محمد المحمود:
يتحول "الدين"، أيّ دين، من منظومة نصوص مُؤَسِّسة مُتَعالية إلى "واقعة اجتماعية"، واقعة تتعالق مع الواقع بكل تعقيداته/ بكل مكوناته؛ بقدر ما تستلهم النصوص الأولى في مستويات هذا التعالق الجدلي. يتعالى الدين كمفاهيم تصوّرية؛ بينما يتماهى مع الواقع الذي يتموضع فيه، إذ أن الدين لا يصبح دينا مشهودا إلا ببشر يتمثّلونه، وبزمان يحتويه، وبمكان يكون منصّة انطلاقته الأولى، ثم بأمكنة وأزمنة تكون منصّات داعمة لانطلاقاته الثانوية التي سيتحول من خلالها هذا الدين الواحد إلى "ديانات" متعددة، أو ما أصبح يطلق عليه اصطلاحا: طوائف، مذاهب.
عندما يتحوّل الدين إلى "واقعة اجتماعية" يكفّ عن كونه دينا خالصا (هذا إذا أمكن أن يكون ثمة دين خالص على الأرض)، ويصبح ابن مجتمع ما، مشدودا إلى الهويات والظروف والتطلعات البشرية للمؤمنين به. أي يصبح الدينُ بشريَّ الحضورِ حقيقة/ واقعا؛ بقدر ما هو إلهي المصدر تصوّرا. وبما أن الدين يستحيل أن يتجلى في الواقع إلا من خلال البشر أقوالا وأفعالا، فإنه ـ إذ يتجلى حقيقة في الواقع/ الدين المشهود ـ دينٌ بشريٌّ، يقول به بشر، ويتأوّله بشر، ويتمثّله بشر، ويُمَوْضِعُه في الواقع بشر. والبشر في كل هذا ـ بوعي أو بلا وعي/ بقصد أو بلا قصد ـ لا يَخْضَعون للدين (الدين في عليائه كمُتَصوّر ذهني مفترض)، بل يُخضِعون الدين لما يرونه الأمثل للحياة المثلى التي يطمحون إليها، وهي الحياة المُتخيّلة التي أسهم الواقع/ واقعهم الخاص ـ بشكل حاسم ـ في رسم حدود مدارها القِيَمي.
كل هذا يعني أن الدين (الدين البشري، ومذاهبه كأديان فرعية) ـ في مسار حضوره التاريخي ـ يُغَيِّر ويَتَغيّر، يمنح ويمنع، يرفع أقدارا ويضع أقدارا أخرى، وبالتالي؛ يُصبح مُقدّسَ أصحابه الذين انتفعوا به، بقدر ما يكون مُدنسَ أعدائه الذين تضرروا به في سياق التدافع. وفي هذا المسار، يتضاءل حضور "المتعالي الإلهي" لصالح "الواقعي البشري". وهذا التضاؤل لا يحدث صراحة، أي لا يقول به جملة الفاعلين في هذا المسار، بل على العكس، يكون "حديث الصراحة" محاولة أيديولوجية للتغطية على ما يحدث حقيقة، فيجري التأكيد على تعالي/ قدسيّة الخطاب الديني، (بالدرجة نفسها، ولكن في الاتجاه المعاكس)؛ للتأكيد العملي على قدسية الواقع الذي بات ينتهك قدسية المتعالي بتوظيفه في معترك الصراع الدنيوي.
يشعر العرب شعورا قويا ـ وهذه حقيقة ـ أنهم أصبحوا "أمة" بفضل الإسلام. قبل الإسلام كان الانتماء القبلي في دنيا العرب هو الانتماء الحاسم. في المناوشات التي جربت على الحدود السائلة/ المتموّجة (كما في الانتصار الجزئي الهامشي في "ذي قار") كان الصراع قبليا. حتى هذا النصر الجزئي/ الهامشي، لم يتصوّر أصحابه نصرا عربيا على الفرس، بقدر ما تصوروه نصرا قبليا / بَكْرِيا على الفرس. وجرّاء ذلك، لم يكن تحالف المناذرة أو الغساسنة ـ كقبائل ـ مع الروم أو الفرس ضد قبائل العرب المجاورة لهم يدخل ـ عُرْفا ـ في خانة: الخيانة القومية، بل كان ـ بفضل قوة الانتماء القبلي ـ مجرد قبيلة تتحالف مع آخرين ضد قبائل أخرى. وعلى الحدود الفاصلة (التي لم تكن فاصلة!) بين القبائل المتاخمة للأمم الأخرى/ غير العربية، كانت مسيرة العلاقات تخضع للمصالح الآنية المباشرة/ الظرفية، بعيدا عن أي اعتبار قومي متوهّم.
التحوّل الهائل الذي حدث في حياة العرب بفضل الإسلام، جعل الإسلام يتحوّل ـ في عالم اللاّوعي، وأحيانا في عالم الوعي أيضا ـ إلى ما هو أكثر من دين، أو ـ على نحو أدق ـ إلى ما هو أقل من دين. بفضل الفرق الحياتي/ المعيشي المهول في حياة العرب بين حياة ما قبل الإسلام وحياة ما بعده؛ تحوّل الإسلام إلى مفخرة قومية، أو إلى مَعْقِد المفاخر التي يجري التأكيد عليها باستمرار، ليس ـ دائما ـ بإظهار الهوية العروبية صراحة، بل ـ غالبا ـ بالتأكيد الصريح على "مفاخر الإسلام"؛ على اعتبار أنها تُحْسَب، أو ستُحْسب ـ ضمنيا ـ لصالح العرب الذين استعمروا ثلث العالم القديم باسم الإسلام.
الإسلام تأسّس في التاريخ كديانة عالمية عبر الوسيط العربي الذي كان هو ـ في الوقت نفسه ـ المتلقي الأول/ المؤمن الأول بهذا الدين. وبهذا كان على عكس المسيحية التي كان من حظها أنها لم تتأسس، ولم تتمأسس، ولم تنتشر كديانة عالمية عبر أتباعها الأوائل، أي لم تحضر كديانة عالمية على يد أتباع المسيح/ من قوم المسيح، بل تأسست وتمأسست وانتشرت بواسطة أمة أخرى مغايرة (وهذا ما فصل نسبيا الديني عن القومي)، بل كانت هذه الأمة/ الدولة الرومانية في البدايات دولةً/ أمةً مُعادية لهذه الديانة التي ستأخذ على عاتقها لاحقا نشرها والذود عنها وتحويلها من مجرد ديانة إلى هوية الهويات.
لهذا، ارتسم الدين الإسلامي في التاريخ/ في وعي المتلقي الأممي كدين عربي (حيث بدأ عربيا، وتأسس عربيا، وانتشر ـ في الفضاء العالمي ـ عربيا)، أكثر بكثير مما ارتسمت الديانة المسيحية كدين فلسطيني أو شامي أو حتى شرق متوسطي أو شرق أوسطي.
بعد الاحتلال العربي لكثير من بلدان العالم القديم باسم الإسلام، كان الشعور السائد لدى أبناء هذه البلدان أن المُحْتَل/ الغازي ليس "ديانة" بقدر ما هو "عِرق"؛ حتى وإن كانت لغة الخطاب في صريح منطوقها لا تتوسل غير الإسلام. فعلى أرض الواقع، كانت الشعوب الواقعة تحت الاحتلال العربي تشعر شعورا عميقا (مدعوما بوقائع السلوكي اليومي، الرسمي والشعبي) أن الإسلام كدين لم يكن أكثر من غطاء أيديولوجي للاحتلال الذي نقلهم من شعوب كانت تتمتع بالحرية الكاملة إلى مجرد مواطنين من الدرجة العاشرة، مواطنين موصومين على الدوام ـ رسميا وشعبيا ـ بصفة: "الموالي"، وهي الصفة التي تعني ـ في أقلّ درجتها إزراءً ـ: سيادة العربي الغازي المحتل على صاحب الأرض الواقع تحت نير الاحتلال.
هنا يبدو أن أكبر إساءة للإسلام أتت من أولئك المتشدقين بفضل الإسلام. أكبر إساءة للإسلام إنما كانت من أولئك العرب/ بعض العرب الذين استخدموه كرافعة للحضور القومي العربي الذي لم يكن له وجود معتبر قبل الإسلام. وبهذا، وعلى يد هؤلاء الأغبياء تحديدا، بدأ يتحوّل الإسلام ـ على نحو صريح ـ إلى مجرد "أداة" للاشتغال الدنيوي المباشر. أخذ الإسلام يتحوّل إلى مجرد خطاب تبرير: لتأسيس المجد القومي العربي (هذا في أفضل الأحوال!)، ولاستغلال بقية البشر في أنفسهم وأموالهم (وهذا في أسوأ الأحوال)؛ كتفريع على المجد العربي المزعوم.
كثيرا ما يذكر الجاحظ ـ في معرض ردّه على الشعوبية ـ أن الشعوبية التي تأخذ صورة كراهية العرب سرعان ما تنتهي بالزندقة/ الإلحاد، وأن هذا يبدأ بكراهية العرب، ثم يصل إلى كراهية الدين الذي جاء به العربُ، أو جاءَ بالعربِ. وكلام الجاحظ في مجمله صحيح؛ مع اختلافنا معه في بعض مفاصل التعليل. وفي المجمل فإن أبناء تلك الشعوب التي احتلها العرب (واسترقّوا أهلها، ثم عرضوا عليهم الإسلام كدين، ممزوجا بالإسلام كوسيلة للترقي الاجتماعي، أي كوسيلة للانعتاق ـ جزئيا ـ من وضعية "الموالي" المزرية) بدأوا ـ تدريجيا ـ يكتشفون ما هو خلف الخطاب المعلن، أي يكتشفون أن التأكيد على عالمية الإسلام، وعلى مبادئه السامية ـ ومنها مبدأ المساواة ـ إنسانيا، يلتف عليها خطابٌ آخر، أقوى وأشد حضورا في مفاصل اليومي من الخطاب الأول، وهو خطاب/ الخطاب الثاني يؤكد على أن "الإسلام" مجدٌ قوميٌ عربيٌ خاص، وأنه اصطفاء إلهي لـ"شعب مختار" أراد له الله أن يُبَلّغ هذا الدين، وثَمَّ؛ أن يسود به الأمم. وطبعا، لا يوجد إنسان يمتلك الحد الأدنى من الكرامة سيؤمن بدين يعده أصحابه مفخرة خاصة بهم. وهذا ما لم يتنبّه له الجاحظ، أو تنبّه له، ولكنه في سياق الرد السجالي المعتدّ بالعرب اختار أن يجعل ـ ضمنيا ـ من لوازم الإيمان بفضل/ تفوّق الإسلام: الإيمان بفضل/ تفوّق العرب.
نعم، هذه الفرضية السجالية (= من لوازم الإيمان بفضل/ تفوّق الإسلام: الإيمان بفضل/ تفوّق العرب) التي تظهر أحيانا بصراحة، بل وبوقاحة؛ عند "مُعرّبي الإسلام"، وتظهر أحيانا تضمينا وتلميحا؛ عند "مؤسلمي العروبة"، هي فرضية سادت في القديم، ولا يزال حضورها يتمدّد في واقعنا اليوم. وعندما صرّح ابن تيمية في كتابه (اقتضاء السراط المستقيم) ـ وبعنصرية فاقعة الألوان ـ أن "الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم" لم يكن يتحدث بلسانه كشيخ سلفي ضيق الأفق، وبالتالي: كعنصري، وإنما كان يتحدث بلسان الأغلبية الساحقة من التقليديين ذوي الانتماء العروبي، سواء أولئك الذين سبقوه، أو أولئك الذين سيقلدونه لاحقا. وتأكيده العنصري هذا، ستجده رائجا في كثير من سجالات العروبيين اليوم، خاصة العروبيين الخارجين ـ بشكل أو بآخر ـ من رحم السلفية الدينية المعاصرة في تمظهرها الصحوي/ الإسلام السياسي.
إن تحوّل الإسلام، كدين، كمسار حضاري، إلى محض: منجز عربي، هو ما يفسر ظاهرة الاعتداد/ التفاخر بالدين الإسلام حتى عند أولئك الذين ينتهكون ـ سرا وعلانية ـ أهم مبادئ الإسلام، بل حتى عند أولئك الذين يتحللون من أقدس فرائض الإسلام. وهذا ليس غريبا عند من يتخذ الإسلام ـ في مستوى حضوره التاريخي الباذخ ـ مجرد قصيدة فخر نقائضية، لامتداح الذات صراحة، ولهجاء الآخر ضمنا، أو يتخذه رافعة أيديولوجية صريحة للتعبير عن مطامع ومطامح قومية حاضرة، أو لمناكفة عدوان متوهم مصدره الآخر: كل الآخرين المصنفين قديما في خانة: العجم، والمعادين ـ بحكم ضرورة الانتماء العرقي المغاير ـ لكل العرب.
أخيرا، يجب التأكيد على أن "الإسلام الإنساني" الذي يتسع باتساع الإنسانية جمعاء، يختلف جذريا عن "الإسلام العروبي" الذي يضيق بضيق مُحدِّدات العنصرية الحمقاء. الإسلام الإنساني إلهي يتعالى مصدرا ليعم بمبادئه جميع بني الإنسان، وليكون ـ كمنظومة قيم ـ لصالح الإنسان بالمطلق. بينما "الإسلام العروبي" أرضي المنشأ، يتعرّق (من العرقية)، ويتأرْضَن (في حدود الأرض/ الجغرافيا)، لينحصر في حدود مجد قومي/ ذاتي/ خاص، يجري توظيفه، أو محاولة توظيفه؛ ليحقق ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ مصالح مادية أو معنوية، أو كليهما، لفئة خاصة من البشر، تدّعي كذبا وزورا (لمجرد كون ضرورة الجغرافيا جعلتها: المتلقي الأول) أن الله اصطفاها على العالمين!