إياد العنبر:
انشغلت دراسات العلوم الاجتماعية في نهايات القرن الماضي بظاهرة صعود حركات الإسلام السياسي، واتفق أغلب الباحثين على تفسير ذلك الصعود كنتيجة لعوامل عدّة، أهمها: أزمة الهوية والشعارات التي رفعها الإسلاميون بإحياء الهوية الإسلامية في مواجهة مشاريع التحديث والتغريب، ومن بينها هوية الدولة ونمط إدارتها، وإخفاقات سياسات ومشاريع التنمية التي وعدت بها أنظمة الحكم والتي لم تنتج إلا زيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وساهمت بترسيخ الانقسام الاجتماعي. وأيضاً اعتماد الدكتاتورية كنمط للحكم في المجتمعات الإسلامية.
لذلك كان ظهور الاتجاهات السياسية الإسلاموية هو تعبير لردّ فعل سياسي واجتماعي وثقافي يبحث عن شكل سياسي-اجتماعي جديد وفعّال يريد إحياء الهوية الدينية باعتبارها أصيلة وغير مستورَدة وترفع شعارات إسلاميّة ذات بريق وجاذبية، وتعتبرها حلولاً لم تُطبَّق في الأزمة الحاضرة. ومن هنا حاول الإسلام السياسي تقديم نفسه كبديل للأيدولوجيات العلمانية التي تبنتها الأحزاب والأنظمة الحاكمة.
يفسّر "جيل كيبيل" الباحث الفرنسي المتخصص بالحركات الإسلامية السياسية، قدرةَ هذه الحركات على التحشيد الجماهيري، إذ يرى أنّها تعتمد إمكانيتها في التغلغل الاجتماعي داخل طبقات محددة وبشعارات لها القدرة على الاستقطاب، معتقداً بأن النجاح السياسي لحركة إسلاميةٍ أو إخفاقها في بلد ما، رهين بمدى قدرة هذا التنظيم على التعبئة الاجتماعية؛ ويرى أن هذه التعبئة تكون ناجحة إذا ما استطاعت أن تضم ثلاث فئات مختلفة هي: الشباب الحضري الفقير، والنخب المثقفة المعارضة للأنظمة، وأخيراً البرجوازية الورعة. وكلّ فئة تتداخل مع الأخرتَين وتتفاعل. ولكلّ وحدة منها مرجعيتها الاجتماعية، وبرنامجها السياسي، ومواردها السياسية الخاصة بها، وهي لا تستطيع أن تكون فاعلة إلا إذا تظافرت مع الأخرتَين.
لذلك لم يكن مستغرباً مِن هيمنة قوى الإسلام السياسي على المجال العام في الدول التي شهدت سقوط الدكتاتورية والتحول نحو تبني الديمقراطية، ففي العراق وفي بلدان الربيع العربي كان وصول حركات الإسلام السياسي إلى سدّة الحكم هو أسهل الطرق في ظلّ التحوّل الديمقراطي، لأنَّهم الأكثر فاعلية وتنظيماً في تحشيد الأتباع في مواسم الانتخابات، لكنّهم عجزوا عن تحقيق تغيير على المستوى السياسي والاقتصادي الذي يمنحهم شرعية المنجَز، والتي توثق علاقتهم بالجمهور.
قوى الإسلام السياسي لا تتحمل خطيئة الفشل لوحدها، وإنما البيئة السياسية التي نشأت وعملت فيها في أيام المعارضة لم تساهم في إنضاج تجربتها السياسية، إذ أن هناك علاقة سببية وثيقة ما بين طبيعة وبنية النظام السياسي القائم ودور قوى المعارضة السياسية وسلوكها، ومن ثمَّ تكون المعارضة امتداداً طبيعياً للثقافة والسلوك السياسي السائد في بلد معين.
ولذلك فالمعارضة هي الوجه الآخر للنظم السياسية القائمة، حيث تتعلّم أساليبها وتتبنى أطرها وآلياتها وسلوكها العام إذا وصلت للحكم!
والمأزق الذي وقعت فيه حركات المعارضة الإسلامية يكمن في أنها بدأت تخسر مشروعَها السياسي الذي تسعى فيه إلى أسلمة الدولة والحكم، وبدأت تدخل في مساومات وتنازلات من أجل البقاء في السلطة. وخسرت فاعليتها الاجتماعية القائمة على أساس معارضتها للدكتاتورية ومطالبتها بحقوق الطبقات المسحوقة، بعد أن أمست ممارساتها في إدارة الدولة تتجه نحو الاستئثار بالسلطة والهيمنة عليها. وكما يقول كنعان مكيّة في كتابه جمهورية الخوف: (إن ضحايا القسوة والظلم ليسوا أفضل من معذبيهم، بل أن وضعهم في العادة ليس أكثر من مجرد انتظار لتبادل الأدوار معهم.)
حتّى عنوان ورمزية المقاومة التي كانت ترفعها الحركات الإسلامية، باتت تواجه سؤالاً إشكالياً، بأنها مشروع تحرير الأرض؟ أم مشروع للوصول إلى السلطة، والمشاركة في مغانمها؟ ناهيك عن تخلّيها عن شعارها الوطني في تحرير البلاد والعباد من هيمنة دول الاستكبار، إذ باتت رهينة لإرادات إقليمية تعتقد بأن أمنها القومي يرتبط بالنفوذ السياسي والعسكري في الدولة الهشّة.
تجربة الإسلام السياسي في الحكم كانت كاشفة لمنهج الحركات الإسلامية المعاصرة في سعيها للحكم ونزعتها للتفرد به من دون مشروع سياسي قادر على تقديم أنموذج يختلف عن حكم الأنظمة التي كانت تعارضها. كما أثبتت بأن توظيف الإسلام السياسي للدين يتجه للجماهير لتعبئتها وحصد ثمار أصواتها، لا لملاقاة حاجاتها المجتمعية، ويغفل حلمها بالعدل ويمنحها ويغرقها بدلاً من ذلك بإسلام طقوسي، وبشعارات لا يوجَد لها مصداق على أرض الواقع.
نجاحات الإسلام السياسي في استقطاب الجمهور ومن انتماءات طبقية متنوعة، لم تستمر في ممارسة الحكم! لأنَّ الايدولوجيات التي ترفعها الحركات السياسية هي معيار للحكم على مصداقيتها في قدرتها على أن تكون واقعاً وليس شعارات. وإدارة وحكم المجتمع السياسي محكومة بتوازنات سياسية على أرض الواقع، إذ أثبتت التجربة بأنَّ الإسلاميين غير قادرين على إدارتها لأنَّهم يؤمنون بأنهم يملكون تفويضاً نضالياً ومهمة رسالية تتعالى على مصدر الشرعية التي يمحنها المجتمع. لذلك حين تخسر قوى الإسلام السياسي المبادرة والقدرة على فرض الواقع الذي تريده، فإنّها تخسر أيضاً مبررات وجودها ومشروعيتها.
كلّ الأدبيات التي منحت الحركات السياسية الإسلامية قوّةً استثنائية في تحشيد الجماهير في معارضة الأنظمة الدكتاتورية، والتي تحوَّلت إلى شعارات وخطابات سياسية تسعى لتعبئة الأتباع نحو المشاركة السياسية للوصول إلى الحكم، هي ذاتها نقطة ضعفها الكبرى. فمثل هذا الشعارات قادرة على أن توعد الجماهير بالفردوس وتحقيق العدالة التي يحلم بها المهمَّشون والطبقات المسحوقة، لكن التجربة أثبتت عجز الإسلامويين عن تحويلها إلى واقع قائم ومستمر على الأرض.