حول ارتباط التطرف بالدين (2) - مقالات
أحدث المقالات

حول ارتباط التطرف بالدين (2)

حول ارتباط التطرف بالدين (2)

بابكر فيصل:

 

قلت في الجزء الأول من هذا المقال، إنه لا يجوز توصيف الأشخاص المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بأنهم مجرد أناس "منحرفين ومرضى نفسيين" كما قال وزير الدولة للشؤون الدولة للشؤون الخارجية السعودي، عادل الجبير، بل يجب النظر بصورة أكثر عمقا وحصافة للمدارس الفقهية التي تمثل الحواضن الحقيقية لتفريخ أصحاب الفكر العنيف ومن بينها المدرسة السلفية.

أتناول في هذا الجزء مدرسة أخرى من تلك المدارس، وهي الجماعة التي عرفت في التاريخ الإسلامي بإسم الخوارج، وذلك لخروجها على الخليفة الرابع، علي بن أبي، طالب لقبوله التحكيم في صراعه مع معاوية بن أبي سفيان، وعلى الرغم من إنزواء هذه الجماعة وغياب فرقها المتشددة عن المشهد الإسلامي العريض، إلا أنها كانت أولى الجماعات التي اتبعت نهج التفسير الحرفي للنصوص القرآنية.

إن المقولة المنسوبة للخليفة، علي بن أبي طالب، حول طبيعة النص القرآني: "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتحدث به الرجال"، تحيل إلى حقيقة التفاوت بين الناس في معرفتهم وفهمهم وتفسيرهم لآيات القرآن، وهو الأمر الذي يؤدي لحتمية الإختلاف في تحديد دلالات النصوص وصياغة معانيها.

قد أدى رفض الخوارج لربط تفسير الآيات القرآنية بأسباب النزول، والاكتفاء بالتفسير الحرفي الظاهري للآيات، إلى إرتكابهم أفعالا عنيفة ومتوحشة، فضلا عن مخالفتهم لأبسط قواعد النظر العقلي، فعندما نظروا في الآية (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا)، أصدروا فتوى بقتل جميع أطفال غير المسلمين حتى لا يلدوا كفارا!

 وعندما قرأوا الآية :( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) طفقوا يعذبون خصومهم ويتشفون بقتلهم دون تردد وبضمير مرتاح ومطمئن باعتبار أنهم ينفذون الأوامر الإلهية.

ومن مفارقات تمسك الخوارج بظاهر النصوص ما أورده إبن الجوزي في "تلبيس إبليس" أنهم قالوا: لو أن رجلا أكل من مال يتيم فِلْسَيْن وجبت له النار، لقوله تعالى: (إن الذين يأْكلون أَموال اليتامى ظلما إِنما يأْكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)، ولو قتل اليتيم أو بقر بطنه لم تجب له النار لأن الله لم ينص على ذلك

وأيضا نجد أن الخوارج خرجوا على السيدة عائشة زوجة الرسول الكريم وأم المؤمنين وبرروا موقفهم ذلك بالقول: لِمَ خرجت من بيتها، والله تعالى يقول: (وقرن في بيوتكن)؟

أما مخالفة قراءتهم الحرفية لأبسط قواعد المعقول، فتنعكس في القصة التي رواها إبن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، وجاء فيها أن الصحابي، عبد الله بن خباب، كان يمضي هو وزوجته في طريق به جماعة من الخوارج، فعلق المصحف في عنقه ومضى مطمئنا، فقبضوا عليه قائلين: الذي في عنقك يأمرنا بقتلك، وسألوه ماذ تقول في خلافة أبوبكر؟ فقال خيرا، وماذا تقول في خلافة عمر؟ فقال خيرا، وماذا تقول في خلافة عثمان، فقال خيرا، ثم سألوه: ماذا تقول في علي وفي قبوله التحكيم؟ فقال إن عليا أعلم بكتاب الله منا، فقربوه من النهر بمرأى من زوجته وذبحوه!

إن خطر القراءة الحرفية يتبدى في المفارقة بين القصة أعلاه والحادثة التي رواها المبرد في كتابه "الكامل في اللغة والنحو والتصريف"، وجاء فيها أن كبير المعتزلة، واصل بن عطاء، أقبل في مجموعة معه فلم يشعروا إلا والخوارج من حولهم، فقال واصل لأهل رفقته: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانت جماعته قد أوشكت على العطب فقالوا له: شأنك، فخرج إليهم وحيدا، فقالوا له: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون، ليسمعوا كلام الله، ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم ! قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين، فإنكم اخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فأبلِغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا : ذلك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلّغوهم المأمن!

نحن هنا بإزاء مفارقة عقلية بائنة ناتجة عن القراءة الحرفية للنصوص حيث قام الخوارج بذبح رجل مسلم (صحابي) كان يعلق المصحف على رقبته، بينما اعتبروا المشركين إخوانهم وأجاروهم ثم أ بلغوهم مأمنهم

قد لعبت التوجهات الدينية المرتبطة ببعض المدارس الفقهية دورا كبيرا ومهما للغاية في تشكيل منظومة المبادئ والأفكار التي أدت لبروز وتنامي ظاهرة العنف الأصولي الإسلامي التي توجت بقيام تنظيم داعش.

بالتالي فإنه يستحيل القضاء على التنظيمات العنيفة بواسطة العمليات الأمنية أو العسكرية، لأن أفكارها موجودة وتنتشر بقوة عبر مؤسسات التعليم الحكومي النظامي أو التعليم الديني، أو عبر قنوات التعليم غير النظامي المتمثلة في دور العبادة (المساجد)، وأروقة جماعات التدين السياسي وعبر وسائل الإعلام والقنوات الفضائية وبرامج الفتوى وغيرها.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث