرو السنة من هذه الطائفة".

الداعية المقيم في النمسا بهجت العبيدي، مؤسس "الاتحاد العالمي للمواطن المصري في الخارج" ،يقول لرصيف22: "الإسلام مثله مثل كافة الديانات التي شهدت العديد من الفرق والمذاهب، ومن ضمن هذه الجماعات جماعة القرآنيين الذين يعلنون أنهم مسلمون موحدون بالله مؤمنون بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يرفضون الأحاديث التي تتعارض مع كتاب الله، كما لا يتخذون أحاديث الآحاد مصدراً من مصادر التشريع. وهذه الجماعة -على حد علمي- لا تنكر السنة الشريفة بالكلية، ولكنها ترفض ما تعارض منها - في تصورهم- مع القرآن. فهذه الجماعة وإن كان هناك بعض الشطط في أفكارها، ولكنها لم تنكر نبوة النبي الكريم وتؤمن بمعجزة القرآن الكريم ولم تنكر فرضاً من الفروض ولا ركناً من أركان الإسلام".

وانطلاقاً من هذا، يرفض العبيدي تكفيرهم. ويعلق: "إن كان الأزهر الشريف لم يكفّر جماعات الإرهاب ولم يخرجهم من الملة، وكذلك ينظر إلى أهل الشيعة الذين يختلفون اختلافا جوهرياً مع أهل السنة على أنهم مسلمين ومن أتباع القبلة، فأولى أن ينظر لجماعة القرآنيين هذه النظرة ولا يتم إخراجهم من ملة الإسلام. وإن كان هناك خلل في فهمهم للسنة المطهرة فعلى علماء الأزهر الشريف أن يناقشونهم في الشبهات التي وقعوا فيها ويقومونهم".

وطالب الكاتب إبراهيم عيسى عبر برنامجه التلفزيوني بالتوقف عن ملاحقة القرآنيين وطالب أن "يتم الرد على الأفكار بالأفكار لا بالحبس"، معلقاً أنّ "السلفيين والإخوان يواجهون الإصلاح الديني بإثارة الذعر حول تغيير مزعوم في ثوابت الدين". مشيرًا إلى أن "تخويف رموز التنوير والفكر لم يجعلهم يتراجعوا أمام تهديدات المتطرفين والمتشددين، ويجعلهم مستمرين في أفكارهم".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث