الدين والسياسة في الشرق الأوسط - مقالات
أحدث المقالات

الدين والسياسة في الشرق الأوسط

الدين والسياسة في الشرق الأوسط

محمد المحمود:

 

خرجت الأديان الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية ـ المسيحية ـ الإسلام)، التي يدين بها اليوم نصف سكان هذا الكوكب تقريبا، من هذه المنطقة/ الشرق الأوسط تحديدا

والأديان الإبراهيمية ذات طابع خاص، لا في علاقتها بالـ"ماوراء" فحسب، وإنما ـ أيضا، وبدرجة أكثر إلحاحا ـ في علاقتها/ ربطها المسار الماورائي الغيبي بالمسار الحياتي المشهود؛ على افتراض تَمَرْحُلِ الوجود الإنساني (المشهود وغير المشهود) في خارطة طريق تُؤسّس بداياتها لنهاياتها، وَهُمَا (= البداية والنهاية/ المبدأ والمعاد) يُؤسّسِان للمعنى الأسمى والغائي الذي يُرَاد لهذه الحياة الإنسانية أن تسير على هداه، وأن تحققه في الواقع؛ بوصفهما ـ السير والتحقّق ـ: الصراط المستقيم.

الأهم من كل ذلك ـ وبصرف النظر عن الأطروحات اللاهوتية الخاصة ـ أن هذه الأديان كانت مسبوقة بحراك ديني مُتَواشِجٍ مع كل تفاصيل الحياة في هذه المنطقة الخِصْبة دِينيا. فمن حضارات العراق القديم إلى حضارة مصر الفرعونية، إلى حضارات شرق المتوسط، نجد الدين يحتل مركزا أساسيا فيها، لا كجزء أصيل يتمتع بالاستقلال النسبي عن مجريات الحدث الواقعي، بل كفاعل عضوي تتفاعل مكوناته مع مجريات الأحداث على نحو يستحيل فيه الفصل ما هو ديني وما ليس بديني، إن لم تكن استحالة دائمة؛ فهي استحالة مُتحقّقة في معظم الأحيان

حتى عرب ما قبل الإسلام الذين عاشوا في صحرائهم/ جزيرتهم قبائلَ متناثرة تفتقد للحدود الدنيا من الوحدة السياسية (باستثناء الجنوب الغربي، وتمدده الظرفي/ الاستثنائي، والمستعمرات الفارسية والبيزنطية على تخوم الصحراء العربية)، كانت شبكة العلاقات/ الولاءات التي تنتظم حياتهم مُؤَسَّسةً على شبكة تقاليد/ أعراف متناغمة إلى حد كبير، ينتظم فيها السياسي والاقتصادي بالديني. وما احتلال مكّة مركزا دينيا، هو ـ في الوقت نفسه ـ مركز اقتصادي (وسيصبح لاحقا: سياسيا = المشروعية القرشية للحكم، المؤسسة على مقولة: "إن العرب لا تَدِين إلا لهذا الحيّ من قريش") إلا دليلا على أن نظام الوعي لم يكن يتصوّر إمكانية الحدث السياسي بمعزل عن التصور الديني، والعكس ليس بعيدا؛ حتى وإن كان مضمرا، أو مسكوتنا عنه، في أغلب الأحوال.   

مع الإسلام، لم يكن الدين إلا سياسة، ولم تكن السياسية إلا دينا. وعندما أقول: "مع الإسلام"، فلا أقصد نصوصه المقدسة ولا وقائعه الأولى /المُؤسّسة، وإنما أقصد بالإسلام هنا: صيرورة التاريخ الإسلامي في تفاعل المقدس المتعالي مع الواقعي، سواء على يد رجاله الأوائل من ذوي القداسة، الذي كانوا يؤكدون على هذا الارتباط عن قناعة يفرضها تأويل ديني يمتلك حدا مقبولا من الاتساق النظري، أو على يد أولئك المتوسلين به من غير قناعة؛ بغية تحقيق الغاية السياسية من أقصر وأوثق طريق، أي عن طريق ربط الحياتي الآني بالمقدس المتعالي.  

في كلا الحالين: حال الصدق الذاتي/ القناعة التأويلية بحتمية ارتباط الديني بالسياسي، أو حال التوسّل الماكر المُسْتغِل لواقع شيوع هذا الارتباط في مجمل التصورات الذهنية العامة، كانت الوقائع تجري مُتَمَفْصِلَة على هذا الارتباط. وبقدر ما تتابعت الوقائع على هذا المنوال؛ بقدر ما تأكّد الارتباط لا كشرط واقعي فحسب، وإنما أيضا كقناعة تأويلية في فضاء الفكر، يرفع من درجة يقينيتها هذا التتابع الوقائعي المشهود.

لهذا، كان التأكيد النظري في السرديات اللاهوتية التي تسيّدت المشهد في الشرق الأوسط (السرديات الإسلامية هنا)، على "سياسة الدنيا بالدين"، و"حماية الدين بالسياسة"، يجري على طريق لاحِبٍ؛ دون أن يتعرّض لما يَشْغُب عليه أو يُشكّك في يقينياته. وما أكّده ابنُ خلدون قبل أكثر من ستة قرون من دور الدين في تاريخ السياسة العربية، هو ذاته ما أكّده مستشرق كبير من أواخر المستشرقين المعنيين بالشرق الأوسط/ برنارد لويس (توفي في مايو 2018)؛ عندما أشار إلى حقيقة صلبة في تاريخ الإسلام، وهي أن جميع الثورات منذ عهود الإسلام الأولى كانت تأخذ طابعا دينيا صريحا. وبلا شك، هذه حقيقة تاريخية. لكنها لا تخص الثورات، بل تعم الجميع، حتى الأنظمة الحاكمة التي كانت تستهدفها هذه الثورات أقامت مشروعيتها على الدين، فالثائر، والمستهدف بالثورة، كلاهما فاعل سياسي، يتوسّل الديني؛ من حيث هو مصدر الشرعية القادرة على الاستقطاب الجماهيري الذي سيحسم المعركة السياسية في نهاية المطاف؛ كما كانت تتوقع أطراف الصراع.   

حتى في تاريخ العرب الحديث، كان النضال ضد الاستعمار في بدايته إبان القرن التاسع عشر دينيا صريحا. ولم يظهر الاتجاه الوطني في هذا النضال كبديل للنضال الديني إلا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وعندما كانت هناك أحزاب علمانية ترسّخت جذورها في ظل الهيمنة الاستعمارية. لكن، سرعان ما عاد الدين ليأخذ دوره البارز في النضال، بل وليتجاوز إطارَ الحماس النضالي المسلح، وصولا إلى فضاء المعترك المدني/ الحضاري، حيث بدأت التيارات الدينية تطرح "الخيار الذاتي"، الذي هو خيار ديني؛ كبديل للخيار الحضاري العصري المتمثل ـ صراحة أو ضممنا ـ بالتغريب

المَدّ العلماني إبان صعود الأحزاب ذات التوجّه القومي كان مَدّا عارضا/ طارئا في تاريخ المنطقة. بل حتى هذه الأحزاب، لم يستطع أكثرها تجاوز هذا الارتباط بين السياسي والديني. وما تأكيد مُؤسِّس حزب البعث/ ميشيل عفلق على التلازم بين القومي والديني (الإسلام تحديدا في الحالة العربية) إلا دليلا على قدرة هذا الارتباط المتجذّر في الواقع، والمُتَشَرعن بامتداد تاريخي طويل، على فرض نفسه كحقيقة يصعب تجاهلها، خاصة في مشروع أممي يُريد التواصلَ مع التاريخ، بل ويبحث عن مشروعيته في هذا التاريخ؛ على اعتبار التاريخ ـ في هذه الحال ـ هو المُبرّر/ المُشرعِن للاتحاد الجغرافي.

القومية الناصرية في مصر، والقومية البعثية في العراق وفي سوريا، وهذه هي مراكز الثقل في الشرق الأوسط، كانت علمانيتها علمانية شعارات، أكثر مما هي علمانية مشروع سياسي مكتمل الأركان. فكل هؤلاء ـ رغم "علمانيتهم" ـ كانوا ينطوون على رؤية دينية مُحَايثة، تحكم ـ بدرجة ما ـ رؤيتهم للمسار الذاتي/ تفاعلات الداخل، وللمسار الخارجي/ العلاقة بالآخر. فالإسلام ـ في هذا السياق العلماني المُتديّن! ـ هو دين العرب؛ كما أن العرب هم ممثلو الإسلام!

لم يستطع حتى أشد هؤلاء تَعَلْمُنا أن يتجاهل هذه الحقيقة الواقعية. وفي بعض المسارات التي حاول فيها بعضهم تجاهلها؛ انقلب السحر على الساحر، وكان التجاهل مصدر لإشكالات متأزمة؛ بدل أن يكون حلا لها. ونحن هنا لا نتكلم على المُفْتَرضات النظرية لما هو أصوب وأمْثل، بل عن الحقائق الراسخة التي تفرض نفسها على الواقع. ولهذا، لم يستطع حزب العبث الحاكم في سوريا أن يتجاوز ـ بعلمانيّته المعلنة ـ حقيقة دينية تحكم مساره (إيجابا أو سلبا)، وهو أنه نظام علوي أقلوي، يحكم أكثرية سنيّة؛ على الرغم من استمالته لطبقة سنيّة واسعة، كانت تحاول أن تمدّد مشروعيته الوطنية على أرض الواقع، بل وكانت ذراعه الباطشة في بعض الأحيان. كما لم يستطع حزب البعث الحاكم في العراق أن يتجاوز ـ بعلمانيته المعلنة أيضا ـ حقيقة أن الحكم السني لبلد يُشكّل فيه الشيعة أغلبية واضحة، أغلبية تستطيع قلب المعادلة السياسية في أي عمل سياسي ديمقراطي

من هنا، لم يكن الاستقرار (النسبي، المتهالك، المتهافت) الذي ظهر تحت سلطة قهر الاستبداد السياسي في العراق وسوريا استقرارا حقيقيا، بل كان مَرَاجِل سياسية/ دينية تغلي تحت السطح، وبمجرد أن ارتخت يدُ الاستبداد القامعة؛ ظهر الواقع السياسي الحقيقي، أي واقع كون معادلات الديني كحراك اجتماعي تفرض نفسها؛ مهما اعتقد متجاهلوها أنهم ـ بتجاهلها ـ يُمْكن أن يحدّوا من درجة فاعليتها على المدى البعيد.

وإذا كان هذا هو واقع الحال في الجزء المُهِمّ لنا من هذا الشرق الأوسط: المشرق العربي، فإن ما حدث في إيران وتركيا، بوصفها أجزاء فاعلة من هذا الشرق وفي هذا الشرق؛ يؤكد على أن التفاعل بين الدين والسياسة في هذه المنطقة هو الحقيقة الواقعية التي تحقّقت عمليا؛ ولا تزال تتحقق؛ حتى وإن لم يكن هذا التفاعل هو الصواب لما يجب أن يتحقق. فعلى الرغم من علمانية النظام البهلوي الذي سبق ثورة 1979، وعلى الرغم من اشتراك عناصر علمانية في الثورة، فرضت معادلاتُ التديّن المجتمعي (المُؤسِّسَة لتديّن سياسي بطبيعتها) نفسها على الواقع. وعلى الرغم من طول عُمُر المسيرة التركية الكمالية ذات الوجه العلماني الصارخ، فإن الدين ـ بحكم كونه قوة اجتماعية نافذة ـ لم يستطع أن يبقى بعيدا عن السياسية لأمد طويل، بل عاد ليكون أحد الأوجه السياسية المعلنة، إن لم يكن أهمها، وأكثرها حسما في سياق التغالب السياسي.

طبعا، هناك من يحاول الاعتراض على هذا الواقع الذي يعكسه هذا التوصيف، وذلك بالتأكيد على أن هذا التعالق بين الدين والسياسة في الشرق الأوسط إنما هو نتيجة توظيف مُتَعمّد للدين في السياسة، أدى إلى استقطاب حاد للديني في الفضاء السياسي. وفي اعتقادي، هذا لا ينفي حقيقة الارتباط في الواقع، بل يُؤكّده، إذ لولا وجود هذا الارتباط مسبقا، ولولا درجة فاعليته العالية؛ لما أمكن توظيفه سياسيا. فالتوظيف السياسي للحالة هو مرحلة لاحقة على وجودها ورسوخها في الواقع.

إن أي متأمل لهذه التأزمّات المُزْمِنة، التي تأخذ بخناق الشرق الأوسط ـ في معظم أقطاره ـ، يرى ـ بوضوح ـ أن الإشكالية الدينية (من حيث هي تمتلك تصوّرات دينية خاصة يجري تفعليها في الواقع) حاضرة ـ وبقوة ـ في المشهد، على سطح الأحداث مباشرة، أو كتحالفات في مطابخ السياسة الخلفية، أو حتى كبطانة تنتظم اللاّشعور السياسي لكثير من الفاعلين في المشهد. فالعراق اليوم لم نكن لنراه على هذه الحال لو لم يكن الدين حاضرا كفاعل في مسار الأحداث (ليس فقط في مرحلة ما بعد صدام، حيث أعلنت الفعالية الدينية عن نفسها، بل حتى في المرحلة الصدامية وما قبلها)، وسوريا وتحوّلها إلى معترك ديني ـ سياسي، ليست إلا صورة أكبر وأوضح وأقسى لما هو عليه واقع الحال في لبنان. وفي مصر، لم تحسم العلاقة، لا قطيعة ولا وصلا، منذ تجاذبات النخبة العلمانية مع تيارات الإسلام السياسي ذي الجماهيرية الواسعة، وتوقّف الدولة/ النظام على خط الموازنة بينهما، تلك الموازنة التي لا تنفي العلاقة صراحة، ولا تؤكدها ـ عمليا ـ على نحو صريح؛ إلا في ظروف آنية ومباشرة وطارئة، تترك الباب مواربا؛ لا لشيء إلا لأنها علاقة تَفْرض نفسها على الواقع بقوة مفاعيلها، والفاعل السياسي لا يمكنه أن يتجاهل الواقع بحال

إذن، لا يمكن حَلّ، ولا حَلْحَلَة كثير من إشكاليات الواقع السياسي في بُؤَر التأزم في الشرق الأوسط؛ دون مساءلة الخطاب الديني، لا في مستوى حدود هذه العلاقة (العلاقة بين الديني والسياسي) فحسب، وإنما ـ أيضا، وبصورة أساسية ـ في النسق العام للتصوّر الديني الذي تأتي هذه العلاقة الشائكة كفرع إجرائي على أصله الاعتقادي. وطبعا، لا يعني هذا أن الحل سيكون في اتجاه واحد، أي من جِهة الديني وصولا إلى السياسي، وإنما بالعكس أيضا. ولكن البداية لا بد أن تكون من هناك، من مسار الخطاب الديني الذي يمتلك ذاكرة دينية/ تاريخية يستحيل القفز عليها في حال الاشتباك مع الواقع، بل لا بد تفكيكها وإعادة تركيبها على ضوء خارطة طريق نقدية جذرية، تُسَائِل الواقع؛ إذ تُسَائِل التاريخ، وتُعِيد ترشيدَ الواقع السياسي؛ إذ تُعِيد ترشيد الخطاب الديني.

الحرة

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث