محمد المحمود:
تكاد تكون مسألة "الحريات الدينية" أحد أهم عناصر الحريات العالمية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، والذي ينص في المادة 18 على أن "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة". فمنها ـ في رأي كثيرين ـ تتفرع سائر الحريات، وعليها تتأس كثير من الحقوق؛ بشكل مباشر أو غير مباشر؛ مقصود أو غير مقصود.
لكن، ورغم هذا النص الصريح، بل ورغم تسطير هذا النص أو ما في معناه في دساتير كثير من الدول على نحو مؤكد، إلا أنه يصعب حصر المقصود بمصطلح "الحرية الدينية"؛ عند إطلاقه؛ دونما تفصيل مُقَنّن يتحدد في مواد قانونية، يُشَكّل لها "أصل الحرية" مركزَ استقطاب واهتمام. فثمة فروق وتباينات في التنظير، وثمة ما هو أكثر منها عند تحديات التطبيق العملي؛ خاصة إذا ما تعلّق الأمر بالحريات الدينية التي تتجاوز "حرية الضمير"(مجرد حرية الاعتقاد)، إلى الممارسات الدينية المُتعدّية، أو إقامة الشعائر المجتمعية، فضلا عن الدعوة والتحشيد والتبشير بالمعتقد الخاص، أو كل ذلك ضد المعتقد العام.
على أي حال، سنحصر كلامنا هنا عن حرية الاعتقاد، وحرية الالتزام أو عدم الالتزام بمقتضى هذا الاعتقاد: الاعتقاد المعلن صراحة، أو الاعتقاد المعلن ضمنا، أي المتحقق بمجرد الانتماء الهوياتي العام لجماعة دينية ما. وسيكون كلامنا أكثر تحديدا عن هذا في دائرة الإسلام نصوصا بالدرجة الأولى، وتنظيرا كلاميا/ فقهيا وممارسة في التاريخ.
لا بد من التذكير بأن الحرية الدينية المتعلقة بحرية الدخول في الإسلام (أي عدم الإكراه على اعتناق الإسلام ابتداء) هي محل اتفاق الفقهاء قديما وحديثا؛ من حيث كون الإيمان بالدرجة الأولى: قناعة. هذا من حيث المبدأ، ولكن أكثر الفقهاء التقليديين ينصّون على أن هذا مخصوص بـ"أهل الكتاب": اليهود والمسيحيين، وأدخل بعض الفقهاء مَن له شُبْهة كتاب: المجوس. أما غير هؤلاء من بقية الأديان أو حتى غير المتدينين، فلا خيار لهم/ لا حرية دينية: إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يُقتلوا. هكذا يقول الفقهاء التقليديون من كل مذاهب الإسلام تقريبا، وليس شرطا أن يكون هو ما تنطق به نصوص الإسلام الأولى، بل ـ حتما ـ ليس هو ما تنطق به نصوص الإسلام الأولى.
إذن، الحرية الأولى: حرية الدخول ابتداء في الإسلام، هي حرية منقوصة/ منتهكة من قبل الفقهاء. وهذا الانتهاك يقع من جهتين أساسيتين: الأولى، كونها حرية غير متاحة لكل إنسان، بل لليهودي والمسيحي والمجوسي حصرا. والثانية، أنها حرية منتهكة بكثير من التشريعات التي ابتدعها الفقهاء للتمييز التراتبي بين المسلم وغير المسلم؛ ما يعني أن يصبح خيار البقاء على الدين الأصلي/ غير الإسلام مكلفا؛ ماديا ومعنويا؛ فيكون ثمة إكراه ناعم/ غير مباشر للدخول في الإسلام.
طبعا، هذا ما تقوله نصوص الفقهاء التقليديين الذين لم يكونوا ـ دائما ـ على وفاق مع السلطة، والسلطة من جهتها كانت حذرة ـ لظروف المصالح البراغماتية ـ؛ فلم تتهور بأن ترتهن قراراتها لهم في مثل هذا التدبير المجتمعي الحساس. ومن هنا، نفهم كيف أن المسلمين على مستوى الممارسة التاريخية كانوا ـ نسبيا ـ متسامحين مع غير المسلمين، وخاصة مع غير أهل الكتاب الذين هم ـ وفق نصوص هؤلاء الفقهاء التقليديين ـ بين خيارين؛ لا ثالث لهما: إما الإسلام وإما الموت، إذ كان من المستحيل مثلا تنفيذ هذا المُتَقرّر فقهيا (مثلا كان مستحيلا تنفيذ عملية إبادة/ القتل الجماعي لكل سكان الهند الذين رفضوا الدخول في الإسلام؛ بينما هم ليسوا من أهل الكتاب، أي ليس لهم خيار الجزية؛ حسب رأي الفقهاء).
كذلك، وعلى امتداد التاريخ الإسلامي الطويل، وصل كثير من غير المسلمين إلى مناصب عليا، وحافظت جماعات دينية غير إسلامية على تماسكها وعلى نفوذها الاقتصادي والثقافي؛ رغم أن تنظيرات الفقهاء كانت تقترح لجم هذا النفوذ، بل وتقترح تشريع قوانين عنصرية لممارسة مستويات غير إنسانية من الامتهان والإذلال.
هذا فيما يخص حرية عدم الدخول في الإسلام ابتداء. أما ما يخص حرية الخروج من الإسلام، فالفقهاء التقليديون، بل وكثير من مدعي الاستنارة خداعا من فقهاء العصر الحديث، يُؤكّدون ـ فيما يشبه الإجماع! ـ على أن من يثبت خروجه من الإسلام؛ فحكمه أن يُسْتَتاب، فإن رجع عن رِدّته وعاد إلى الإسلام، وإلا قُتِل. أي أن المرتد (ويقصدون به المسلم الذي يعلن خروجه من الإسلام، حتى وإن كان مسلما من الأساس، بينما لفظ "الردة" يعني العودة إلى دين سابق للإسلام الذي خرج منه) حكمه القتل؛ لمجرد خروجه من الإسلام (أي لمجرد ممارسته حرية الاعتقاد)، وليس لأعمال لاحقة تترتب على خروجه؛ من هجوم على الإسلام، أو خيانة لجماعة المسلمين حال كونهم تكوينا مجتمعيا/ سياسيا يُشَكّل الإسلام بالنسبة لها دائرة انتماء عملي، يتجاوز الخروج عليه مجرد تغيير وجهة الاعتقاد المحض.
يقول الفقهاء التقليديون في القديم والحديث: الإسلام لا يُكْره أحدا على اعتناقه، ولكن إن اعتنقه أحدٌ فلا يجوز له الخروج منه؛ وإلا فإن القتل هو مصيره كحكم شرعي (ينسبون حكمهم الاجتهادي للإسلام/ للشرع !). وهذه هي حدود الحرية الدينية في تصورهم؛ مع أنها محصورة ـ كما سبقت الإشارة ـ بأهل الكتاب ولا تشمل كل الناس.
هكذا يقول المتحدثون باسم الإسلام: الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، إلا ما ندر، وكان خارج السياق. لكن، ماذا تقول نصوص الإسلام الأولى، خاصة النصوص الواردة في النص المقدس الذي هو محل إجماع المسلمين على مستوى الثبوت القطعي. أي ماذا يقول القرآن، كتاب المسلمين المقدس الذي يجمعهم؛ فيما تُفَرّقهم المرويات النقلية الأخرى؟
الغريب أن نصوص القرآن مُتَكَاِثفة ومُتَعاضِدة على تقرير حرية الاعتقاد، دون تحديد لهذه الحرية بـ"أهل كتاب"، أو بـ"الدخول ابتداء في الإسلام". النصوص عامة (بدلالة شمولية العلة المنوط بها تقرير الحرية)، تشمل أهل الكتاب وغيرهم، وتشمل الدخول في الإسلام والخروج منه. فمن أشهر الآيات في ذلك: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وهنا، لا تحديد بأهل كتاب، ولا حصر لإخراج المرتد من "عدم الإكراه"؛ بدليل أن تكملة الآية المتضمِّنة لِعِلّة عدم الإكراه: {قد تَبَيّن الرشدُ من الغَيّ}، تجعل الأمر مطلقا، أي أن "بيان حال الرشد من حال الغي"، هو ما يمنع الإكراه، وهذا متضح في حال المرتد الذي عرف الإسلام/ عرف الرشد (بحكم كونه مسلما سابقا) أكثر من اتضاحه في حال غير المسلم الذي لم يدخل بعد، وأكثر من حال أهل الكتاب. أي أن المرتد عرف الإسلام/ عرف الرشد من داخله، فتبيّن له الرشد من الغي أكثر من اليهودي والمسيحي، وأكثر من غير المسلم؛ فحقّه أن يكون أكثر منهما نصيبا في "عدم الإكراه".
أيضا، القرآن يخاطب النبي ذاته بـ{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 272). كما يُخاطبه بـ{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (يونس:99)، وآخر الآية/ الاستفهام الاستنكاري صريح في نفي الإكراه، والجملة الأولى تشير إلى أن المشيئة الإلهية هي علة عدم الإكراه، وهي مشيئة باقية فيبقى معلولها، وهي أيضا علة تشمل المرتد، فلو شاء الله لهداه، وليس على النبي هدايته، وبالتالي، لا يُكْره ليكون مؤمنا.
أيضا، وأكثر من كل ما سبق، يأمر القرآنُ النبيَ بطرح حرية الاعتقاد على هيئة إعلان صريح لجميع الناس ـ وكأنه نص دستوري ـ بقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29). هنا، القرآن يُقرِّر أن الحق هو الإسلام، ولكن، مع هذا التقرير الجازم، فليس ثمة إكراه: مَنْ شاء أن يؤمن بهذا الحق فليؤمن به، ومن شاء أن يكفر به فليكفر. هذا نص صريح، يضع الإنسان أمام ضميره الديني لوحده. ويُعَزّز هذا التأكيد على الحرية ما جاء في النص القرآني على لسان النبي نوح: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود: 28)، لاحظ آخر الآية التي تُصرّح بعد إلزام الناس بعقيدة يكرهونها حتى ولو كانت هي ـ وفق الرؤية القرآنية التي تستنكر الإكراه صراحة هنا ـ وحدها العقيدة المطلقة المتضمنة للرحمة الإلهية/ الخلاص الأخروي.
طبعا، النصوص القرآنية التي تشير إلى هذه الحريّة كثيرة، ومنها على سبيل المثال والاختصار؛ لا الحصر: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45)، و{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107)، و{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأكَبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } (الغاشية: من 21ـ26 )، و{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 23).
لو تأملت هنا؛ لاتضح لك أن هذه الآيات إذ تُقَرّر "حرية الاعتقاد"، تُؤكّد ـ في الوقت نفسه ـ على أن الإسلام (الإسلام بمفهومه الشامل للعقيدة التوحيدية، ففي هذا المفهوم يوجد قبل الإسلام مسلمون)، هو الدين الحق الواجب اتباعه، وأن من يرفض الدخول فيه ـ عنادا؛ بعد معرفته بكونه الحق ـ فهو مُسْتحِق للعقاب. نعم، يُقرّر القرآن أن ثمة عقابا مستحقا على من رفض اعتناق الإسلام؛ ولكنه يُقرّر ـ في الوقت نفسه ـ أن هذا العقاب عقاب أخروي: مصير غيبي، ولا يذكر القرآن ـ إذ يؤكد هذا العقاب الأخروي بشكل متكرر ـ أي عقاب دنيوي لغير المسلمين في هذه الحياة.
إنه لأمر مُلْفت أن تُشَدّد الآيات التي تتحدث عن حرية الاعتقاد على العقاب الأخروي، دون أن تشير ـ أدنى إشارة ـ إلى أي عقاب دنيوي شهير (وهو العقاب الذي تضخّم فقهيا حتى وصل إلى "القتل"). لاحظ آيات سورة الغاشية، التي تحصر (بأداة الحصر "إنما") مهمّة النبي بالإنذار/ تبليغ الرسالة، دون أي تفويض سلطوي للإكراه، وبعدها مباشرة تنص على أن من "تولى وكفر"، فسوف يُعاقب عقابا شديدا، ولكن الذي سيُوقِع العقابَ هو الله حصرا "فيعذبه الله العذاب الأكبر"، ثم تؤكد الآيات اللاحقة هذا المعنى بالنص على أن الحساب على الكفر سيكون في عالم غير هذا العالم "إلينا إيابهم"، وأنه حساب خاص بالذات الإلهية "ثم إن علينا حسابهم".
أيضا، لاحظ آية سورة الكهف: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، التي هي من أشد الآيات صراحة في تقرير حرية الاعتقاد، حيث نجد أن تكملة الآية فيه توصيف لنوعية عقاب غير المؤمن: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}، فهو عقاب في الآخرة، لا في الدينا. وكذلك الأمر في آية سورة البقرة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، نجد أن آخر الآية الثانية التي يُذكر فيها العقاب/ عقاب غير المؤمنين، لا تذكر إلا عقابا أخرويّا فقط {أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
هكذا، هي النصوص القرآنية الصريحة، إنها تؤكد الإسلام كحقيقة مطلقة؛ دون أن تذكر أي عقاب دنيوي لمنكر هذه الحقيقة المطلقة، بل كل عقاب يتكرّر هو عقاب أخروي؛ لا يحق لأي بشر ـ حتى الأنبياء ـ أن يأخذ دورا في تنفيذه. فهل يُعْقل أن يُكرّر القرآنُ هذا التأكيدَ على حرية الاعتقاد، ويذكر معه ـ في الغالب ـ عقابا أخرويا كبيرا/ أليما؛ دون أن يذكر أي عقاب دنيوي؟ كيف لا يُشِير القرآن أية إشارة إلى حكم من أقسى الأحكام/ "الحكم الفقهي" بالقتل، القتل الذي ينتظر ـ وفق رأي الفقهاء ـ كل من يرفض الإسلام من غير أهل الكتاب، وينتظر أيضا كل من يرتد عن الإسلام من المسلمين؟
طبعا، الفقهاء التقليديون يُحاولون "تخصيص المطلق" في هذه الآيات الكثيرة، وذلك بتقريرهم أنها لا تشمل المرتد، ولا غير أهل الكتاب؛ مع أن كل سياقاتها تُفِيد العموم، ولا دليل على التخصيص إلا من أحاديث/ مرويات أثرية، هي في النهاية "ظنية الثبوت"؛ مقابل نصوص قرآنية متكاثرة، تحظى بتميز يتجاوز كثرتها إلى كونها "قطعية الثبوت".
بل إن الثابت قرآنيا أن عقاب المرتد هو عقاب أخروي، كما هو الحال مع رافضي الدخول في الإسلام. هذا ثابت بأدلة خاصة بالمرتد. تقول الآية (النساء 137): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}. هنا تلاحظ أن المذكورين ليسوا فقط مرتدين، بل هم مرتدون لأكثر من مرّة، حيث تكرر منهم الإيمان والكفر، ثم ـ في النهاية ـ "ازدادوا كفرا"(والزيادة هنا تتجاوز مجرد الخروج من الدين إلى إمعان في تقرير الكفر)، ومع هذا، فالعقاب المذكور في الآية اللاحقة هو عقاب أخروي فقط {ِبَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. وكذلك تتحدث آية أخرى عن الارتداد صراحة؛ فتقول: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217). فهنا أيضا، نص على عقاب أخروي شديد؛ دون أن أدنى إشارة إلى العقاب الدنيوي الصارم المتقرر عند فقهاء الإسلام التقليديين على امتداد التاريخ!
أما استدلال بعض الفقهاء على الإكراه بالآية {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (التوبة : 5)، فالآية تتحدث عن صراع له خلفية تاريخية معروفة في المجال الحيوي للتدافع بين الإسلام وأعدائه، بدليل الآية الأخرى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} (البقرة 191)، فهي تتحدث عن تقابل عدوان، لا عن ابتداء عدوان ولا عن إكراه. وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل على مستوى الممارسة التاريخية، حيث لم يُكْرهوا المشركين/ الوثنيين في الأمصار الإسلامية على الإسلام.
إذن، يتضح من خلال نصوص الإسلام القرآنية المتكاثرة (وهي التي لها حكم الثبوت القطعي في نظر المسلمين) أن حرية اعتقاد مكفولة للجميع، وأن الإسلام ـ في هذه النصوص القطعية ـ لا ينص على إكراه أحد على الدخول فيه، وأنه ـ أيضا ـ لا ينص على أي عقاب دنيوي على الخارج منه/ المرتد. وإذا كان الأمر كذلك في أكبر المسائل وأخطرها وأعمقها أثرا، أي في مسائل الاعتقاد، فلا شك أن هذا هو الحال في مسائل الشرائع التعبدية التي ليس لها أثر مُتعَدٍّ على الآخرين، فلا إكراه على مثل هذه العبادات، إذ هي تخضع للخيارات الفردية، لدوافع الضمير الخاص؛ وليس للإكراه الديني الذي يتحوّل إلى إكراه مجتمعي.