هل توجد حقيقة تاريخية؟ - مقالات
أحدث المقالات

هل توجد حقيقة تاريخية؟

هل توجد حقيقة تاريخية؟

محمد المحمود:

 

سؤال يتردد على سبيل الحيرة الملازمة للكسل العلمي: هل توجد حقيقية تاريخية (حقيقة نسبية بطبيعة الحال)؟ وبناء عليه: هل توجد حقيقة واقعية/ راهنة (وأيضا، حقيقة نسبية بطبيعة الحال)؟ هل يمكن الظفر ولو بفَهْم مقارب لما وقع في التاريخ، خاصة التاريخ المُتَوّفر على سرديات إخبارية كُتِبت في الحاضنة الزمنية ذاتها التي أفرزت وقائع ذلك التاريخ. وبناء عليه؛ هل يمكن الظفر ولو بفهم مقارب لما يجري في عالمنا اليوم؛ مع كل هذا الرصد المتوافر المتواتر الذي يُخْضِعه المُفكرُ/ الباحثُ الجاد لمزيد من التحليل والتحقيق على أكثر من صعيد؟

مَن لا يفهم التاريخ أو لا يستطيع فهمه؛ فلن يفهم الحاضر، ومن يُنكر حقائقَ التاريخ؛ فهو بالضرورة مُنكر لحقائق الواقع؛ حتى وإن لم يُصرِّح بذلك، فهذا (الإنكار بالتتبع) هو حكم المنطق في مثل هذه الحال، وإلا فهو عابث أصالة وإحالة، تأصيلا وتفصيلا. وسبب ذلك أن الحقيقة التاريخية إذا كانت غير ممكنة بالمطلق، فالحقيقة الواقعية/ الراهنة غير ممكنة بالمطلق أيضا؛ لأن تَمَثّل التاريخ في وعيك ـ بالمُجْمل ـ هو من نتاج نصوص مُتضافِرة مُتعاضِدة، وليس نتاجَ مُعاينة مباشرة، كما أن فهمك للواقع الراهن ـ في الأغلبية الساحقة منه: ما تراه وتسمعه مباشرة ـ هو فَهْمُ من خلال نصوص مُتضافِرة مُتعاضدة أيضا؛ وليس نتاج معاينة مباشرة، فحتى الصُّور والتسجيلات الوثائقية هي في النهاية مجرد نصوص يجري عليها ما يجري على نصوص التاريخ، من مشاكل تتعلق بالتوثيق والتحقيق، ومن مشاكل تتعلق بالتحليل، ثم مشاكل تتعلق بإمكانية الخروج بتأويل مقارب قابل لأن يُلَمْلِم شَعثَ العلامات المتناثرة، العلامات المتناحرة في بعض الأحيان.

بل ـ وهنا المفارقة ـ ربما كانت الحقيقة التاريخية أقرب إلينا من الحقيقة الواقعية/ الراهنة، ذلك أن الحقيقة الراهنة رواية "لم تَتِمَّ فصولا" في الغالب، وأسرارها لم يُفْصَح عنها بعدُ (فحتى وقائع الحرب العالمية مثلا وإن انتهت، إلا أن ثمة أسرارا لم تكشف؛ من حيث إن كثيرا من المواضعات الراهنة المتعلقة بالسياسة الدولية مبنية على نتائجها)، وأيضا، اشتباك مصالحنا مع طرف من أطراف الراهن ـ ولو من بعيد ـ وارد في كثير من الأحيان. ما يعني أن الغموض/ الارتباك يأتي من جهتين: من جهة عدم اكتمال المشهد موضوع المُقارَبة، ومن جهة كون الفاعل في مثل هذه المقاربة أبعد ـ من حيث الأصل ـ عن التجرّد العلمي الذي يستلزم الحياد الموضوعي.

