ماهر جبره:
قرأت، كما قرأنا جميعا منذ عدة أيام ، خبر نجاح عملية زراعة كلية خنزير في جسد مريضة متوفية دماغيا. وهو الخبر الذي يعد بمثابة بارقة أمل لملايين مرضى الكلى حول العالم. خبر ربما يفتح الباب حرفيا لفرصة جديدة في الحياة لمن يعانون من الفشل الكلوي ويحتاجون لزراعة كلية جديدة.
فحاليا يحتاج 93 ألف شخص لعملية زراعة كلى داخل الولايات المتحدة وحدها. وفي المتوسط يتنظرون من ثلاث إلى خمس سنوات حتى يجدوا متبرعا. وقد أفادت دراسة صدرت عن جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا سنة 2018، بأن هناك حوالي 43 ألف مريض بالكلى يموتون سنويا في انتظار عمليات الزراعة. يحدث هذا في الولايات المتحدة، حيث ثقافة التبرع بالأعضاء شائعة والقوانين تسهل ذلك، والإمكانيات والمراكز الطبية متاحة لعمل هذا النوع من العمليات. فلك أن تتخيل حجم معاناة المرضى الذين يعيشون في مجتمعات تنظر إلى التبرع بالأعضاء على أنه حرام.
وتفيد الدراسات أن هناك عدة ملايين من المرضى حول العالم ممن يعانون من الفشل الكلوي. يعيش هؤلاء على أمل الحصول على كلية من خلال عملية زراعة للكلى. وعلى الرغم من أن الإنسان يستطيع أن يعيش بكلية واحدة، إلا أن عدد من يتبرعون بالكلى أقل بكثير جدا من المحتاجين إلى زراعتها. كل هذا يضعنا أمام معاناة ومأساة صحية يحياها هؤلاء كل يوم.
ولكن كما انتصر العلم على أمراض سابقة، وكما حقق الأطباء والعلماء إنجازات سابقة عظَّمت من قدرتنا على التعامل مع الأمراض المختلفة، يجتهد العلماء اليوم لنقل كلى الخنازير إلى الإنسان لتسديد العجز والفجوة الكبيرة بين العرض والطلب.
غير أننا كعادتنا في التعامل مع النجاحات الطبية والعلمية الجديدة، بدلا من الاحتفاء بهذا الإنجاز الهائل، والذي مازال في مرحلة مبكرة جدا، امتلأت الفضائيات الأيام الماضية بالجدل حول مدى حرمانية هذه العملية.
فقد بدأ الأمر بفتوى من الأزهر، تقول إن نقل الكلى من الخنزير حرام، إلا في حالة الضرورة. هذه الفتوى أثارت حالة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. فهل هناك شخص سيقوم بعملية زراعة كلى إلا في حالة الضرورة بل الضرورة القصوى، حين لا يكون هناك أي أمل لأي بديل علاجي آخر.
والحقيقة إن ردود الأفعال من فتاوى وتصريحات رجال الدين تستحق المتابعة والتأمل. فقد استضاف، عمرو أديب، في برنامجه الشهير "الحكاية" شيخين للتعليق على الأمر. أحداهما دافع عن الفكرة، والآخر كان ضدها وإن لم يقل ذلك صراحة. فقد بدأ حديثه قائلا سأشرح وجهة نظري على عدة مراحل، ليبدأ بمقدمة طويلة عن اختلاف الفقهاء بشأن فكرة العلاج الطبي من الأصل. حيث قال إن بعضهم قد حرم العلاج الطبي من أي مرض. ثم انتقل بعدها لتحريم أكل الخنزير دينيا، وهو الأمر المعروف بالطبع للجميع.
ثم قال ما معناه إن التضحية ببعض المرضى (مرضى الكلى) من أجل البعد عما اعتبره شبهة تحريم في هذه الحالة، هو ما ينبغي فعله، في تصريح صادم جدا، لا يكشف إلا عن احتقار قيمة حياة الإفراد من مرضى الكلى ومعاناتهم هم وأحبائهم. على شاكلة تصريح، محمد مرسي، الشهير، الرئيس الإخواني الأسبق، أنه لا مانع من التضحية ببعض الناس من أجل أن يعيش الوطن. فالتضحية بحقوق الأفراد تحت زعم حماية المجتمع هو أحد مظاهر التفكير الفاشي بامتياز.
أما الشيخ، أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، وكان أكثر وضوحا. حيث صرح في برنامج "حوار الخميس" أن الأمر حرام شرعا بلا نقاش. وقال إن كل من يريد أن يتهاون في أمور الشريعة، يقول الضرورات تبيح المحظورات. وعلى العلماء أن يجدوا حيوانا آخر لينقلوا منه كلى للإنسان غير الخنزير. كما لو كان الأطباء الذين قاموا بالعملية في أميركا قد استخدموا الخنزير تحديدا ليغيظوا المسلمين، وليس لأن هناك أسبابا علمية مرتبطة بالجينات تجعل من الخنزير الحيوان الأنسب لهذه العملية.
أما يا عزيزي فلو أردت أن ترى مفارقة عجيبة، فسأدعوك أن تقرأ إحدى مقالات موقع Vox، لكاتب أميركي هاجم نفس العملية واعتبرها غير أخلاقية، ولكن لسبب مناقض تماما. موقع Vox هو من أشهر مواقع الرأي والتحليل في الولايات المتحدة، وقد كتب فيه، ديلان ماثيوز، وهو أحد محرري الموقع مقالا يشرح فيه لماذا استخدام الخنازير في هذا العملية غير أخلاقي. وهو هنا لا يتكلم عن الدين من بعيد أو قريب، ولكنه باختصار يقول إن الإنسان يستطيع أن يحيا بكلية واحدة، وإنه لو تدخل التأمين الصحي الحكومي بتقديم الدعم المادي ودفع تعويض عن الإجازات وفترة التعافي التي يتعرض لها المتبرع بالكلى، سيُقبِل عدد أكبر من الناس على التبرع بالكلى.
وهنا لن نحتاج إلى قتل عشرات الآلاف من الخنازير للحصول على أعضائها. فمن وجهة نظره كشخص تبرع بكلية لشخص لا يعرفه من قبل، وكمدافع عن حقوق الحيوان، إنه ليس من العدل قتل كل هذه الأعداد من الحيوانات في حين يمكن الحصول على الكلى من البشر من دون أن يتوفى أحد. وللمفارقة ففي اللحظة الذي أفتى فيها بعض رجال الدين بحرمانية هذه العملية، متجاهلين معاناة المرضى، ومستهينين بحياتهم، يخرج هذا الكاتب ليدافع عن حياة الخنازير!
كل هذا كان يحدث الأسبوع الماضي، ونحن نتابع إعلان مارك زوكربيرغ عن تغيير اسم شركة فيسبوك إلى "ميتا"، نسبة إلى تكنولوجيا "الميتافيرس"، أو مستقبل الإنترنت كما يطلقون عليه. وهو ببساطة ما سيحول الإنترنت إلى خبرة ثلاثية الأبعاد من خلال نظارات الواقع الافتراضي أو الـ VR والهولوجرام، وتقنيات تكنولوجية حديثة أخرى، ستجعلنا نستطيع أن نختبر التواجد سويا بشكل ثلاثي الأبعاد، أشبه بأفلام الخيال العلمي من دون أن نتحرك من بيوتنا.
كنت أتابع كل هذا وأتأمل الفرق بين نقاشاتنا ونقاشاتهم، وبين حواراتنا وحواراتهم. بين الإصرار على تحليل وتقييم كل جديد من خلال أفكار من عاشوا قبلنا بقرون، وبين من يفكرون في حقوق الحيوان، ويناقشون ويحلمون لمستقبل البشرية. بين ثقافة تنتج المستقبل، وثقافة تأبى أن تترك الماضي خلف ظهرها وترى فيه الأمل والنجاة والحل لكل مشكلات اليوم.
كل هذا دفعني لسؤال بسيط ولكنه مهم: ما هي طبيعة النقاشات التي نقدمها أو بالأصح نفرضها على مجتمعاتنا؟ وما تأثير ذلك على الأجيال القادمة؟ ففي اللحظة التي يناقش فيها الغرب كيف ستؤثر تكنولوجيا الميتافيرس في شكل صناعة التعليم والترفيه والتبادل التجاري والسفر والتنقل. نناقش نحن في برنامج يشاهده الملايين حول العالم العربي، كيف أن التضحية بحياة مرضى الكلى وغض الطرف عن معاناتهم ومعاناة أسرهم، هو ما ينبغي علينا فعله لأن هناك شبهة تحريم تحدث عنها بعض الفقهاء الذين عاشوا قبلنا بقرون طويلة.
والحقيقة أنني في هذا المقال لا أقصد نهائيا نقاش قضية نقل كلى الخنازير من الناحية الفقيهة. فمن حيث المبدأ، أرى أن هذا الشأن لا يخص إلا الأطباء والمرضى الذين قد ينقذ حياتهم هذا السبق الطبي أو للأسف يموتون عبثا من أجل فتاوى متشددة. ولكن ما قصدته هنا هو أن أطرح بعض الأسئلة حول طريقة تعاطينا مع هذا النوع من الأخبار.
فمثلا، هل سنشهد في حياتنا نقاشا مجتمعيا علميا بحتا حول الإنجازات العلمية الجديدة بعيدا عن فتاوى التحريم والتحليل؟ وهل سيأتي اليوم الذي يترك فيه رجال الدين الطب لأهله ولا يقاموا كل ما هو جديد؟ وهل ستأتي اللحظة التي سنكون فيها جزءا من التطور العلمي؟ بدلا من أن نكون فقط مستهلكين ومقاومين له.
فمقاومة ما هو جديد في عالم الطب له تاريخ طويل جدا في بلادنا. وقد تحدثت عن عدة أمثلة لذلك في مقالات سابقة مثل تحريم التشريح، ورفض تجريم ختان الإناث وتحريم نقل الأعضاء، وقد قيلت كل ذلك الآراء وصدرت كل هذه الفتاوى من أجل نصرة الدين، من وجهة نظر من قدموها، على حساب حياة وحقوق البشر، ثم تراجعت عنها المؤسسات الدينية مع الوقت. والآن يتكرر نفس الأمر مع الدعوة لترك مرضى الكلى يموتون في سبيل الخوف من وجود شبهة تحريم في هذه العملية الجديدة! كل هذه أسئلة دارت بخاطري وأنا أتابع هذه الأمر الأيام الماضية، وأردت مشاركتها معكم!