منصور الحاج:
يسألني كثيرون عن الأسباب التي أدت إلى تحولي من متشدد سلفي إلى ليبرالي علماني لاديني يسعى من أجل أن ينعم البشر بالحرية والعيش في ظل نظام يكفل العدالة للجميع ويحترم ويحمي حقوق الإنسان. وأكثر ما يسألون عنه هو الطريقة التي حدث بها التغيير، والأسباب التي جعلتني أغير طريقة تفكيري وطبيعة الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي.
وبما أن تفصيل الإجابات على جميع تلك الأسئلة يحتاج إلى وقت طويل ولشرح مستفيض، فإنني عادة ما أرد باختصار بأن السبب هو القراءة والاطلاع، ومحاولاتي الجادة من أجل إيجاد إجابة مقنعة لسؤال طالما أرقني، ألا وهو سبب تخلف المسلمين على الرغم من ادعائهم بأن بين أيديهم كتاب من خالق الكون يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟
وبحكم نشأتي في المملكة العربية السعودية فقد تلقيت جرعات كبيرة من التعليم الديني في المدارس الحكومية وحلقات تحفيظ القرآن، الأمر الذي جعل تفكيري خارج إطار الدين أمر بالغ الصعوبة، ولذلك فقد ظللت أردد لسنوات طويلة أن سبب تخلف المسلمين يكمن في المسلمين أنفسهم لعدم تطبيقهم الإسلام الحقيقي، وأن كل الأنظمة التي تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية لا تطبقها حقيقة.
كنت أؤمن بأن خيار المسلمين الوحيد للنهوض واستعادة أمجاد الماضي هو بالرجوع إلى النهج النبوي الذي كان عليه الصحابة، وأن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها وأن الخلل ليس في النظرية وإنما في طريقة تطبيقها.
لم أكن قادرا على التفكير خارج إطار أن العلة في التطبيق بسبب الخوف من الدخول في متاهات الشك، فالقول أو مجرد التفكير في أن العلة يمكن أن تكون في الإسلام يعني الشك في أن الدين الإسلامي هو أصح العقائد والشك في ذلك يُدخل المرء في متاهات لا تحمد عقباها، بدءا من الاتهامات بالزندقة وانتهاء بتطبيق حد الردة.
وكان من أصعب الأمور التي واجهتها في تلك المرحلة هي عقدة التخلص من الخوف من عواقب التشكيك في عقيدتي، فكنت كلما ساورني الشك فيما اعتقد اهرع إلى الاستغفار من تلك الخطيئة فأتوضأ وأصلي ركعتين حتى أطرد عني الشيطان ووساوسه.
في عام 2003 بعد أن تخرجت من قسم الشريعة والدراسات الإسلامية من جامعة أفريقيا العالمية بالسودان، عدت إلى المملكة العربية السعودية للعمل والاستقرار، وعبر الصدفة وأثناء عملي في إحدى المكتبات تعرفت على المفكر وداعية اللاعنف الدكتور خالص جلبي عن طريق طالب كنت أقوم بطباعة ورقة بحثيه له. كان الطالب يحمل نسخة من صحيفة "الشرق الأوسط" فيها مقال للدكتور خالص الذي كان أول من صدمتني آراؤه عن حرية التفكير وحرية الاعتقاد لا يتعارضان مع الإسلام.
من أهم المقالات التي قرأتها للدكتور خالص وساهمت في تغيير طريقة التفكير عندي مقالا بعنوان "الطريق باتجاه واحد فقط" شرح فيه كيف أن عقوبة قتل المرتد لا تمت إلى الدين الإسلامي بصلة وأنها كانت سلاحا سياسيا يستخدمه الحكام المسلمون لتصفية معارضيهم.
لقد صدمتني جرأته في السخرية ممن يقولون بحد الردة من خلال قصة وفد من رجال الدين المسلمين ذهبوا إلى اليابان لدعوة اليابانيين إلى اعتناق الإسلام وكيف أنهم كانوا يوضحون لليابانيين أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج، حتى وصلوا في آخر المطاف إلى نقطة أن من يدخل الإسلام غير مسموح له بالخروج منه، وأن من يفعل يعتبر مرتدا يجب تطبيق حد الردة عليه وهو القتل.
