الأخ رشيد
قبل حديثي عن "لاهوت الذمية" وتعريفه، عليّ أن أعرج في عجالة على فكر "لاهوت التحرير". لقد ظهر لاهوت التحرير في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية، التي كانت قد رزحت طويلًا تحت الاستعمار ثم تحت أنظمة استبدادية. وعوض أن تنحاز مؤسسة الكنيسة الرسمية إلى المستضعفين والمنسحقين، انحازت –مع الأسف- إلى المستعمر أو الحاكم، فظهر لاهوت التحرير عند القادة المسيحيين الذين تمرّدوا على موقف المؤسسة الرسمية وأصّلوا لفكرة قراءة الإنجيل من منظور الفقراء والمهمشين، فرأوا في المسيح محرّرًا لهم، لا من الناحية الروحية فقط، بل من كل النواحي الأخرى أيضًا، ومنها الجانب السياسي والجانب المادي. وأكثر من ذلك رأى قادة هذا الفكر اللاهوتي في المسيح محرّرًا للبشر أيضا من الاستبداد والقهر والطغيان.
لقد أراد أصحاب لاهوت التحرير العودة بالمسيحية إلى القرن الأول الميلادي حيث لم تكن هناك مؤسسات رسمية مركزية، بل كانت الكنيسة عبارة عن تجمعات محلية كان الإنجيل فيها شعبيًا؛ إنجيل الشعب، إنجيل العامّة من الناس. لقد خدم المسيح نفسه بين الفقراء والمهمشين من المجتمع وقال "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت السماوات" (لوقا 6 آية 20) وأعلن عن مهمته حين قال بكل وضوح "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ" (لوقا 4 آية 18) صحيح أن السيد المسيح ركّز على الحالة الروحية للإنسان وعلى شقائه الداخلي بسبب الخطية، لكن منظّري لاهوت التحرير رأوا أن الفقر والظلم والاستبداد من نتاج الخطية وبسبب شر الإنسان تجاه أخيه الإنسان. فإن كان المسيح قد جاء لتحرير الإنسان من الخطية فلا بد وأنه جاء لتحريره من نتائجها أيضًا.
ظهر لاهوت التحرير في بيرو والبرازيل وبورتريكو والسلفادور وأوروجواي على يد رواد مثل كوستاف كوتيري، وجون سوبرينو وغيرهم. لكن للأسف، لم يظهر لاهوت التحرير بين المسيحيين الذين يعيشون في الدول ذات الأغلبية المسلمة. يحيا المسيحيّون في تلك الدول كذميّين تحت وطأة الاضطهاد والأسلمة والتذويب الهُويّاتي. وعلى العكس من لاهوت التحرير ظهر بين مسيحيي الشرق لاهوت الذمية؛ لاهوت الخضوع للسلطة أيًا كانت هذه السلطة. إنه لاهوت لا يهتم بحقوق الإنسان ولا بالدفاع عن المظلومين والمضطهدين. لاهوت لا يُعلّم الاصطفاف إلى جانب المنسحقين بقدر ما يهتم بالحفاظ على المؤسسة وامتيازاتها، لذلك تجده يحابي السلطات ويصفّق لها ويتذلّل لها، بل ويصير أداة في يدها وبوقًا إعلاميًا يدافع عنها على حساب الشعب. والأكثر مرارة أن لاهوت الذمية وصل إلى حد الدفاع عن ديانة الأغلبية واعتبارها ديانة سماوية. إنه لاهوت خرج أصحابُه للدفاع عن محمد "رسول الله" ضد النقد الذي لحقه، لاهوت يتطوّع أصحابه ليصيروا مسلمين أكثر من المسلمين أنفسهم، فيشرحون للناس أن الإسلام دين سلام وأن الإرهابيين ليسوا مسلمين ولا يمثّلون الإسلام!
يتحدّث لاهوت التحرير عن مسيح الفقراء، وعن المسيح الذي سيلوم –بل سيعاقب- يوم الدين أولئك الذين لا يبالون بالمساكين، فيقول لهم "جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي، كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ قِائِلاً: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا" (متّى 25 آيات 42 إلى 45) أمّا لاهوت االذمية فيروّج لثقافة الاستسلام داعمًا هذه الثقافة بآيات بعينها، مثل إدارة الخد الآخر (متى 5 آية 39)، و"الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خروج 14 آية 14) مخرجًا هذه الآيات من سياقها جاعلًا إياها دعوة للخنوع ولقبول الأمر الواقع كما هو، حتى لو كان واقع الاستبداد والظلم والجور.
إنّ لاهوت الذمية وسُكوت المسيحيين في الشرق طيلة هذه القرون هما ما جعلا الإسلام يتغوّل والمسيحية تتآكل شيئا فشيئا، حتى صارت الآن مهدّدة بالانقراض من الشرق بعدما كانت كل تلك الدول ذات أغلبية مسيحية في يوم من الأيام. لقد ألغى لاهوت الذمية التبشير الذي يصطدم مع الحاكم ومع ديانة الأغلبية، فاكتفى من التبشير كله بآية "لكي يروا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات" (متّى 5 آية 16). تجاهل هذا الفكر الذمي وجود آيات أخرى تقول "اذهبوا وتلّمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متّى 28 آية 19). كذلك تجاهل قولَ المسيح "اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مرقس 16 آية 15). تجاهل أصحاب هذا اللاهوت أن المسيح جاء ثائرًا على الوضع السائد بكل ما فيه حتى الوضع الديني. تجاهلوا أن المسيح جاء ليقلب الموازين؛ فتعاليمه لم ولن تكون بردًا وسلامًا بل ستكون سيفًا، سيفًا يفرّق بين الناس لأن هناك من سيرفض الإيمان بالمسيح وسيحمل السيف ضد أتباعه. أصحاب لاهوت الذمية نسوا أن فعل التوبة نفسه فعل ثوري، لأنه ثورة على الذات، ثورة على ما تعوّدنا ممارسته والخنوع له، فالتوبة لا تتحقّق إلا برفض الاستعباد الروحي والمادي.
إنني كعابر، ثُرتُ على ديني وعلى مجتمعي، ورفضت الخنوع على حساب إيماني الجديد الذي اقتنعتُ به. لقد أثّر فيّ قولُ المسيح الثوري "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (متّى 16 آية 26) فقررتُ أن أتبعه حتى لو خسرتُ العالم كله. جئتُ إلى المسيح متحمسًا وثائرًا. جئتُ مؤمنًا بأن التبشير ضرورة قصوى، التبشير بكل ما تحمله الكلمة من معنى. التبشير بخلاص الإنسان من كل مظاهر الظلم والاستبداد، وبخلاص الإنسان من كل قمع وذل وقهر، سواءً كان قهرًا روحيًا أو ماديًا. جئتُ للمسيح فوجدتُ وضعًا مأساويًا، وجدتُ أن الإسلام قد "دجّن" الشعب المسيحي في الشرق ودجّن المؤسسات المسيحية التي ترزح تحت حُكمه حتى صارت خانعة ذمية تدافع عن ذميتها وتؤصّل لها من الكتاب المقدس، عالمة أن هذه الروح الذمية تُرضي الأغلبية لاهوتيًا وسياسيًا. لذلك أقول للجميع لن يقع التغيير إن لم ينتفض المسيحيون، إن لم يقولوا لا للاهوت الذمية، لا للاهوت الخنوع باسم الله، فالمسيح لم يكن في يوم من الأيام، ولن يكون أبدًا، ناصرًا للظلم أو خانعًا أمامه. ولم يكن مجاملًا لديانة الأغلبية (متمثلة في رجال الدين اليهودي) بل انتقدها وقاومها بكل شجاعة علانية، وقال لمن يريدون أن يكونوا تلاميذه "مَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّني" (متّى 10 آية 38).
About the Author
الأخ رشيد:
إعلامي، وكاتب، درس العلوم الاقتصادية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، المغرب، ثم درس الإعلاميات، بعدها حصل على الإجازة في مقارنة الأديان، وحصل أيضا على ماجستير في العلوم السياسية. قدم الأخ رشيد منذ 2006 برامج تلفزيونية، خاصة برنامج "سؤال جريء" الذي تجاوز 550 حلقة، والآن يقدم برنامج بكل وضوح، وكتب ثلاثة كتب لحد الآن: إعجاز القرآن: دراسة وتحليل، داعش والإسلام: من منظور مسلم سابق، مستقبل الإسلام: أركان الإسلام الخفية.