مع سقوط الخلافة العثمانية ووصول الاستعمارات الأوروبية الجديدة وجد الإنسان المشرقي والشمال أفريقي نفسه في حيرة مدوخة
أمين الزاوي:
شيئاً فشيئاً، كانت البلدان العربية وبلدان شمال أفريقيا، منتصف القرن الـ19، تستيقظ من نوم "عثماني" طويل ومخدر، تصحو على أنين الرجل المريض وانهيار سدة الباب العالي، ومعه نهاية حلم الخلافة الإسلامية، من جهة، وعلى دقات طبول الاستعمارات الأوروبية الزاحفة مدعمة بدويّ المدافع وحضارة البارود، من جهة أخرى. ففي شمال أفريقيا، بدأ غزو الجزائر من قبل الجيوش الفرنسية عام 1830، وفي المقابل زحف الإنجليز على المشرق لتتوسّع رقعة الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عنها، تلك كانت أول صدمة وعي تاريخية، شقاء التاريخ.
مع سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية ووصول الاستعمارات الأوروبية الجديدة، وجد الإنسان العربي والشمال أفريقي نفسه في حيرة مدوّخة، حيرة أسئلة النهضة. ولعل أول سؤال استراتيجي راود الفرد والمجموعة على حد سواء وهما يتفرجان على سقوط الخلافة الإسلامية وصعود الغرب الرأسمالي والعسكري القوي هو: لماذا أنا متخلف وهناك آخر على هذه الكرة الأرضية يعيش التقدم؟ لماذا أنا ضعيف وآخر يتميز بالقوة؟ لماذا أنا جائع وآخر يأكل حتى التخمة؟ لماذا أنا مريض وهذه الأوبئة تحصد الآلاف من مواطني هذه المنطقة وآخر بصحة جيدة وله إمكانات طبية تحميه؟ سؤال الأنا والآخر.
أمام هذا المشهد الانقلابي، مشهد النهاية والبداية، بدأت معركة النهضة.
كانت النهضة العربية تتأسس على ومن داخل محنة الاستعمار الأوروبي الذي هو درس تاريخي كبير، جرح ودرس، شقاء وانبعاث، بعد استعمار عثماني قائم على الخراج والضرائب والسبي والذي دام أربعة قرون لم يخرج منها المواطن ولا الوطن بأي إضافة جديدة في الحياة، سوى لبس القبعة الحمراء وأكل حلويات البقلاوة وركاكة اللغة الأدبية وبعض قصور الخلفاء وظلالهم وحريمهم.
لقد تأسس سؤال النهضة العربية أساساً حين غيّر المواطن وجهة انتباه عقله، وبالأساس النخب السياسية والثقافية والإبداعية والتقنية. فبعد أن كان النظر موجهاً نحو المشرق، نحو الشرق، أرض الأنبياء والخلفاء والتابعين وتابعي التابعين، بحثاً عن مخرج أو منقذ سماوي ديني، عن حلم الجنة الإلهية، تغيّر اتجاه الرؤية إلى جهة الغرب، في اتجاه جغرافيا "البارود" و"السكة الحديدية" و"الكهرباء"، تجاه الغرب العسكري والتقني الذي تأسس على أفكار "التنويريين" في الفلسفة والأدب والفن والعمارة، غرب بتنظيم معاصر للديموغرافيا في الفضاء العام والخاص، فكان أن شرع المواطن والمجموعة العربية الخارجة من تجربة استعمار عثماني لتدخل تجربة استعمار غربي أوروبي، في مساءلة محيطه البعيد سؤال "التخلف والتقدم" الذي بدأ يحفر في "العقل الناهض".
