في بغداد، تقلص عدد المسيحيين من 750 ألفا في 2003، بنسبة 90 في المئة. أسفرت موجات الهجرة المتعاقبة في تقلص عدد المسيحيين في العراق، بينما يحلم الباقون منهم في البلاد بالمغادرة. فقد غادر بعضهم خلال الاجتياح الأميركي للعراق، وآخرون خلال الحروب الطائفية التي احتل خلالها جهاديون قراهم، وغيرهم بسبب الأزمة المعيشية الحالية.
وتعيش عائلات مسيحية عراقية كثيرة التقتها وكالة فرانس برس في كردستان العراق، أو في الأردن أو أستراليا أو غيرها من الدول، حنينا إلى وطن ترفض في الوقت ذاته فكرة العودة إليه.
ويعلق كل هؤلاء في الداخل والخارج آمالا بأن يحمل لهم البابا فرنسيس الذي يزور العراق مطلع مارس، كلمات معزية ومطمئنة، ولو أنهم لا يتعلقون بالأوهام، في ضوء الأزمات الأمنية والاقتصادية المتلاحقة والتوترات السياسية التي تعيشها البلاد.
ويقول سعد هرمز (52 عاما) الذي كان يعمل سابقا سائق تاكسي في الموصل، ويعيش اليوم في الأردن: "آمل أن يطلب البابا خلال زيارته للعراق من الدول التي تستقبل لاجئين مسيحيين مساعدتنا (...) لأن العودة إلى العراق الآن غير واردة".
ورغم غياب إحصاءات دقيقة عن عدد المسيحيين في العراق بسبب عدم إجراء تعداد سكاني منذ سنوات، يقول وليم وردة، رئيس منظمة حمورابي التي تتولى الدفاع عن الأقليات في العراق، إن هناك حاليا 300 إلى 400 ألف مسيحي في العراق مقابل مليون ونصف المليون قبل الغزو الأميركي عام 2003 الذي انتهى بالإطاحة بنظام صدام حسين.
ويأتي ذلك بعدما غادر ما يقرب عن نصف مليون منهم إلى الولايات المتحدة، وتوجه آخرون إلى دول إسكندينافية وأستراليا.
ما بعد تنظيم داعش
عاش سعد هرمز من جهته تلك الأيام بتفاصيلها، وكان شاهدا على وصول الشاحنات التي رفعت رايات تنظيم الدولة الإسلامية السوداء الى بلدته.
ففي السادس من أغسطس 2014، دخل متشددون إلى برطلة، البلدة المتعددة الأعراق الواقعة على أطراف مدينة الموصل.
ويقول لوكالة فرانس برس: "في البداية، هربنا إلى القوش"، وهي بلدة ذات غالبية مسيحية تقع إلى الشمال "ثم إلى أربيل"، عاصمة إقليم كردستان.
هناك، عاش في كنيسة مع زوجته أفنان (48 عاما) وأولاده الأربعة وأكبرهم فادي (19 عاما) وأصغرهم ناتالي في السابعة من العمر، ثم استأجر شقة مقابل 150 دولارا شهريا على مدى ثلاث سنوات، الأمر الذي كلفه الجزء الأكبر مما كان يملك.
وتأملت العائلة خيرا بالعودة إلى حياتها السابقة عندما أعلنت القوات العراقية في أكتوبر 2017، تحرير برطلة من قبضة المتشددين.
لكن عائلة هرمز اكتشفت بأن الأوضاع تغيرت تماما. فمنزلها احترق بعدما سُرقت محتوياته، ولم يعد إصلاح ما تضرر مجديا، لأن المنطقة أصبحت تحت سيطرة قوات الحشد الشعبي، وهي مجموعات عسكرية تهيمن عليها فصائل شيعية موالية لإيران.
ويستذكر هرمز، قائلا: "عشنا بالخوف من حواجز التفتيش والميليشيات المنتشرة في كل مكان. لذا بعت كل ما أملك حتى سيارتي، وسافرنا إلى الأردن".
وتعيش العائلة منذ فبراير 2018 في شقة من غرفتين في عمان على أمل إعادة توطينها في كندا، حيث يستقر بعض أقاربها.
لكن ملف الهجرة عالق بالنسبة إلى العائلة، بسبب تفشي وباء كوفيد-19 وتدفق اللاجئين من العراق وسوريا إلى دول أوروبية خصوصا وإلى الولايات المتحدة وغيرها.
وبسبب تسجيل هرمز نفسه كلاجئ في الأردن، لا يحق له العمل، وهو يعتمد على التبرعات التي تقدم في كنائس عمان لإطعام أسرته.
الغربة
يقول الأسقف الكلداني سعد سيروب حنا (40 عاما) الذي عينته الكنيسة الكلدانية في السويد منذ 2017، أن الكثير من العراقيين بين أبناء رعيته في السويد لا يريدون العودة إلى العراق.
ووُلد حنا في بغداد، وأرسل إلى السويد للاهتمام بأكبر تجمع كلداني في أوروبا، قوامه نحو 25 ألف شخص، وصلوا إلى البلاد في موجات على مدى العقود الأربعة الماضية.