ذكر الدكتور خالص في مقاله أن اليابانيين تعجبوا من ذلك الحكم غير المنطقي متحججين بأنهم عندما قاموا بصناعة السيارة صنعوا فيها دواسة البنزين حتى تسير السيارة إلى الأمام ودواسة الفرامل للتوقف بالإضافة إلى خيار العودة للوراء، لأن المنطق يقول بذلك. أكثر ما أعجبني هو تشبيهه للإسلام الذي يسمح بالدخول فيه ولا يسمح بالخروج منه بمصيدة الفئران التي تغري الفئران بالدخول إلى حيث لا مجال للخروج.
كان ذلك بمثابة ضوء أخضر لي للتفكير بحرية وإطلاق العنان لكل التساؤلات دون الخوف من ارتكاب معصية التفكير فيما يُحظر التفكير فيه. أعجبتني فكرة أن وظيفة العقل هي التفكير وأنه لا يجب وضع أي قيود أو خطوط حمراء أمام العقل.
بعد ذلك المقال بدأت في مراسلة الدكتور وطرحت عليه أسئلتي، وبدأت ألتهم مقالاته التي كان يرسلها الي باستمرار. تأثرت كثيرا بالدكتور خالص وبآرائه، ووجدت في فكرة اللاعنف التي يدعو إليها طريق الخلاص لكل مشكلات العالم، لكنني عندما تعمقت قليلا في الفكرة، لم أقتنع بمحاولات الدكتور خالص وداعية اللاعنف الشيخ جودت سعيد لأسلمة الفكرة عبر الاستعانة بالآيات والأحاديث للتدليل على أن الإسلام يدعو لانتهاج اللاعنف، ربما يعود ذلك لتأثري بهوس المسلمين بالادعاء أن دينهم قد سبق العالم في كل جديد يتم اكتشافه، ومحاولاتهم الدائمة لنسبة أي شيء إيجابي للإسلام وتبرئته من كل ما هو سلبي.
في أبريل 2005 غادرت المملكة إلى مصر، وهناك وفي مكتبة الإسكندرية تعرفت على عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي قلب أفكاري رأسا على عقب حينما قرأت كتابه "مهزلة العقل البشري"، والذي منه تعلمت أن الإنسان هو ابن بيئته التي منها يكتسب دينه وثقافته وطريقة التفكير.
صدمتني فكرة أن الناس عادة لا تختار دينها بل تكتسبه اكتسابا وهذا ما جعلني اسأل نفسي إن كان الله إله عادل؟ ولماذا أكون محظوظا لأنني ولدت في مكة المكرمة لأبوين مسلمين، وغيري غير محظوظ فقط لأنه ولد في بقعة أخرى من العالم لأبوين لا يدينان بالإسلام على الرغم من أن كلانا لم يختر والديه أو مكان ولادته. كانت تلك بالنسبة لي نقطة جوهرية دفعتني إلى إعادة النظر في كل معتقداتي وأفكاري.
اعتكفت في مكتبة الإسكندرية لمدة ثلاثة أشهر، كنت أقرأ فيها بنهم الكثير من الكتب، وكنت كلما أقرأ كلما ازدادت رغبتي في قراءة المزيد. لقد كانت تلك الفترة مرحلة فاصلة في حياتي.
بعد هجرتي إلى الولايات المتحدة أواخر عام 2005، أحسست فعلا بأنني حر وبدأت أعبر علانية عن آرائي دون أن أخشى على نفسي من التعرض للمحاكمة أو الاتهام بالردة، لكنني واجهت معارضة حادة جدا من أصدقائي ومعارفي الذين خسرت الكثير منهم بسبب مواقفي وآرائي في بعض تعاليم الإسلام.
اختتم قصتي بموقف تعرضت له قبل سنوات، ففي إحدى المرات اتصل بي أحد أعمامي من السعودية حيث يقيم منذ أكثر من 40 عاما، وطلب الحديث معي في موضوع مهم. قلت له تفضل، فقال لي: لقد أخبرني أحد أصدقائك بأنك تأكل لحم الخنزير فهل هذا صحيح؟ سألته عن اسم هذا الصديق لكنه رفض أن يخبرني.
صمتَ لبرهة ثم أعاد عليّ السؤال، فقلت له: ياعم، أنا لا أرى إشكالا في أكل لحم الخنزير وقبل أن أستفيض في شرح الفكرة سمعت صفيرا متقطعا.. توت توت توت .. نعم لقد أغلق الخط في وجهي!