وهو يواجه الاستعمار الأوروبي الحديث، بدأت بوادر جرأة النخب العربية في قطع العلاقة مع وهم "الخلافة الإسلامية" لتواجه حلماً آخر هو حلم "الوطن" المحرر المعاصر بحدود جديدة ومفاهيم جديدة، وتشكلت نخبة انقلابية في الدين والأدب والسينما والموسيقى، فظهرت الرواية كجنس أدبي جديد معبّر عن المدينة الصاعدة، مسجلة تغييراً جذرياً في السردية الأدبية التي ما هي إلا صورة لانقلاب في السردية التاريخية، وانتفضت القصيدة على صاحب الموازين والبحور الخليل ابن أحمد الفراهيدي وظهرت السينما وفتحت دور عروض خاصة لها واجتمع حولها جمهور يبحث عن الحرية والتحرر كما تجسدها على الشاشة الكبيرة ممثلات وممثلون تحوّلوا إلى أيقونات، وتكرّس المسرح وبدأت قاعات العرض تعرف جمهوراً يشاهد فرجة جديدة فيها الإلياذة وموليير وشكسبير وراسيين وغيرهم، متقاطعة مع سيف بن ذي يزن وعنترة وألف ليلة وليلة. وتحوّل المواطن إلى رأسمال مساهم في تشجيع التغيير المنشود الذي تبحث عنه النخب التي عيونها على الغرب التقني والعسكري، وتغيرت الموسيقى ومعها تغيّر شكل الحفل الذي لم يعُد حفلاً خاصاً بالخليفة وصحبه الملاح ولكن أضحى حفل الجمهور في قاعة عمومية. وتشكلت نخب سياسية جديدة تحت راية أحزاب سياسية بأسماء ترمز إلى القفزة الذهنية النوعية، جاءت الأحزاب من حيث الفلسفة والتنظيم تقليداً غربياً عوض تنظيم القبيلة والعرش، وخلخلت التراتبية العميقة في المجتمع، وبدأت النخب السياسية والثقافية محاولتها في تخطي سلطة "القبيلة والعرش" كتنظيمين اجتماعيين تقليديين ما فتئا يتعرّضان للتفكك تحت ضربات الإنتاج الأدبي والفني والعمل السياسي والهجرة، تفكك ظل يحدث بصعوبة كبيرة وبألم، وببطء شديد.
وأخذت فلسفة الوطنية التي نقلتها النخب من الغرب تثمر في المدينة والحي والثكنة والجامعة والمدارس شيئاً فشيئاً، واهتز مفهوم المدينة من حيث العمران البشري، واهتز مفهوم الجغرافيا بحيث تشكلت الحدود الوطنية، وكان الحزب كتنظيم سياسي غربي تعبيراً عن ملامح نهضة سياسية جديدة. نذكّر هنا بتجربتَي حزب نجم شمال أفريقيا في شمال أفريقيا وحزب الوفد في الشرق. وبقدر ما كانت النخب الليبرالية واليسارية تتأمل القوي الأوروبي الذي يستعمرها، كانت تمارس قراءة جديدة لتاريخها من خلال فعل تقليد الآخر أو فعل الغضب ضد الذات ونقدها والبحث عن تجاوز أعطابها.
تأسست النهضة في بحث عن لحظة قطيعة مع الماضي المريض عثمانياً وعن لحظة ارتهان لمستقبل تريده جديداً، وأمام هذا تغيّر اتجاه نظر النخب صاحبة القرار أو تلك التي تدور في فلكها، من النظر إلى "السماء" كمنقذ إلى نظرة نحو "الأرض"، التي تنتج الغلة والتجربة والمصير.
وبدأت النخب الجديدة وهي تمتحن الاستعمار الأوروبي في شكليه الاستيطان أو الحماية، البحث عن الجنة في الأرض بدلاً من الجنة السماوية التي تحدّث عنها الاستعمار العثماني التركي لقرون ولم تفتح أبوابها.
وبدأت النخب بحوار جديد مع التاريخ، حوار يتشكل في مرآة علاقة ثنائية، بحيث لم تعُد تقرأ تاريخها منفصلاً عن تاريخ الإنسانية، وأن التاريخ لا يرى على حقيقته النسبية إلا إذا شوهد في مرآة الآخر، إذ لا توجد "أنا" من دون "آخر" ولا يوجد "آخر" من دون "أنا". وفي هذه المرآة بدأت "الأنا" تنتقل إلى منافس لـ"الأخر" ولو بتقليده وإعادة إنتاجه في ترتيب السياسة والمدينة والفنون والدين أيضاً.
الصحوة الإسلامية تغتال حلم النهضة
تُعتبر الصحوة الإسلامية الحضن الدافئ والحصن المتين للإسلام السياسي، جاءت لتعيد النخب العربية إلى المربع الأول، لتعيد الأسئلة المشتعلة إلى الكمون، تلك الأسئلة التي ظلت تناوش التاريخ وتعيد ترتيب علاقة المجتمع والفرد بالماضي وبالآخر وبالذات أيضاً.
مرة أخرى، أعادت الصحوة الإسلامية سؤال الوجود إلى السماء، علّقته بالقدر، والذي كانت قد نقلته النهضة العربية إلى الأرض، ومرة أخرى أرسلت الصحوة الإسلامية "العقل" العربي في رحلة غرق جديدة يقطع فيها مرة أخرى أوحال "الماضي"، مستعيداً بكثير من الافتخار والزهو تفاصيل الخلافات والاختلافات الفقهية حول الوضوء ولباس المرأة وشعرها. ومع الصحوة الإسلامية، بدأ البحث عن نموذج اجتماعي وسياسي وأخلاقي يُحتفى به في السلف الغابر بدلاً من البحث عنه في التاريخ وفي الواقع.
وبكثير من الحماسة، مستفيدة من الوسائل التقنية والتكنولوجيا في الاتصال، أعادت نخب الصحوة الإسلامية المجد إلى البلاغة الشعبوية في حديثها وتقديمها للعلم والأخلاق وقراءة التاريخ، وبقدرة قادر، حوّلت الهزائم إلى انتصارات والفقر والمرض إلى لعنة سماوية أو غضب رباني.
وجعلت الصحوة الإسلامية من قضية المرأة سجلاً تجارياً من درجة الامتياز السياسي الشعبوي، فأصبح سبب تخلّفنا هو تبرج المرأة والسروال الذي ترتديه أو التنورة القصيرة وشعرها المكشوف.
جاءت الصحوة الإسلامية لتعيد ترتيب علاقتنا مع الغرب بشكل عدائي، وكأن الغرب كيان واحد منسجم، وأصبحت أخلاق هذا الغرب الزاحف هي سبب تخلّفنا، وأن هذا الغرب هو عقاب لنا من السماء لأننا انفصلنا عن السلف، والسلف في رأيهم هم ابن تيمية وما شاكله، بالتالي رفعت المسؤولية عن الذات.
وإذا كانت النهضة بحثت عن الغرب بالذهاب إليه والاجتهاد في تقليده سعياً للخروج من دائرة التخلف في الإدارة وشؤون المدينة وتكريس المواطنة والديمقراطية والمنافسة الاقتصادية وحرية التعبير وحرية الرأي والمساواة بين الرجل والمرأة، فإن الصحوة الإسلامية في المقابل عملت على تثمير خطاب شعبوي يلغي الغرب، وقد طالبت الصحوة بتحويل الغرب إلى شرق، أن تنقل الشرق إلى الغرب، وتحاول أن تؤسس لأخلاق الصحوة الإسلامية التي تستمدها من القرون الوسطى في غرب يعيش عصر ما بعد الذرّة والحمض النووي.
واشتغلت الصحوة الإسلامية على اغتيال النهضة سياسياً بالدعوة إلى العودة إلى وهم "الخلافة" الإسلامية، مستفيدة من تشكّل ديكتاتوريات وطنية بمسميات مختلفة: قومية أو اشتراكية أو وحدوية أو وطنية. ومن هذا المنظور، أصبحت الصحوة الإسلامية تدافع عن تجربة الاستعمار العثماني وتجربة الخلافة العثمانية وتعتبرهما نموذجين يحتذى به. وانطلاقاً من تمجيد السلف، اعتبرت الصحوة الإسلامية السياسية الديمقراطية كفراً والمساواة بين الرجل والمرأة ضرباً للعقيدة، ومن هنا انتعشت ظاهرة التكفير واختفى الاجتهاد والتفكير.
لقد هزمت الصحوة الإسلامية النهضة العربية على المستوى الفكري والأيديولوجي وهكذا وجدت القوى المسيحية العربية التي كانت مركز التنوير في النهضة مبعدة ومشيطنة، معرّضة لمحنة الهجرة والتهجير والتصفية. من هنا، انتصر سيد قطب ومحمد الغزالي على علي عبد الرازق وطه حسين ونجيب محفوظ، وانتصر البوطي على صادق جلال العظم وطيب تيزيني وأدونيس، وانتصر ابن باديس على كاتب ياسين ومحمد أركون والطاهر وطار وأحلام مستغانمي، وانتصر تيار سعد الدين العثماني على عبدالله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد بنيس ومحمد الأشعري وحسن النجمي، وانتصر الغنوشي وصحبه على الطاهر الحداد وهشام جعيط ويوسف الصديق وعبد الوهاب بوحديبة وشكري المبخوت وفتحي التريكي ومحمد محجوب... وبدأ الانهيار الكبير، ولكن يبدو أن أيام الصحوة قد دخلت في منطقة الضباب على المستوى المحلي والعالمي.