وعاش فترات عنف كثيرة في العراق فر خلالها كثيرون، وهو يصفها بـ"الفوضى العظيمة". وتعرض للخطف عام 2006 بعدما ترأس قداسا في العاصمة العراقية.
ويقيم أكثر من 140 ألف عراقي في السويد، من بينهم رغيد بنّا، وهو مواطن من الموصل استقر في بلدة سودرتالي عام 2007، وكان في الـ26.
ويقول بنّا، وهو اليوم أب لطفلين، "ثمة الكثير من الكلدان هنا لدرجة أنني لا أشعر حتى أنني في غربة".
الإفلاس
في بغداد، تقلص عدد المسيحيين من 750 ألفا في 2003، بنسبة 90 في المئة.
ويقول الكاهن يونان الفريد، الوكيل العام للروم الأرثوذوكس في العراق، لوكالة فرانس برس إنه مع انخفاض عدد المصلين "أغلقت ما بين 20 إلى 30 في المئة من كنائس العراق".
وبعد ما يقرب من عقدين من إراقة الدماء والتفجيرات، دخل العراق فترة من الهدوء النسبي عقب هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية أواخر 2017. لكن هذا لم يوقف نزف الأقليات.
ويقول الكاهن الذي بقي في العاصمة، فيما هاجر شقيقه إلى كندا وشقيقته إلى الولايات المتحدة: "الناس يستمرون في المغادرة، المسيحيون يحاولون فقط ادّخار ما يكفي من المال، وبعد ذلك بأسرع ما يمكن ، يهاجرون".
وتساهم الظروف الاقتصادية الصعبة اليوم في استمرار هجرة المسيحيين. وازدادت الأزمة بسبب جائحة كوفيد-19، وقد نتجت أصلا عن انهيار أسعار النفط، وهبوط أسعار العملة المحلية مقابل الدولار، وتفشي الفساد في الدولة.
وأدى ذلك إلى تأخير أو خفض رواتب موظفي القطاع العام في العراق، وفي إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي، ويعيش فيه الكثير من المسيحيين.
الخميني في الشوارع
ونشأ هفال إيمانويل في مدينة البصرة في أقصى جنوب العراق، ثم تزوج وعاش في بغداد حتى 2004 عندما انفجرت قنبلة خارج المدرسة التي كان أطفاله يرتادونها.
وكبرت إحدى بناته وهاجرت إلى النرويج مع زوجها، وانتقل أخوه وأخته مع عائلتيهما إلى لبنان.
وتقدم إيمانويل مع زوجته وأطفالهما الثلاثة الآخرين بطلب إعادة توطين في كندا، وهم ينتظرون الجواب.
ويقول في منزله بالقرب من أبرشية الكلدان في إربيل: "نحن نختنق.. لا توجد رعاية اجتماعية ولا خدمات صحية ولا مدارس عامة ولا عمل".
يشعر بالحزن لدى الحديث عن شوارع مدينة البصرة الغنية بالموارد والتي باتت تفتقر اليوم إلى الخدمات العامة.
ويعبر عن انزعاجه من رؤية ملصقات تحمل صور المرشد الإيراني روح الله الخميني في الشوارع: "هذه أماكن عامة وأنا أشعر كمسيحي بأن ليس لي مكان في البلد".
ثم يقول: "إذا أتيحت الهجرة، أنا أضمن أنه بحلول الغد، لن يبقى أي مسيحي. على الأقل في الخارج، سنشعر أخيرا بالاحترام كبشر".
هل هناك ما يمكن للبابا فعله لتغيير ذلك؟
يقول إيمانويل الذي ستغني ابنته في الجوقة المرحبة بالبابا في أربيل: "البابا مثل ملاك ينزل على العراق، لكن كم من الشياطين سيجد هنا؟ رجل سلام يزور مجموعة من أمراء الحرب. كيف يمكنه تغييرهم؟".
وفي كارملش وقراقوش والموصل في شمال العراق، كنائس مدمرة، ونفايات تجتاح الأزقة الضيقة، وآثار الحرب لا تزال ظاهرة بوضوح.. ورغم ذلك، يؤكد رئيس أساقفة الكلدان في أبرشية الموصل وعرقة نجيب ميخائيل أن التحضيرات جارية لزيارة البابا التاريخية، وأن استقباله سيجري في "أجواء من الفرح".
ويقول رئيس أساقفة الموصل، متحدثا من كنيسة كارملش، بأن جدول أعماله أصبح ضاغطا جدا منذ الإعلان عن الزيارة البابوية الأولى للعراق التي ستتم في مارس المقبل.
في كل المدن التي سيزورها البابا، الزعيم الروحي لـ1,3 مليار كاثوليكي في العالم، تقوم جوقات التراتيل وفرق الكشافة بتدريبات منذ أسابيع، وينتظر الجميع لقاء خليفة القديس بطرس والاقتراب منه في كنائسهم.
ويتولى عدد من الكهنة ترجمة صلوات إلى الإيطالية والعربية واللاتينية والسريانية، لأن البابا سيحتفل في العراق بأول قداس له بحسب الطقوس الشرقية.
وشكلت لجان حكومية وأخرى في محافظات مختلفة لمتابعة الاستعدادات اللوجستية ومراسم الزيارة.