لهذا، تهُمّني وتشغلني الموضوعية في قراءة التاريخ، يهمني كيف نرى وقائعَ التاريخ، كيف نُعاينها، كيف نحللها، كيف نتعاطى مع وقائها وأشخاصها أخلاقيا/ مبدئيا؛ لا لأجل تلك الأحداث الغابرة، ولا لأجل أولئك الأشخاص الذين لم يبق منهم إلا أصداء كلمات جامدة ترمّدت على صفحات كتاب. يهمني التاريخ لا لأجل التاريخ ذاته، وإنما لأن الموضوعية في قراءة الواقع/ الراهن تهمّني، والموقف الأخلاقي/ المبادئ منها يهمني، ولا يمكن تأسيس فهم وموقف أخلاقي هنا/ في الواقع الراهن؛ مع التجرد منهما هناك/ في التاريخ.

لهذا، لا تعجب حين ترى فَهْمَ الأغلبية الساحقة من العرب/ المسلمين اليوم لواقعهم، حتى بعض الباحثين والمحللين السياسيين، مبني على مواقف مسبقة (هي مواقف عقائدية أو شبه عقائدية في الغالب)؛ لأن فهمهم لتاريخهم مبني على هذه المواقف المسبقة أو على مثيلاتها. ولا زالت أذكر أحدهم (وكان متلبسا بالثقافة؛ ولكنه تقليدي بميول سلفية/ أثرية) عندما كان يحاول إقناعي بأن إيران هي حليفة للولايات المتحدة، وأن كل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط إنما يجري بالتوافق التام بينهما، بل وأن ما بينهما أكبر من توافق، إذ هو حِلف دائم وعميق، منذ أيام الشاه، واستمر مع الخميني ومن بعده، وأما ما نراه على السطح من صور العداء فهي مجرد تمثيل وخداع.

عندما سألته عن أدلته وقرائنه التي يبني عليها هذا الحكم/ هذا التأكيد الجازم، لم يكن لديه إلا موقف/ مبدأ مسبق/ مُطلق عقائدي، وهو أن إيران عدو للإسلام (والإسلام عنده هو اختياراته المذهبية التقليدية الخاصة فقط)، والولايات المتحدة عدو للإسلام (وطبعا، العداوة هنا ـ بزعمه ـ مفروغ منها؛ لا يُجادل فيها إلا جاهل أو عميل)، وبما أنهما ـ وفق تحليلاته ـ عدوان للإسلام، فلا بد أنهما مُتَحالِفان، وبالنتيجة، فالعداوة بينهما مجرد تمثيل؛ لخداع المستهدفين، أولئك المسلمين إسلاما صحيحا: التقليديين.

طبعا، كان يمكن أن يكون رأيه وجهة نظر، أو تأويل خاص لما يجري على أرض الواقع؛ لو أنه كان يستند على وقائع، حتى لو كانت وقائع جزئية، أو حتى لو كان يُحيل على تقاطع في المصالح بين حِين وآخر... إلخ؛ ولكنه كان يُحيل على مبدأ يضعه فوق الأحداث/ الوقائع، فينفي كل الوقائع الصلبة المتكاثرة بناء على تصوّر مسبق، بناء على نتيجة متحققة عنده سلفا. وحيث هو تقليدي، ومن ثم فهو يصدر عن رؤية أحادية، رؤية ذات خط واحد، فهو لا يستطيع تصوّر التعدّد والتنوّع والتحوّل، أي تعدد العلاقات وتنوعها وتحولها وفقا للظروف، لا يستطيع حتى أن يجمع بين حقيقة أن تكون إيران عدوا له، وأن تكون الولايات المتحدة عدوا له، وأن يكونا (إيران والولايات المتحدة) ـ في الوقت نفسه ـ أعداء.

وصاحب هذه الرؤية المضطربة للواقع، هو ذاته الذي كان يدافع ـ بمغالطات منطقية ـ عن التاريخ الذي يطلق عليه مسمى "تاريخنا العظيم". ولا مشكلة في هذا؛ لولا أنه يضع نتائجه المسبقة حكما على وثائق التاريخ. ويزداد الأمر سواء عندما يقوده هذا المسلك إلى تناقضات صارخة لا يستطيع التوفيق بينها بحال. وكمثال، أذكر أنه كان يحاول تجميل التاريخ الأموي، والتقليل من تلك المذابح والعسف والقهر والتفقير المقصود الممنهج وسائر المظالم الهائلة التي انتظمت ذلك التاريخ. وهو هنا لا ينفي تلك المظالم... إلخ ولكنه يزعم أنها كانت طفيفة، وكانت في حدود "الطبيعي/ المقبول"، ولكن "الأعداء" ضخّموها بالتزييف إلى ما يتجاوز "الطبيعي"!

لكشف تناقضه؛ أحلته على سيرة عمر بن عبدالعزيز (الحاكم الأموي الاستثناء). وهنا، بدأ يكيل له المدائح، ويذكر آراء العلماء والمؤرخين فيه، وكيف أنه قام بأعمال استثنائية في رد المظالم وإصلاح السياسات الإجرامية لأسلافه الأمويين، بل وذكر كيف أنه ضحّى بحياته من أجل تمرير تلك الإصلاحات الجذرية، حيث كان يعمل على كسر شوكة الطغيان الأموي، في الوقت الذي يعرف فيه يقينا أن رجالات البيت الأموي لن يتركوه يكمل مشروعه، وسيقضون عليه بطريقة أو بأخرى، وهو ـ أي صاحبي ـ يعترف أن هذا الحاكم العادل مات مسموما على يد الأمويين (لمنحه وسام: الشهادة).

هنا، قلت له: هؤلاء الأمويون الذين قام هذه الحاكم الأموي الاستثناء (عمر بن عبد العزيز) برَدّ مظالمهم، وإصلاح سياساتهم الجائرة، أليسوا هم الأمويون الذين ترى أن مظالمهم ليست كما صورها المؤرخون، وأنها كانت محدودة: في حدود "الطبيعي"؟ إذا كانت ليست مظالم عظيمة، إذا كانت في حدود "الطبيعي" كما تقول، فكل ما قام به عمر بن عبد العزيز تافه لا قيمة له، ولا يستحق كل هذا الضجيج. إنك بين أمرين: إما أن يكون ما أزاحه عمر من ظلم ليس مجرد انحرافات سياسية عابرة، بل كان ظلما عظيما مبرمجا بسياسات حكم واسعة النطاق؛ وبالتالي يكون عمر بن عبد العزيز عظيما، وإما أن يكون ما فعله مجرد تعديلات طفيفة لانحرافات طفيفة، لا تستحق الذكر؛ وهنا يكون عمر بن عبد العزيز غير جدير بالثناء التاريخي عليه، بل يصبح مجرد أسطورة مزيّفة لمزيد من التجميل.

لا أزال أذكر حيرته واضطرابه هنا، فهو إن أثبت ما أثبته المؤرخون والمُحدّثون وأصحاب التراجم لعمر من جلائل الأعمال؛ فهو سيثب للأمويين مقابلها جلائلَ المظالم/ الفضائح، والعكس صحيح. كان عليه التضحية، إما بعمر، وإما بالأمويين. ولا مخرج له إلا بأن يزعم أن الأمويين الذين انقلب عمر على سياساتهم الجائرة/ الإجرامية أمويون من المريخ أو من زحل، وليسوا الأمويين الذين نعرفهم. حتى الاتكاء على "كذب التاريخ" لم يعد مجديا في هذه المعادلة التاريخية، إذ أن الكذب في أحد طرفيها يقتضي تحقّق الكذب في الطرف الآخر، فإذا كذب التاريخ ـ بتواتره المستفيض ـ في تشويه بني أمية بالطغيان، فلماذا لا يكذب ـ رغم تواتره المستفيض أيضا ـ في تجميل صورة عمر بالعدل والإنصاف؟!

من هنا، أستطيع التأكيد على أن التاريخ ـ بتواتره المستفيض، يستطيع تقديم الحقيقة في صورتها العامة؛ بعيدا عن التفاصيل التي يتضاءل فيها مستوى التواتر، وتقلّ فيها إمكانيات الرصد؛ وكذلك الأمر في وقائع الراهن. نعم، توجد حقيقة تاريخية بالمجمل، والتاريخ لا يظلم أحدا، كما توجد حقيقة في الواقع؛ متى ما توفّر التواتر الإخباري الذي يستحيل معه التواطؤ على الكذب، ومتى ما توافرت الآليات التحقيقية/ التحليلية للخروج منه بتصور كُلِّي عام.

إن التاريخ المتواتر الذي لم يظلم عبد الملك بن مروان حين وصفه بالظلم والطغيان، هو ذاته التاريخ المتواتر الذي لم يظلم عمر بن عبد العزيز حين وصفه بالعدل والإحسان. والتاريخ الذي وصف هارون الرشيد بالترف والبذخ وتبديد المال العالم حد البله، ووصف الأمين بالعهر والمجون والشذوذ، ووصف المتوكل بالتفاهة والسذاجة والعجز، هو ذاته التاريخ الذي وصف المأمون بالعلم والعقل والدهاء، كما وصف من قبله المنصور بالبعد التام عن اللهو والترف، بل وبالتقشف وترشيد المصاريف حتى اشتهر ـ جرّاء ذلك ـ بالبخل؛ مع عدم إغفالهم أنه في تعامله مع المختلفين معه يتّصف بالإجرام.

ثمة صورة كلية/ عامة لكل شخصية من شخصيات التاريخ. وهي صورة مأخوذة ـ بمجملها، لا بتفاصيلها ـ من آلاف الروايات المتعددة المصادر. فمثلا، يروي الإمام الطبري في تاريخه أنه "لم يُرَ في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث"، ومعروف أن المنصور كان يرفض أن تُشرب الخمر على مائدته. وهذا المنصور هو ذاته المنصور الذي فتك بخصومه، وقتلهم شرّ قتلة، بل قتل المخالفين له على مجرد الظن

وهنا نقول: إذا كان من المعلوم من التاريخ بالضرورة أن أعداء الدولة العباسية يكرهون المنصور (المؤسس الحقيقي للدولة) كما لم يكرهوا أي خليفة آخر؛ فلماذا لم يضعوا عليه ولو قصة واحدة تشير إلى مجونه، أو حتى تشير إلى ترفه المفرط؛ كما هو الحال مع الرشيد؟! وأيضا، لماذا لم يستطع أعداء الدولة الأموية أن يضعوا بعض قصص الظلم على عمر بن عبد العزيز؛ ليسقطوا رمزيّته العدلية؟!

السبب في كل هذا واضح، وهو أنهم لا يستطيعون تزييف التاريخ بالمجمل حتى لو أرادوا؛ لأن التاريخ ـ بمجمله ـ لا يكذب. لذلك، حتى الشخصيات التاريخية المشهورة بالظلم والطغيان، نجدها تختلف في درجة ظلمها وطغيانها، والشخصيات الماجنة تختلف في درجة مجونها، فظلم سليمان بن عبد الملك يختلف عن ظلم عبد الملك، ولَهْو الرشيد وعبثه يختلف عن مجون ابنه الأمين، والمأمون يختلف عن أخيه الأمين. في التاريخ صورة عامة ـ مكتملة لكل واحد منهم. وهذا دليل على وجود الحقيقة التاريخية التي يحاول العقائدي التقليدي إثباتها عندما يريد الإثبات، ونفيها عندما يريد النفي؛ دون الإحالة على علم التاريخ

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث