محمد أمجد كرارة:
وصلتنا مجموعة من الروايات والقصص المذكورة في عدد ليس بالقليل، من كُتب التراث، حول المثلية الجنسية، التي تُعارض في مضمونها وسرديتها ما اتفقت عليه كتب الفقه وبعض أحاديث السيرة.
فكل ما نعرفه عن المثلية في شبه الجزيرة العربية، هو بعض الأقاصيص والأشعار في فترة الحكم العباسي، وقليل جداً ما نسمعه عن أحوال وقصص "مُخنثين" (كما كانوا يُلقّبون)، في فترة صدر الإسلام أو الجاهلية قبلها. كذلك، كل ما انتهى إلينا من روايات حول المثلية الجنسية، حمل وتيرتين متناقضتين؛ الأولى فيها نوع من الرأفة والتسامح، أما الثانية -وهي الأشهر- فامتلأت رفضاً وتنديداً شديداً تجاه المثلية والمثليين.
ولنتعامل مع تلك النصوص المُتناقضة، بغض النظر عن مدى مصداقية بعضها وضعف الأخرى. سنستعرض هنا الرؤيتين، وندع للقارئ الحكم.
الجانب الأول
تدور بعض الروايات حول معرفة المسلمين الأوائل بالمثلية الجنسية، وتَسامحهم مع المِثليين في عصر صدر الإسلام، على مرأى ومسمع من النبي محمد، وكان يُطلق عليهم لفظ "مُخنث"، وهو اللفظ المُرادف وقتها لمثليّ الجنس.
يذكر كتاب "جمهرة اللغة"، لأبي بكر بن حسن الأزدي، أن المُخنث هو "مَن كَانَ يتكسّر فِي كَلَامه ومشيته كالنساء"، ويقول الحافظ المنذري: "المُخنّث بفتح النون وكسرها من فيه انخِنَاث، وهو التكسر والتثني كما تفعل النساء".
يروي لنا ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري"، أنه "كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة مُخنثين هم هيت وماتع وهرم". وفي كتاب "شرح أمالي القالي" لأبي عبيد البكري، نقرأ: "كان في المدينة ثلاثة من المخنثين يدخلون على النساء، فلا يحتجبن".
يدلّ ذلك على أن هؤلاء المخنثين الثلاثة كانوا يدخلون على نساء المسلمين في غياب رجالهم، فلا تحتجب النسوة؛ فقد عدّهم المسلمون الأوائل في حُكم أولي الإربة (أَو ما مَلَكَت أَيمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ)، وهم الذين لا تثيرهم شهوةٌ تجاه النساء. بل نجد أن هؤلاء المخنثين الثلاثة كانوا يدخلون على نساء النبي، ويجالسونهن، فيذكر البارودي في كتابه "الصحابة" أن "عائشة رضي الله عنها قالت لمخنث يعيش بالمدينة اسمه أنة: ألا تدلنا على امرأة نخطبها لعبد الرحمن بن أبي بكر".
تعزز تلك الرواية أيضاً نظرية أن المخنثين كانوا يدخلون على النساء دون أن تحتجب عنهم إحداهن، وبرغم نزول أمر احتجاب نساء النبي في القرآن، إلا أنهن لم يحتجبن عن هؤلاء؛ ذلك لأنهن عددنهن من أولي الإربة، فليست لهم رغبة في النساء.
برغم وجود رواية بمدلول آخر!
في صحيح البُخاري، باب غزو الطائف، ينقل حديثاً عن أم سلمة: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً، فعليك بابنة غبلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمانٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يدخلن هؤلاء عليكن".
وأما ما يقصده بأنها ابنة غبلان تُقبل بأربع، فيعني عكن بطنها، أي تجاعيده، فترى عند إقبالها أربعاً. وتدبر بثمانٍ، يقصد أطراف العكن الأربع، فكأنها تسير على ثمانية. أي أن المُخنث المذكور، وهو في رواية "هيت/ هيث"، وفي رواية "ماتع"، وصف إحدى نساء العدو وصفاً صريحاً دقيقاً؛ فوصف معدتها وما بين رجليها وامتلاءها بشكل يثير به السامع، فما كان من النبي محمد سوى أن طرده؛ إذ تحدث البارودي في كتابه "الصحابة" عن أسباب طرد النبي لهيت أو ماتع، ونفيه إلى حمراء الأسد في ما بعد، بما معناه: "الأول إن المخنث المذكور كان النبي يظن أنه من غير أولي الإربة، وكان منهم ويتكتم بذلك. والثاني وصفه للنساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال وقد نهى النبي عن ذلك. والثالث أنه ظهر للنبي من ذلك المُخنث أنه كان يطّلع من النساء، وأجسامهن، وعوراتهن على ما لا يطّلع عليه كثير من النساء، فكيف للرجال!".
وفي رواية أخرى، أن رجلاً أراد أن يخطب امرأةً فأراد من ينعتها (يصفها) له فبرز "هيت" على رأس الشهود قائلاً: "إذا أقبلت تمشي على اثنتين، وإذا أدبرت ولّت تمشي على أربع". فلما علم النبي محمد بذلك أمر بنفيه وهو يقول: "ما أرى إلا مُنكراً وما أراه إلا يعرف النساء". وكان هيت يدخل على نساء النبي مثل سودة بنت زمعة وأم سلمة. وظل هيت منفياً في منطقة "عير جبل"، حتى توسطت له جماعة من الصحابة لدى النبي حتى يسمح له بدخول المدينة ليقتات منها أي شيء كي لا يموت جوعاً؛ فوافق النبي. وسار على نهجه من بعده عمر بن الخطاب الذي سمح لهيت بدخول المدينة يوم الجمعة، لينال منها ما يشاء من طعام وشراب يكفيه مؤونة أسبوع كامل، كما يذكر كتاب "الجامع" لابن وهب.
لم يكن المخنثون بحال هيت، الذي لعب دور "الخطّابة" في كثير من الأحيان، بل كان منهم صحابة، يرافقون النبي في ترحاله؛ ففي كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة"، يحكي ابن حجر عن صحابي مُخنث اسمه أنجشة الأسود: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم حادٍ حسن الصوت، يُقال له أنجشه الأسود. فيروي الإمام البخاري في صحيحه: كان أنجشة يحدو بالنساء، فإذا أعنقت الإبل، يقول له النبي: يا أنجشة رويدك سوقاً بالقوارير، أي لا تُسرع بالإبل التي تركبها نساء النبي".
لم تكن المثلية أو الممارسات الجندرية المتنوعة أمراً طارئاً على مجتمع المسلمين الأوائل، بل هو أمر معروف قبل الإسلام، حتى أن هناك من كان يُمارس الأبنة (الجنس الشرجي)، برغم زواجه وإنجابه، مثل عمرو بن هشام الشهير بأبي جهل، والذي كان يُصفّر إسته (يدهنها بالزعفران)، ليبرزها لعبيده حين يطؤونه، وكان أمراً معروفاً عنه، إذ يذكر أبو فضل الميداني في كتابه "مجمع الأمثال"، مقولةً اشتهرت عن أبي جهل وهي "أخنث من مصفّر إستِهِ، والإست هي المؤخرة، فيقول: إنهم كانوا يعنون بهذا المثل أبا جهل بن هشام، وقد كان يطليها بالزعفران تطييباً لمن كان يعلوه. ولذلك قال فيه عتبة بن ربيعة، وفي نسخة عتبة بن مسعود: سيعلم مُصَفّر إسته أيّنا ينتفخ سحره".
والواضح من الرواية أنها كانت صفةً لصيقةً بأبي جهل، ولو كانت تهمةً لحاول الرد ودفعها عنه، ولكن لم يحدث ذلك.
فتلك الروايات تمنحنا قراءةً مُغايرةً لتاريخ المسلمين الأوائل حول قضية المثلية الجنسية، وكمّ التسامح الظاهر من قِبل النبي وصحابته، معها ومع المثليين.
واللافت أن تلك القراءة دفعت العديد من المفسرين والمفكرين، في ما بعد، إلى تفسير مواضع آيات الجنة ونعيمها على أنها تتضمن حياةً مثليةً لمَن تعفف في الدنيا، وأبرز هؤلاء جلال كشك في كتابه "خواطر مسلم في المسألة الجنسية"، والذي عرّج على آيات سورة الطور: "وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ غِلۡمَانٞ لَّهُمۡ كَأَنَّهُمۡ لُؤۡلُؤٞ مَّكۡنُونٞ"، قائلاً: "بل من حقنا أن نُفسر قوله تعالى، غلمان لهم، بأنهم غلمانهم في الدنيا، الذين عفوا، وتأثموا، وصانوهم عن الفاحشة فاجتمعوا في الجنة، في خلود دائم للحظة الرغبة التي كُبحت بالتدين"!
في المُقابل...
هناك عدد من الروايات والأحاديث التي تعكس سلوكاً شائعاً اليوم بين الناس حول رفض المثلية والمثليين، دون تسامح أو قبول، انطلاقاً من أحاديث عديدة وصلتنا، وهي في أغلبها إما مقطوعة السند أو غير صحيحة، فقد علّق الشافعي على أحاديث اللواط قائلاً: "لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء".
ومن تلك الأحاديث: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". وفي حديث آخر: "إذا ركب الذكر على الذكر اهتزّ عرش الرحمن"، وأما في السحاق، فنُسبت إلى النبي أحاديث من قبيل: "السحاق زنا النساء بينهن". وحديث آخر: "إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان".
هذا فضلاً عن كمّ الأحاديث التي تنهي عن مُجالسة الغلمان، وهو أمر مُشاع عند العرب القُدامى، فعن أبي هريرة أنه قال: "نهى رسول الله أن يحدّ الرجل النظر إلى الغلام الأمرد". ولكن برغم وجود تلك الأحاديث، ونسبتها إلى النبي، لا يوجد حكم متفق عليه بين الفقهاء في حق المثليين؛ لذا اقتفوا أثر الخلفاء الأوائل، عبر قصص لا يُعرف مصدرها كذلك.
يذكر الشوكاني في "السيل الجرار": "قد قُتل اللوطي في زمن الخلفاء الراشدين، وأجمعوا على ذلك، ولا يضرّ اختلاف صفة القتل، وذهب إلى ذلك جماعة من العلماء". وفي رواية أخرى أن خالد ابن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق، أنه وجد لوطياً، فاستشار الخليفة الأول صحابة النبي، فكان رد عليّ بن أبي طالب أشدّهم، إذ قال: "ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة، وقد علمتم ما فعل الله بها، أرى أن يُحرق بالنار"، فأمر أبو بكر الصديق خالداً بحرقه.
وبناءً على القصة السابقة، يذكر ابن القيم الجوزية، الاختلاف بين الفقهاء في تلك المسألة: "ذهب أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وخالد بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك وإسحق بن راهويه والإمام أحمد، في أصحّ الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه، إلى أن عقوبته -يقصد اللواط- أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل على كل حال مُحصناً كان أو غير مُحصن. وذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النخعي وقتادة الأوزاعي والشافعي -في ظاهر مذهبه- والإمام أحمد -في الرواية الثانية عنه- وأبو يوسف، إلى أن عقوبته وعقوبة الزاني سواء (يقصد الجلد). وذهب الحاكم والإمام أبو حنيفة إلى أن عقوبته دون عقوبة الزاني، وهي التعزير. قالوا: لأنه معصية من المعاصي لم يُقدّر الله ولا رسوله فيه حدّاً مُقدّراً".
المحرّمات تحترق في الضوء!
كثُرت المحرّمات التي يُمنع التكلم عنها. الصمت الدائم يؤخّر التغيير، ويجعل حياة الملايين صامتةً ويُدخلهم في يأس لا يُطاق.
رصيف22 يسلّط الضوء على هذه المحرّمات. مهمتنا هي مشاركة تجارب الشجعان/ الشجاعات وأفكارهم/ نّ ومشاعرهم/ نّ، في سعيهم/ نّ إلى خلق حقائق جديدة لأنفسهم/ نّ وللمجتمع.
يرى الملايين من الناس يومياً حيواتهم ونضالاتهم تنعكس في عملنا، ونرى نحن أن أهم ما علينا فعله هو قول ما يجب أن يُقال.
ألا تنضمّ/ ين إلى من يشبهونك/ يشبهنكِ؟ا.